مقالات

هاجس المعرفة والأخلاق في التنظير الاوجلاني

محمد عيسى
كما أن لكل ايديولوجية أدبياتها وميادين معارفها ووسائلها في تفسير تاريخ المجتمعات، فلها أيضاً رزمة القيم والقواعد الأخلاقية التي تدعو الأفراد والمجتمعات إلى التخلق بها وتبنيها كثقافة خاصة بها أو فلسفة تبررها أو تقوم عليها هذه القيم وهذه الثقافة .
ورغم تشابه المدارس الفكرية والعقائدية المختلفة في نظرتها الى مسألة الأخلاق الفردية في نقاط عديدة الا أنها تختلف كثيراً في مساطر القياس وفي الأولويات التي يجب أن تدور حولها الأخلاق المجتمعية، فالأيديولوجيات الدينية عامة والتي ترمز بالمعنى التاريخي الاجتماعي الى ثقافة وفكر المرحلة الاقطاعية، تقدم رزمة من الضوابط الأخلاقية الفردية العامة كـ”الصدق، الأمانة، التسامح، حسن التعامل ورفع الظلم وغيرها” لكنها في المقاربة العامة التي تتصل بمصير المجتمع فهي تقر بالهرمية الاجتماعية وبانقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء وإلى مالكين للثروة ومحتاجين، وأن هذا التمايز في الاصطفاف الطبقي هو شرعة إلهية “لقد خلقناكم فوق بعضكم درجات درجات”، وطريق الخروج الأخلاقي من مأذقه يكون عبر فعل الإحسان “الزكاة”، حيث يتصدق الأغنياء في المجتمع على الفقراء وأصحاب الحاجة كأحد أهم أشكال التدبير. وبالانتقال إلى مرحلة الحداثة الرأسمالية نجد في صلب الثقافة الرأسمالية القائمة على تبرير الملكية الخاصة، والتي حجر الرحى فيها هي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، أن الاستغلال الاجتماعي والفوارق الطبقية هي بدهيات موضوعية، وفوارق لها مايبررها، وهو نظام اقتصادي اجتماعي قاعدته الأساسية هي العمل تكوين “الربح” وحرية حركة السلع، وأن جوهر الأخلاق الاجتماعية في فلسفة هذا النظام تقوم على احترام هذه القاعدة والقبول بأن هذا النظام أخلاقي ويتمتع بمرونة كافية لحل المعضلات الاجتماعية التي تنتج عنه، وقد ابتكر النظام الضريبي على سبيل المثال كشكل للتعبير عن مفاهيمه أو عن رسائله الأخلاقية.
وفي الشأن نفسه فلاريب بأن الثقافة الاشتراكية والأيديولوجيا الماركسية تقدمان تصوراً أكثر دقة ووضوحاً لقضايا الانقسام الطبقي، وإلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بأسباب نشأته واقتراح طريق التخلص منه، وذلك أيضاً عبر ادانته أولاً في معايير الثقافة الاشتراكية على أنه نظام غير أخلاقي، والبديل الأخلاقي الاجتماعي عنه هو في تبني القيم الاشتراكية، التي حددتها التعاليم الماركسية وفلسفتها الاقتصادية والسياسية قانون “القيمة، العمل، قوى الإنتاج” والتي جوهرها يقول أن النظام الرأسمالي لا أخلاقي بالضرورة لوجود التناقض الحتمي فيه بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وبأن الثورة الطبقية على هذا النظام حتمية تاريخية وأخلاقية، وتستدعي نهوض الطبقة العاملة للقيام بمهام الثورة، وإقامة نظام العدل والاشتراكية عبر إقامة دولة ديكتاتورية البروليتاريا “الطبقة العاملة”، ولاريب بأن الأيديولوجيا الماركسية تعنى في جميع أقسامها بانتاج فلسفات ومعارف وثقافات تبرر نظرتها، وبالتالي هي تقدم ليس فقط منظورها للمثقف والثقافة، بل تولي عناية خاصة بمفهوم الأخلاق الفردية والمجتمعية، والتي تنطلق في مجملها من مسلمات النظرة الطبقية في تفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية السياسية، حيث يظهر هنا مفهوم المثقف العضوي والطبقي ومفاهيم الأخلاق الطبقية أوأحيانا “الأخلاق الماركسية” والتي ألف بائها الايمان والالتزام بالحتميات التاريخية للثورات الطبقية.
أما عن مضمون المقاربة الاوجلانية للمسألة “قضايا الثقافة .والأخلاق المجتمعية والفردية” فلا يسع الدارس المهتم أن يغض الطرف عن حقيقة أنها الأكثر صلة بأوجاع التاريخ من جهة والتي تكاد تنوء من حجم يقظة الضمير الفردي والجمعي معاً، فاوجلان المناضل أولاً و المتأمل بقضايا مجتمعه ووطنه، وقبل أن يتطور إلى موقعه بين صفوة الفلاسفة ينقل هواجسه والأفكار التي كانت تراوده حول الخيارات والمعوقات والمسؤوليات التي تقع على عاتقه والتي من شأنها أن تحدث اختراقا نوعياً وعميقاً في الانسداد العملي والأخلاقي الذي أصاب في نهاية تسعينات القرن الماضي مسيرة النضال في مسارات واهتمامات سياسية عديدة تشغل اهتمامه بشكل بالغ العمق، منها المعوقات التي صارت تحيط بمستقبل حركة النضال الكردي والمشاكل المتماثلة في قضايا شعوب الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية على وجه خاص، على أن القلق الاكبر الذي كان يؤرقه ويستحوز على وجدانه وعواطفه فهو دروس التجربة الاشتراكية والفشل الحاصل المترافق مع انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز النصر الذي حققته الحداثة الرأسمالية كتحد معرفي أولاً واخلاقي ثانياً، عليه ان يواجهه، وإذ يعبر عن هذه التفاصيل في الأخيلة والحوارات الذاتية التي شغلت باله وهو في عشية الانتقال إلى أثينا ثم إلى موسكو ثم إلى أثينا ثانية فنيروبي، حيث حصلت عملية السطو على حريته الجسدية والتي لا يحملها إلى الفاشية التركية فقط، بل يدين نظام الحداثة الرأسمالية العالمي بالتورط الحثيث فيها، ما يجعل ثقل التحدي الفكري الواقع على عاتقه كبيراً جداً، وهو إذ يكرر هذه الدواعي والمشاعر في مرافعاته أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، فإنه لا يألو جهداً ـ وضمن هذا المناخ التاريخي والمفصلي في حياة البشرـ في أن يدخل عالم الفلسفة من أوسع أبوابه، من باب التجربة والمعاناة ومن على سكة النضال نفسها، فهو واقع المناضل المتألم إلى موقع المفكر الفيلسوف المبدع، من موقع من كان تلح عليه أفكاره منذ أيام طفولته بضرورة إنتاج مخرج مقنع وأخلاقي لقضية شعبه وقضايا المنطقة والعالم، مخرج أطلق عليه في شروحاته “بالحكمة” الشرعية أو العقلية الأخلاقية التي تستبدل العنف بين الدولة النمطية القائمة ومابين الشعوب المظلومة، بنموذج الأمة الديمقراطية التي تؤاخي بين المكونات .
ففكرة الأمة الديمقراطية لم تأتي إلا تتويجاً لحلم القائد الطويل بأن تلهمه الحياة بها كحكمة ابداعية وخشية خلاص من العنف، هذا العنف الذي لم يكن خياراً مستحباً، من زاويته بحسب ما تفيد به المرافعات، وحين ضاقت الخيارات وراودته فكرة اللجوء إلى الجبال والقتال دفاعاً عن قضية شعبه، والموقف من العنف لم يكن نزوعه الأخلاقي الوحيد، بل يمكن الجزم بأن البعد الأخلاقي وشعور المسؤولية تجاه استقرار الحياة والمجتمعات والطبيعة كان حاضراً، وكان العلة والدافع في جميع التصورات والأفكار والفلسفات التي شكلت فيما بعد قواعد المدرسة الاجلانية، هذه المدرسة التي لا تعتمد في مناهجها على نشر وتعميم الفكر والثقافة، بل هي مدرسة لزرع وتأصيل الأخلاق قبل أي اعتبار آخر، وعلى نحو مشابه، وطالما قدمت المدارس والأيديولوحيات الأخرى وصفاتها الخاصة بالأخلاق أو لما تعتبره طريقها المعتبرة الأخلاق، فإن الاوجلانية كل طرقها مشيدة بهوس الأخلاق، هوس مجتمع الأخلاق السياسي الذي رافعته الأساسية تجذير مناخ الحرية والديمقراطية،خيار الحفاظ على البيئة النظيفة وتأمين شروط المجتمع التشاركي الايكولوجي الحر والعادل .

زر الذهاب إلى الأعلى