مقالات

من أنقرة تُطلق النيران على المنطقة

إذا ما كرر التاريخ نفسه للمرة الأولى فإنه يكون بالمهزلة، ويكون بالكارثة فيما لو كرر نفسه للمرة الثانية؛ يقولها ماركس. أما التاريخ عند أوجلان منوط بالدور الذي يقوم به وأنه؛ أي التاريخ يؤدي دوراً تراكمياً إذا ما تم النظر إليه من الجانب المجتمعي.

إن دافع الماضوية هو السبب في اجتماع الثلاثي (تركيا، إيران، وروسيا) الذي يعقد في أنقرة يوم غد. تركيا تتحرك من أجل استجلاب الماضوية السنية وإعادة الامبراطورية العثمانية. وإيران تتحرك أيضاً من أجل استجلاب الماضوية الشيعية وإعادة امبراطورية الصفويين، أما روسيا فإنه وبالرغم من ملفات الغاز والاقتصاد التي تسكن أجنداتها ولم تفارقها؛ إلا أن رئيسها اليوم فيحكمه ماض ممزوج من خليط  نصفه سوفييتي ونصفه الآخر قيصري؛ سلافية شيوعية. وهكذا الأمر بالنسبة للماضويتين الأخريين نصف قومي ونصف ديني. وكلها مجتمعة؛ وكل التغييرات التي تحدث في المنطقة أو التي تقبل عليها المنطقة تجري في سياق مسألتين: التحكم في مصادر السيولة الدولية، وكل شيء من خارج الصندوق. أما مقولة بأن الثلاثي يهدف إلى إيجاد حل للأزمة السورية وعدم النيل من السيادة السورية أو الحفاظ على الوحدة السورية فلا تحتاج إلى عناء بأنها التضليل بعينه. لا اتفاق مُحْكَم  بين الثلاثي؛ فمن الطبيعي أن لا يكون الاتفاق نصيب المتنافسين على الساحة نفسها؛ هؤلاء الثلاثي هم بالأساس متنافسين بتناقضات تاريخية ويحلم كل منهم من زاويته الخاصة جداً بماضويته. فأين سيكون محل الاتفاق على طاولة الثلاثي من يوم غد؟ ربما الأنسب في الاعتقاد بأن ما يقوم به الثلاثي في أنقرة نقل الأزمة من مكان إلى أمكنة أخرى، وربما من المرجح أن نقول بأنه سيكون أمام الثلاثي مهمة شاقة هي إعادة انتاج التحالف الذي يجمعهم مرة أخرى؛ وفيما لو حصل ذلك فإنه يكون بالأكثر هشاشة. والسعي الذي تقوم به موسكو فقط لإبقاء هذا التحالف مستمراً لأقصى درجة ممكنة. لكن هذا التحالف بحد ذاته يعد عامل الاستقطاب لجرّ المزيد من الدول إلى حلبة الصراع السورية. فإلى جانب أمريكا التي أعلنت عن استراتيجية البقاء وآخرها من توسيع قاعدتها في منبج والذي لا يتناغم كثيراً مع خطاب ترامب يوم الخميس الماضي عن عزمه في الانسحاب. ربما يصلح أن يكون خطابه حديث المال وجلبه مرة أخرى من خارج أمريكا إلى الصندوق الأمريكي. الفرنسي بات موجوداً في سوريا ويرجح أن تكون بريطانيا أيضاً؛ وبدعم ألماني منقطع النظير. فالاتحاد الأوربي غير مستعد هذه المرة أن يجد العثماني على أبواب جنيف؛ يمتلك هذا الاتحاد الوسائل الكفيلة لعدم تكرار التاريخ نفسه في هيئة المهزلة. العثماني الذي يرفع العلم التركي على عفرين ويتحدث عن وحدة سوريا. العثماني الذي يلحق عفرين بشكل إداري إلى لواء اسكندرون المحتل أساساً من قبل التركي يفشل في ذلك ولن ينفعه رهط الخيانة المسمى بمجلس عفرين المدني كرداً كانوا أمْ عرباً أو تركماناً. والرفض في ذلك يأتي هذه المرة من قبل القوة الذاتية التي نظرت إلى التاريخ من الجانب المجتمعي فيؤدون اليوم أدواراً تاريخية من خلال مشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا. المسألة لا تكمن هنا في إبقاء البقاءات الخارجية بخاصة إذا ما أدركنا بأنها الموجودة أساساً؛ المتنفذة أساساً حتى قبل 2011 في كل شيء وفي كل واردة وشاردة. المسألة تكمن بأن سوريا تشهد حرباً عالمية ثالثة وفق نمطيات الجيل الرابع من الحروب والثورات التقنية الحاصلة. وهذه الحرب فرضت على سوريا؛ لا بل فرضت على المنطقة برمتها. وأن كل جهة خارج التحالف الثلاثي المجتمع يوم غد في أنقرة؛ إنْ كان عربياً أو غربياً فإنهم يجدون في المشروع الديمقراطي ذو الصبغة الكردية إلى درجة ما بأنه العلماني والديمقراطي ومن خلاله تُصاغ الحلول ويقطع في الوقت نفسه على المشاريع الماضوية.  فقط من خلال تمكينه ضمن إطار العلاقات الدولية في الأسرة العالمية. وبالرجوع خطوة واحدة إلى الخلف نفهم بشكل أدق لماذا تم اقصاء تركيا من أهم معركتين ضد الإرهاب في الألفية الثالثة؛ معركة تحرير الموصل ومعركة تحرير الرقة. فمشاركة تركيا في كليهما أو أحدهما على الأقل يعني بأنه من الضرورة صك القبول على أن تتمدد تركيا إلى ما أبعد من تركيا. يأتي ذلك على أنه قرار دولي وأن تبقى تركيا في محلها حتى يحين وقت التغيير في تركيا كدولة مارقة. لأن الأزمة حينما تتحرك فإنها تنتقل؛ والشرق الأوسط بالأساس كتلة واحدة لم تستطع التقسيمات والحدود أن تعطي لها صفة أخرى وأنها كتل متناقضة؛ فالحدود التي فرضت ولمدة قرن كامل لم تصنع الهوية؛ هوية المحدودين ضمن الحدود المرسومة. يضاف إلى ذلك بأن تركيا وجه رسمي لداعش. أو هي داعش في هيئة دولة. احتلت داعش الموصل والرقة فيما مضى ورفعت علمها، وتركيا اليوم ترفع علمها على عفرين وجرابلس والباب واعزاز. داعش التي انتهت، تركيا تنتهي بداية في هذه المناطق التي قامت باحتلالها. ولأن أردوغان لا يرى العالم أبداً، وإنْ رآها فمن خلال العدسات العثمانية فقط. يجب عليه أن لا يغريه اتفاقية الطاقة النووية وروسيا. رومانيا نيقولاي تشاوسيسكو –مثالاً من مئات الأمثلة في العالم- كان قد وقع العديد من الصفقات، وصفق له البرلمان نصف ساعة متواصلة قبل الأسبوع الذي تم فيه اعدامه وعائلته. فلا طاغية يبقى طالما هذه الكرة تدور والتاريخ يتحرك.

 قمة أنقرة انتهت قبل أن تبدأ؛ لكن أين هي قمتنا؟   

مصافحة الأيدي وحتى تشابكها لم تعبِّر دائماً -مذْ العمل بها إنسانياً بالشكل المعروف عنها- بأنها إشارة الاتفاق أو التوافق أو حتى الانجاز ما بين الجهات المتصافحة. شهدت البشرية مثالاً في قمة يالطا بعيد الحرب العالمية الثانية وبما أنهتها من صورة مشابهة لصورة الأيادي المتشابكة في (قمة) أنقرة قبل يومين. لقد شهدت هذه البشرية حرباً باردة مريعة حدثت واستقطاباً نشأ ما بين طرفين منها متمثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. ظلّ مستمراً ولم يتوقف كثيراً حينما سقط السوفييت. على الرغم من الفرق الهائل ما بين القمتين؛ سوى أن الثابت في الصورتين ومن تشبهها بأن المتنافسين لا يتفقون أساساً؛ إمّا يلتصقون أو يتواجهون. وثلاثي أنقرة من سوريا يتلاصقون حتى هذه اللحظة ونصيبهم المواجهة الحتمية فيما بعد.

أطرح قمة الالتصاق من أنقرة نتحاً أشبه بالارتشاح سميّ بالبيان الختامي. من شأن قمم الالتصاق أن تنتج بيانين على الأقل؛ واحداً للرأي العام وآخر لا يطِّلع عليه إلّا الدائرة الضيقة لكل طرف على حدا. أما الذي صدر للرأي العام فأقلَّه قولاً قدْ بيّن المزيد من التناقضات فيما بينها على حدا وكل واحدة مع الأخريين على جانب آخر. وفيما لو أدركنا بأن ثلاث خطوط عريضة كانت فحوى البيان. محاربة الإرهاب، ووحدة سوريا وسيادتها، وثالثها في إعادة البناء والإعمار بعد تدمير سوريا بغالبها. فتركيا التي ترى بأن الكرد في سوريا وقواهم السياسية الفاعلة وفي وحدات حماية الشعب وعموم قوات سوريا الديمقراطية بأنهم (ارهاب)؛ تخالفها روسيا وإيران في ذلك وبأن الجماعات التي تغذيّها تركيا هي الإرهابية. وبعد إسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية في نوفمبر تشرين الثاني 2015 أصدرت موسكو عشرات التقارير تفيد بالعلاقة الوثيقة ما بين تركيا من ناحية وداعش والنصرة والمرتبطة بهما من ناحية أخرى. على الأقل لا تستطيع روسيا أن تتنصل من علاقتها المتقدمة في المجالين الدبلوماسي والعسكري مع قوى الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا وقوتها العسكرية؛ لكن موسكو في ذلك قدّمت نموذجاً سيئاً للعلاقة وباتت هذه العلاقة في معرض الانتهاء من بعد السماحات الروسية المتكررة للاحتلالات التركية من مناطق سورية في (غربي الفرات) منذ آب 2016 وحتى طارئ الاحتلال التركي لعفرين. أما أن تقول طهران لأنقرة في عقر دار تركيا بأنها قوة احتلال في سوريا وأنها ترفض محاولتها لخلق أو فرض واقع جديد؛ فهذا يعني بأن الخلاف على أشده؛ كتفسير وحيد حينما طالب روحاني أردوغان تسليم عفرين للجيش السوري. لا ننسى هنا بأن إيران وروسيا بشكل خاص؛ من منعتا سابقاً أن يقوم الجيش السوري من القيام بواجبه في الدفاع عن (سيادتها) ووحدات حماية الشعب والمرأة في عفرين. فعن أية وحدة وعن أية سيادة يتحدثون؟ أما الخط العريض الثالث المتعلق بجانب إعادة أعمار سوريا فهو حديث متهافت لثلاث دول تعاني أشد الأزمات الاقتصادية. روسيا التي تدنو ميزانيتها من ميزانية ولاية كاليفورنيا وتشهد عملتها هبوطاً حاداً ويفرض عليها جملة من العقوبات الاقتصادية (أمريكية وأوربية) فإنها غير مؤهلة لمثل هذه المهمة بالأساس. أما تركيا المختنقة سياسياً واقتصادياً، وبكل المشاكل داخلياً وخارجياً؛ ناهيكم عن القضايا الكثيرة التي تدينها؛ مثال قضية محمد ضراب وأيضاً أكثر من عشرين مصرفاً تركياً في علاقة دعم وإنماء مع داعش، وما تعانيها تركيا من تضخم وهبوط لحظي لليرتها. وهنا وفيما لو أبدى القضاء الأمريكي حركة واحدة في هذا الاتجاه فيعني بأن تجد تركيا نفسها مغرّمة بنصف ترليون دولار دفعة واحدة. يعني بأنه انهيار اقتصادي تركي كامل. وهذا بحد ذاته ما يفسر جنون تركيا العارية واتباعها منطق (عليّ وعلى أعدائي). وتركيا تدرك أكثر من غيرها بأنها عدوّة للجميع بمن فيه المتلاصقين وإياها هذه اللحظات، ومن الطبيعي أن يكون الجميع أعدائها. فالنيران التي تشهدها حتى من جهة من تلتصق بهما ويلتصقان بها ليست سوى نيران عدوة. أما إيران في ذلك وما تشهده من نهوض شعبي؛ الأخير والمتقطع حتى اللحظة فإن أحد أسبابه (بعثرة مقدّرات إيران على خارج إيران بدلاً من الشعوب في إيران). فعن أية إعادة اعمار سوريٍّ يتحدثون؟

تركيا وإيران تتفقان وروسيا بأن التصاقهم يأتي في المرتبة الأولى بمهمة تقويض دور التحالف الدولي بقيادة أمريكا وشركائها ضد الإرهاب القاعدي الداعشي في المنطقة، علاوة على محاولات الثلاثي أن تتقاسم سوريا فيما بينهم؛ الشمال لتركيا، الشرق والجنوب لإيران، سوريا (المفيدة) لروسيا. وأن تركيا وإيران يلتصقان اليوم بسبب مطامعهما في المنطقة عثمانياً وصفوياً. عموم البلدان العربية باستثناء قطر تدرك ذلك. وربما تدرك اليوم بأن الخطر العثماني الجديد يفوق الخطر الإيراني أضعافاً مضاعفة. وإذا كان مستشاري طهران يتحدثون عن تحكمهم بأربع عواصم عربية فإن تركيا ترى في 22 دولة عربية 22 ولاية عثمانية تركية.

نتيجة مئة عام منصرم؛ نرى بأن شعوب الشرق الأوسط كلها تعرضت للظلم. لكن في مستوى متقدم الشعبين الكردي والعربي. العربي الذي وجد نفسه مقسماً بين 22 دولة وهوية، الكردي الذي وجد نفسه مفتتً بين أربع أجزاء في أربع هويّات حدودية. فلا معنى في توجيه السهام مِنْ ما بينهما، ولا طائل في سيل الاتهامات والتشكيك لبعضهما؛ فالكردي ليس بالانفصالي والعربي لم يحتل وطن الكرد؛ كلاهما من وقع عليهما الاحتلال ويتعرضان لموجات احتلال جديدة. وما يلزم اليوم خطاباً تصالحياً وأفعالاً تفيد المرحلة التي نعيشها. وأن يقتنع الجمع الناهض بأن ضمان القطع على تقطيع المنطقة جهويّاً عثمانياً وصفوياً يظهر بشكل جليٍّ من خلال دعم مشروع الكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان المتمثِّل بالفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا. وأن الأهم في اليوم هو عقد قمة الصلح السوري؛ فقمة أنقرة انتهت قبل أن تبدأ؛ وبالأساس لا علاقة للسوري بكذا قمة؛ فهي قمة الثلاثي الغائص في الوحل السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى