مقالات

غداً: في تركيا: الأحد العظيم أمْ بداية أعوام الخراب

أن يقول أردوغان؛ قبل مدة؛ بأن من يسعى لتقديم الانتخابات في تركيا المقرر عقدها في نوفمبر 2019 ليس سوى خائن، وأن يقوم هو وشريكه باخجلي بهذا التقديم فهما من يدين أنفسهما بأنفسهما؛ قبل أي تفسير آخر. وفي الحقيقة يبدو أن التفسير الأنسب لذلك متمحور في أن هذا التقديم عبارة عن ترجمة لفائض القوة كدليل بدوره على الفشل والاخفاق اللذين منيت بهما العدالة والتنمية وبأنه التراجع في مخططات العثمانية الجديدة. لا يمكن لأحد أن ينكر هنا بأن أردوغان أراد بهذه الخطوة مباغتة الجميع تحت ذريعة بأن تركيا يجب أن تتجاوز مرحلة الغموض! لكن الحقيقة تبدو بأن أردوغان المسؤول الكبير في تشكيل شخصية تجارية قوموية دينوية في تركيا؛ وهو يرى بأمّ عينه بأن الليرة التركية في تدهور والاقتصاد في تراجع مستمر وكل خوفه الشديد من انهيار كامل لشعبيته شبيه في الشارع التركي: فهو سيد العارفين بالطبيعة العامة للشخصية التركية؛ شخصية مسَلّطة بالشحن القومومي التجاري الاستهلاكي. مع العلم بأن الأزمة الداخلية سيطر عليها وضابعاً إياها منذ المسرحية الواقعية للانقلاب العسكري في منتصف حزيران 2016. بالأساس يمكن تسمية بضع ساعات (الخربطة) التي حدثت في ليلِ تركيا بتاريخ 14 تموز 2016 بـ (المسرحية الواقعية التي تُختتم عن طريق المدد الغيبي، كما حال المسارح الإغريقية). وما حدث في تركيا حينها أشبه أن تكون واقعة مسرحية مُعِدة لها بإتقان شديد، وقد ساهمت عدة جهات خارجية مستفيدة بإعداد تفاصيل السيناريو والإخراج، أمّا أردوغان تمثّل دوره في النصف الأخير من هذه المسرحية، بعد أن وجدوا مصارعين حقيقيين -يُمكن القول- قد تم الإيحاء لهم جميعاً بأنهم سينجحون. لكن بالأساس فإن خطوة الانتخابات المبكرة في تركيا لا تشبه نظيراتها في بلدان أخرى ولا يمكن اعتبارها بالقانونية. وفي ظل حالة الطوارئ فإن خطوة الاستفتاء التي قام بها في نيسان العام الماضي وتحويل النظام البرلماني إلى الرئاسي، وأيضاً هذه الخطوة ينالهما التشكيك وأيضاً في النتائج التي تتحصل من خلالها. ناهيكم من ارتعاب أردوغان من النتائج الحاصلة في انتخاب البلديات والتي تأتي بحسب الدستور التركي في البداية. وقد خسر الكثير من البلديات وربما وضع العربة أمام الحصان في ذلك يعتبر التعجيل في خسرانه.
اقتراح دولت باخجلي رئيس حزب الحركة القومية التركية (MHP) أن تكون الانتخابات بتاريخ 26 أغسطس آب القادم تماشياً للذكرى 947 لمعركة ملازكرد 1071 التي تم إثرها دحر مد البيزنطة؛ وكما العادة الشائعة لمن يكتب تاريخ الكتب المدرسية يقوم بالتزوير والإنكار؛ فإنه وفي كتب التاريخ التركي المدرسي لهذه المعركة ليس للكرد أي دور في صناعة ذاك النصر؛ علماً بأن دورهم كان بالمحوري ضمن مفهوم صراع الهيمنات بلبوس الدين. ومن يدرك شوفينية باخجلي يعلم مدى عنصريته ضد أوربا ومخيلته المملوءة بطموح استعمار جزء من أوربا. لكن أردوغان جعل يوم الانتخابات في 24 يونيو حزيران وهذه أيضاً لها مناسبة ودواعٍ لا يتورع (السلطان) من إظهارها. كما أنها تأتي مفهومة أكثر ضمن سياق ما يحدث في المنطقة. وبخاصة التحالف ما بين الثلاثي تركيا وإيران وروسيا. ويبدو أن هذا التحالف مستمر بالرغم من التناقضات التي تجمع أعضائه، وهو المعد لأغراض مقلقة وأهداف تهدد أمن واستقرار المنطقة برمتها؛ ليست في سوريا والعراق وحدهما؛ إنما بشكل مبدأي في اليمن أيضاً وعموم الخليج. وأن غض النظر الروسي أو لنقل سياسة المداورة التي اتخذتها موسكو حيال صدور القرار الأممي 2216 الذي يفضي إلى حلال/ شرعية عاصفة الحزم للتحالف العربي في 26 مارس آذار 2015 ضد الحوثي في اليمن؛ ربما يتم عرقلتها أو أن يتعرض طرفها الأساس/ الرياض/ لمزيد من الابتزاز الروسي.
اختيار أردوغان لهذا اليوم له العلاقة بمقاربة عثمانية؛ ففي وثيقة مؤرخة في أرشيف رئاسة الوزراء بإسطنبول بتاريخ 24 يونيو/ حزيران سنة 1888م بأن السلطان عبدالحميد الثاني وافق على تمديد خط التلغراف من مدينة جدة إلى مدينة الحديدة مع توفير المبالغ اللازمة لتنفيذ المشروع على أن يتم إرسال مبلغ 30 ألف ليرة بصورة عاجلة من أجل البدء في تنفيذ هذا المشروع [الأرشيف العثماني، وثيقة رقم I. DH 85242]. ويعتبر أحد (المؤرخين) العثمانية الجديدة بأن (إنجاز ذلك المشروع العظيم وخروجه للنور مثّل دليلا على أنه كان بالإمكان إتمام إنجاز هذا العمل لو بقي السلطان عبد الحميد الثاني في الحكم، فقد كانت لديه حماسة لا حدود لها لربط بلاد المسلمين بعضها ببعض، وإعادة اللحمة بينها دينياً وجغرافياً كذلك). ثم يسهب في شرح عدم حدوث ذلك إلى أسباب عائدة بال (مؤامرة) ونزوع أهلي محلي حال دون تحقيق ذلك؛ في إشارة إلى مقاومة اليمن من ما تم تناولها لاحقاً بمقبرة الأناضول.
كنا قد كتبنا في مقال سابق لنا إلى أن أردوغان له مشكلة مركبة مع شخصين يعتبرهما ألد أعدائه؛ الأول مصطفى كمال مؤسس تركيا الحديثة، والثاني عبدالله أوجلان مؤسس نظرية الحداثة الديمقراطية والذي زاد اعتقاله عبئاً لدى الفاشيّة التركية. وإذا كان يرى في التخلص من غريمه الأول عن طريق تطبيق ما عجز عنه ملهمه السلطان عبدالحميد الثاني صاحب أكبر المجازر التركية ضد الشعوب في تركيا اليوم؛ الأرمن والسريان والآشور والكرد. فإنه يرى في نظرية الثاني بمثابة الحفرة التي يختم صفحة طويلة من حكم الفاشيتين التركياتين البيضاء والسوداء؛ الأخيرة التي يمثلها أردوغان ويقدّم نفسه على أنه رئيس الاخوان المسلمين العالمي. فمنذ العام 2012 يرى أردوغان بأن هذا الفكر بات بالمُفَشِّل لأفكاره الهدامة ومخططاته التوسعية. منذ فشل اجتياح النصرة المدعومة وقتها والآن من قبل أردوغان في سريي كانيه رأس العين؛ مروراً بمقاومة كوباني 2014 و2015 وتحرير منبج آب 2016 وتحرير الرقة تشرين الأول 2017، واليوم ومنذ 20 كانون الثاني إلى اليوم من مقاومة العصر في عفرين على مرحلتين دقيقتين متكاملتين من المقاومة. من المرحلة الأولى إلى الثانية المستمرة حتى اللحظة. أردوغان يعلم بأن الأسرة الدولية اختارت مقاومي الفكر الأوجلاني ولم يختاروه في أهم عملية تحرير في العصر المعاصر أي عملية تحرير الرقة. وهو يرى اليوم بأن كل كردي بالأوجلاني؛ علماً بأنه ليس بكل كردي أوجلاني. فالسيد مسعود بارزاني تلقى من أردوغان شتى الألفاظ النابية علاوة على دوره الكبير في إفشال عملية الاستفتاء الشرعية التي قامت في إقليم كردستان العراق من أيلول 2017. والأصل في المسألة أن فلسفة أوجلان هي التي باغتت أردوغان وإلى حد كبير الأنظمة الاستبدادية في المنطقة حينما ترى بأن أفكاره تُدَرّس عابرة الحدود، وأن السقطة التاريخية التي اقترفها البعض في لصق تهمة الإرهاب بحزبه أو بمن يقتنع بأفكاره في العيش المشترك وأخوة الشعوب وقوة الديمقراطية التي تجلب فقط الحل؛ لم تعد مجدية، بالأساس يجب أن تنال هذه التهمة تغييراً جذرياً وأن تتعدل.
24 حزيران يونيو القادم لن يكون باليوم العادي. وأن الطبيعي الذي تتجه عليه تركيا وإيران وسوريا والعراق وعموم الشرق الأوسط متمحورٌ في إمّا أن تتوسع على شعوبها وتتحقق فيها قضية التحول والتغيير الديمقراطي، وإمّا أن تداوم الأنظمة الاستبدادية على وظيفتها السابقة الحالية بأن تكون هذه البلدان مطية للعبث الشديد الذي يأتي خارج هذا الشرق. لكن هذه المرة الجواب ليس فقط عند هذه الأنظمة؛ إنما على عاتق من يمثل إرادة الشعوب ويتمثل بحركية التاريخ بما يلزمها من دقة متناهية وحساب لحظي لما ستؤول إليه الأمور.
إنْ خسر أردوغان –وهذا هو الاحتمال الوارد بالشكل الطبيعي- فإن المنطقة برمتها مقبلة على الهدوء فالأمن والاستقرار. وإن فاز أردوغان كما انتخابات نيسان الماضي فيعني أنه عاود الغش وهو أكبر من يزوّر الانتخابات بشهادات محلية وعالمية في ذلك؛ فإنه أفضل من يقود تركيا والمنطقة إلى الخراب؛ وهذا بحد ذاته ما ينتظره النظام العالمي المهيمن.
المعركة ببساطة بين الشعوب في تركيا بقواها الديمقراطية وقوة/ قوى نظام الهيمنة العالمي

زر الذهاب إلى الأعلى