مانشيتمقالات

إطلالة على إرهاصات فكرية ونضالية أوجلانية مبكرة

محمد عيسى ــ

بمناسبة الأول من أيار حيث يصادف عيد العمال العالمي، تتداول بعض المواقع المهتمة بحرية القائد أوجلان رسالة القائد الموجهة إلى جمهور العمال وجيش العاطلين عن العمل والتي يطالبهم فيها بتحمل مسؤولياتهم التاريخية المنوطة بهم لتحقيق أهداف عدة.

وإذ يشير الناشر بطريق الخطأ غير المقصود أن الرسالة موقعة من القائد من حيث هو في سجن إمرالي فيما مضمونها يدلل على أنها تشير إلى مهام نضالية وظروف سياسية تعود إلى ثمانينات القرن الماضي ــ في الغالب الأعم ــ ولأنها كذلك فلا شك بأنها تضيء على نقاط هامة جداً في التجربة النضالية للقائد اوجلان وعلى الإرهاصات والأحداث التي كان يستشعر حصولها والتي أدت لاحقاً الى تنامي أفكاره النقدية وتطور رؤيته الفكرية في مسائل الاقتصاد والفلسفة السياسية والعلوم الاجتماعية الأخرى.

وبالعودة إلى الرسالة؛ فإن من أهم ما أشار إليه هو قوله إن الأنظمة المهيمنة تعايش أضعف حلقاتها في منطقتنا، والساحة الكردية هي نقطة أساسية وأن تجاذباً خطيراً يجري في فضائها وقد ينذر بحرب عالمية ثالثة؛ ثم أن حركة التحرر التي تعكس إرادة شعوب المنطقة والمناهضة للهيمنة هي التي تنهض بدور طليعة النضال ضد سياسة الهيمنة، وتنعطف الرسالة بعد ذلك على نقطة أخرى حين تقول: إن الاشتراكية حاجة ملحة الآن وأكثر من أي وقت مضى، وعلى الطبقة العاملة وجمهور العاطلين عن العمل أن يحثوا الخُطى في سبيل بلوغها، وهذه لفتة ذات معنى بالغ الدلالة عن التربة الفكرية الماركسية المَنْبَتْ، والتي نمت عليها وتطورت عنها أفكار القائد أوجلان، حيث التعويل على دور ((الطبقة العاملة في قيادة برنامجها الثوري حتى النهاية)). بحسب ماركس؛ هذه التربة الفكرية التي نجد جذورها في تحول قناعات الشاب اليافع من ذهنية حامل أفكار البيئة الدينية البسيطة إلى صاحب التوجه الجذري نحو الفكر المادي العلمي الجدلي، في الماركسية، حين قال مقولته الشهيرة: ((لقد نجح ماركس وخسر محمد))، وذلك بعد أن فرغ من قراءة كتاب مبادئ الفكر الاشتراكي.

وفي شأن متصل بطبيعة الخطاب الماركسي وفي تشخيصه لعناصر قوى الثورة والتحرر من نظام الهيمنة العالمي؛ يستخدم القائد في رسالته مصطلح القوى القومية أو نضالات التحرر القومية للشعوب كأحد مكونات جبهة قوى التحرر العالمية، الأمر الذي يشير إلى أن القائد لم يكن وقتها قد تخلص بعد من تركة المفاهيم الكلاسيكية في أدبيات مفهوم الثورة العالمية، هذه المسألة التي لم يكن مقتنعاً بصوابيتها في أعماقه، وقد كان دائم التفكير في ضرورة حلها أو تجاوزها.

هذا الانطباع الذي ترجمه في حواره الذاتي مع نفسه بعد عشر سنوات “أي في نهاية التسعينات” حين قال (عشية انتقاله إلى أثينا ثم إلى موسكو ثم إلى أثينا ثانية وقبيل نجاح المكيدة الدولية في اختطافه في نيروبي): إنه شغوف بأن يأتيه الإلهام فينجح بإيجاد المَخْرَج الشرعي والأخلاقي من آفة الفكرة القومية، هذا الإلهام الذي وُلِدَ لاحقاً عبر فكرة الأمة الديموقراطية.

وتتابع الرسالة تزويدنا بالمغزى الدلالي لمضمونها، وإلى بيت القصيد الذي كان يقف خلف توجيهها في تلك اللحظة والذي يعكف على تسليط الضوء على نقطتين، ((الأولى)): إشارته إلى أن النظام العالمي يعيش أزمة على ضفتيه ” الاشتراكي، والرأسمالي” على حد سواء فيما يعد نقطة فارقة في خطاب يساريِّي ذلك الزمان؛ في وقت كان يغلب فيه الحديث عن دحر الإمبريالية وحتمية انتصار الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة، وبنجاح حركة التحرر العالمية في تقويض النظام الرأسمالي العالمي. قليلون جداً هم من كانوا يشيرون وقتها إلى وجود أزمة بنيوية في التفكير الاشتراكي الماركسي، وفي هذه الرسالة يؤكد المناضل “دائم التفكير أوجلان” أن التطبيق الاشتراكي وحتى الفلسفة الماركسية رغم صوابيتها التاريخية والأخلاقية العامة لكنها تواجه تحديات فلسفية وسياسية كبرى، وقد يكون هو من بين طلائع الندرة من المشتغلين بحقل الفكر السياسي الذين تجرأوا على الإجهار بأزمة الماركسية، وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى مساهمات نقدية مبكرة في هذا الاتجاه في كتابات المفكر “إلياس مرقص” وفي مساهمات الكاتب المصري “سمير أمين” صاحب نظرية المركز والأطراف.

أما النقطة ((الثانية))؛ فتدور حول التركيز على جوهر الاشتراكية من جهة، وعلى خطر البُعد عن الضوابط الأيديولوجية كعامل مُولِّد لأزمة الاشتراكية، وفي هذا معانٍ كثيرة؛ ففي مسألة جوهر الاشتراكية كما كان يفهمها أوجلان كانت تعني الملكية العامة الحقيقية لوسائل الإنتاج هكذا هي في جوهر الاقتصاد السياسي الماركسي، بينما كان يتلمس في واقع التجربة انحرافاً متدرجاً عن هذه المقولة نحو تكريس نمط  رأسمالية الدولة الاحتكارية كخطوة  نحو الخلف تتعارض مع الجوهر الفعلي للأيديولوجيا الماركسية ولمعنى الاشتراكية الفعلي “رأسمالية الدولة” التي ورثت لاحقاً نموذج الدولة الاشتراكية البكر التي جاءت بها ثورة أكتوبر التاريخية. هذا النمط الذي حقرته الفلسفة الأوجلانية بعد أن نضجت واستكملت صيغها، والذي نظرت إليه بأنه أشد سوءا من مزايا نظام الاقتصاد في العصرانية الرأسمالية، هذا النظام الذي يحتفظ بمزايا حرية الأسواق والمنافسة وتوفير الخيارات فيما أقدم نظام رأسمالية الدولة الاحتكارية على تجريد نفسه من هذه الميزة المهمة عبر تحطيم السوق واحتكارها لنفسه فيما يعني انعدام الفرص الاقتصادية ونضوب الخيارات.

وفي الختام، تكتسب الرسالة أهميتها في تزويدنا بالتغطيات العيانية والحسية للمونولوج الداخلي الذي يتفاعل في ذهن المناضل المفكر اوجلان، والذي اسعفته عبقريته الفذة بإيجاد المخارج العلمية والمعرفية لأزمة الفكر الاقتصادي الاشتراكي من خلال ابتكاره للبديل الموضوعي المتمثل بالنظام الاقتصادي الاجتماعي التشاركي المستند إلى قواعد ترسيخ القيم الديمقراطية.

زر الذهاب إلى الأعلى