مقالات

حزب العدالة والتنمية: تزاوج القومية التركية والإسلام السلطوي (التركياتية الخضراء)

جهاد حمي – موقع (القضية الكردية)
كانت ولا تزال إستراتيجية حزب العدالة والتنمية AKP، تعتمد على التخويف والإرهاب ضد الكرد داخل حدود أراضيهم المحتلة. هذه الإستراتيجية بُرهِنَت من خلال قتله للكرد بغض النظر عن أعمارهم، بالإضافة إلى استهدافهم للنساء والأطفال الكرد بشكل خاص، في الوقت الذي تحولت المدارس إلى ثكنات عسكرية تسرح فيها القوات الخاصة التركية ببث الذعر في نفوس الأطفال، متخذاً من غرفها نقاط ارتكاز لمهاجمة القرى والمدن المكتظة بالأهالي على وقع أصوات قذائف الدبابات وشتى صنوف الأسلحة الثقيلة التي تخترق جدران المنازل المدنيين تاركاً أطلالاً خلفه، وذلك بترسيم هوية العسكرتاية التركية، مفضية مساحة استباحية موزعة أمام عناصر الأمن والفرق الخاصة والمليشيات المرافقة بتعرية النساء الكرديات عقب تمثيل بجثثهن، تظهر خلاصة هذه النتائج المروعة بصورة تقريرية في باطن عقلية أبوية (سلطوية مطلقة)، عنصرية تسلطية، متشابكة بعمق مع طبيعة الأدوات التسلطية لنظام الدولة القومية.
لمعرفة مسببات ما يحصل الآن في تركيا، من الضروري نبش عقلية الحزب الحاكم في البلاد، حزب العدالة والتنمية الذي يعتمد على قاعدة إيديولوجية صلبة، تهدف إلى تحقيق التجانس القسري بين مختلف الثقافات والأديان والأعراق، يمثّل حزب أردوغان المهيمن حالة اندماجية من لدن خاصتين من التيارات الإيديولوجية، وهما: القوموية التركية والإسلام السلطوي، هذه البنية العقلية المترسخة تتكون من حمولة التراكم المتطرف لثنائية التسلط الفوقي الأحادي والقوموية العنصرية، ومن هذين المصدرين على وجه التحديد، تكشف المستور عن ماهية المذابح الجماعية المرتكبة تاريخياً وحاضراً، لتبدو مشهدية قتل الأطفال والنساء والشباب ومختلف الأعمار في شمال كردستان تراجيدية تختزل المأساة المستدامة.
وبنظرة موجزة عن مسار تشكيل تاريخ القوموية التركية والإسلام السلطوي، واللتان تشكلان جسد حزب العدالة والتنمية، جنباً إلى جنب مع تأثيراتهما على الحرب المندلعة في جنوب تركيا (شمال كردستان)، لعل سيوضح هذا المدخل في فهم طبيعة الصراع الحالي.
تاريخ القومية التركية
يعود تاريخ القومية التركية وظهور الدولة القومية في تركيا إلى فترة سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيثُ كانت الأولى من نوعها والتي أديرت من قبل حركة تركيا الفتاة التي فرزت شخصيات بارزة من النخب الفكرية وضباط الجيش الذين تشربوا مفاهيم الحداثة الرأسمالية، مثل الفلسفة الوضعية، القوموية، الداروينية الاجتماعية، بذلك كانوا يمهدون الطريق صوب إدراج الحداثة الرأسمالية في قلب الشرق الأوسط.
وبإيمان يقينياً، تشبثت رواد الفتاة التركية بأركان العلوم الوضعية، وهو نهج يقتصر بشكل دقيق على تشكيل الافتراض حول الاختبارات التجريبية الصرفة، وإنتاج القانون العلمي دون أخذ المسؤوليات الأخلاقية والميتافيزيقية بعين الاعتبار، فالعبارة الأكثر شهرة بين مؤسسي جمعية الفتاة التركية كانت “الدين هو العلم الجماهيري، في حين أن العلم هو دين النخبة”، نظراً لإيمانهم بتفسير متشدد للعلم في علاج “رجل أوروبا المريض”، وهي عبارة مجازية لوصف الإمبراطورية العثمانية المترهلة، تمهيداً لتشكيل دولة حديثة مدعومة بالعلوم الوضعية عوضاً عن ذلك.
استولت جمعية الاتحاد والترقي عام 1913 على السلطة بانقلاب عسكري بعد اصطفاف الجمعية مع منظمة تركيا الفتاة عام 1906. وتبنّت جمعية الاتحاد والترقي شكلاً للقومية التركية يعتمد على معاداة الأجانب وإقصاء الآخر. هذه الرؤية قاد بشكل مباشر إلى إبادة الأرمن، وعززت دوراً سلبياً في خدمة إستراتيجية فرق – تسد الاستعمارية.
وعليه، يؤسس مصطفى كمال أتاتورك أول نموذج من الدولة – الأمة المتجانسة في الشرق الأوسط، مقلداً النسخة اليعقوبية الروبسبيارية كأول نموذج الدولة – الأمة المركزية في أوروبا.
هذا الحدث المسمى” الاستقلال الوطني” أفضى إلى تدوير مكننة التوثين العلموي المتجذر في تركيبة الوضعية، والداروينية الاجتماعية التوكيدية بغرض تعزيز القوموية الكمالية، فتمأسست هذه الإيديولوجيات بطريقة مترابطة أدت إلى تأسيس الدولة – الأمة التي كافحت بدورها من أجل هندسة وتشكيل تجانس مصطنع للمجتمع المتخيل من خلال توظيف النظام التعليمي والثقافي والبيروقراطي كحقول تنثر بذور القومية التركية في عقل المجتمع، ظهر ذلك جليّاً في العَلَم، الرمز، النشيد الوطني، قدسية الجيش، ومؤسسات الدولة، الحدود الجغرافية، الأدب، الفن… إلخ.
منذُ أن تمت تغذية الدولة – الأمة بمثل هذه الإيديولوجيات الساعية لخلق هوية قومية واحدة، ثقافة واحدة، ودين واحد، غدت تركيبة التعددية والاختلاف والتنوع تتلقى في المقابل ضربات قاصمة وتهشيمية، دفع هذا النهج إلى تكريس ثقافة الإبادة في وجه شتى التقاليد الثقافية والفكرية والروحية.
عبدالله أوجلان، الممثل الإيديولوجي لحزب العمال الكردستاني والمسجون في تركيا، سيكون أكثر دقة في تعبير عن هذه الخلاصة في مؤلفه المعنون القضية الكردية وأفاق الأمة الديمقراطية:
“هذه الأهداف أُنجزت بشكل عام باستخدام القوة أو الحوافز المالية وغالباً ما أدت إلى إبادة الأقليات جسدياً وثقافياً أو عبر صهر اللغات الحيوية بطرق الاستيعاب القسري. وتاريخ القرنين الماضيين مليء بالأمثلة التي تظهر المحاولات العنيفة لإنشاء (الأمة) التي تطابق وتماثل الواقع الوهمي لحقيقة الدولة – الأمة”.
تصاعدت القومية الكمالية حدة عداءها ضد الإسلام، حيثُ اعتبرته رجعياً ومتخلفاً. واستهدفت الشيوعيين واليسار أيضاً والتي نعتهم بـ “المخربين”، بعدها شنت الكمالية سياسة ممنهجة ضد الكرد على وجه الخصوص تحت ذريعة “الانفصاليين”. كل ما سبق كان الهدف من وراءه احتكار الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إقامة دولة أحادية منشرحة أمام البيروقراطية والمركزية الحديدية” القفص الحديدي” على حد تعبير ماكس فيبر.
لم يشفع التنّوع واختلاف الأحزاب السياسية داخل البرلمان والحكومة عقب مرحلة الخمسينيات من الانزياح عن هذه البنية الإيديولوجية الرسمية، سواء أكان حزب الشعب الجمهوري CHP، أو حزب الحركة القومية MHP، والآن حزب العدالة والتنمية الحاكم AKP، فالقومية التركية تصون نفسها بطريقة مؤثرة وقوية جداً ضمن ميكانزمات الدولة التركية، وبالتالي ليس من المستغرب أن نكون شاهدين على المذابح والمجازر التي يرتكبها حزب العدالة والتنمية ضد الكرد بسبب طبيعة حركة حرية كردستان المناهضة في مواجهة القومية التركية.
مؤخراً، اتهم رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو الكرد قائلاً :”إنهم مثل العصابات الأرمينية ويتعاونون مع روسيا”. هذا التصريح يمكن أن يُفهم على أنه تبرير للإبادة التي تعرض لها الأرمن وعدم الندم عما أرتُكب، ومرد ذلك ينبع من ذات العقلية القوموية التي وقفت وراء هذه الإبادة التاريخية والتي تستمر في تنفيذ المجازر الجماعية في نفس المنطقة الجغرافية، مع المفارقة بمواصلة ذاتها في القرن الحادي والعشرين، والضحية هذه المرة هم الكرد.
الإسلام السلطوي (الإسلام السياسي)
استناداً على الدراسة السوسيولوجية والتاريخية من تاريخ الإسلام المبكر، فإن الإسلام السلطوي في تاريخه العميق يمثل تمرداً ضد قيم الإسلام المحمدي والذي كان جزءاً لا يتجزأ من دستور المدينة المنورة، وتبنى هذا الدستور التعددية والديمقراطية لجميع المجموعات المتنّوعة والمختلفة في المدينة، وبخلاف من ذلك يستثمر الإسلام السياسي السلطوي ميراث الإسلام المحمدي في خدمة الأجندات السياسية النفعية كوسيلة للاستيلاء على السلطة والتحكم في الدولة، وهو ما يعني القضاء على جميع أشكال التعددية واحتكار جميع مجالات الحياة.
في إطار هذا التحليل، ليس من الصعب بعد الآن تصنيف المملكة العربية السعودية، قطر، إيران، تركيا وتنظيم “داعش” (النسخة الأخيرة من الإسلام السياسي) تحت راية الإسلام السياسي السلطوي، فقنوات الدعم الصادرة من هذه الدول لتنظيم “داعش” واضحاً وبشكل خاص من دول الإسلام السني، وذلك يعود إلى أن جميعهم يشتركون في نفس الجذور الإيديولوجية – الإسلام السلطوي. يكمن دور هذه الدول على الدوام بسقاية هذه الجذور وتغذية نموها. كما لا بد أن يكون واضحاً أنّ هذه النماذج من الإسلام السياسي وبشكل خاص دول الإسلام السني، هي ببساطة لا تعادي الحداثة الرأسمالية، وبدلاً من ذلك تخدم أجندات القوى العالمية الاحتكارية حسب استنتاجات المفكر المصري العالمي سمير أمين، يستعرض أمين، الخبير الاقتصادي الماركسي هذا الأمر في إحدى مقالاته المعنونة باسم “الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية”:
“الإسلام السياسي ليس معادياً للإمبريالية حتى ولو فكرّ مناصرو ومقاتلو هذا التوجه عكس ذلك! إنه حليف لا يقدر بثمن للإمبريالية والأخير يعرف ذلك، من السهل فهم أن الإسلام السياسي بقي على الدوام في صف الطبقة الحاكمة في المملكة العربية السعودية وباكستان. إضافة إلى ذلك، كانت هذه الطبقات من بين أنشط المشجعين والمروجين للإسلام السياسي منذ بداياته المبكرة جداً. والبرجوازيون المحليون الكومبرادوريون، الأغنياء الجدد والمستفيدون من العولمة الإمبريالية الحالية هم من يدعمون الإسلام السياسي بسخاء”.
يخدم الإسلام السياسي الرأسمالية الاحتكارية منذُ أن توافقت سياستها مع مساعي النظام الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي من جهة، ومن خلال محاولتها وبأقصى ما يمكنها محاربة اليسار من جهة أخرى.
حزب العدالة والتنمية و”التركياتية الخضراء”
في تركيا، حقق انقلاب عام 1980 العسكري (المدعوم من قبل واشنطن) إلى حد كبير أهدافه ضد القوة المتنامية لليسار في سبعينات القرن المنصرم. انحدار اليسار وتقلص حجمه بعد ثمانينات القرن الماضي كان واحداً من أكثر العوامل المهمة التي مهّدت الطريق أمام صعود الإسلام السلطوي والذي أسماه أوجلان بـ “التركياتية الخضراء” نظراً إلى مشروع الحزام الأخضر الذي وضعه عام 1977 زييجنيو برجنكسي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، على فكرة مفادها” يمكن للإسلام أن يكون درعاً ضد الشيوعية”.
التركياتية الخضراء تركن إلى تزاوج القوموية التركية والإسلام السلطوي معاً، حيث دعمت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو هذا النموذج في ثمانينات القرن المنصرم لتحقيق أهداف ثابتة محددة في ذلك الوقت.الهدف الأول كان منع توسع روسيا في ذلك الوقت والثاني كان لمنع مجتمعات الشرق الأوسط من تحقيق الاشتراكية والحرية.
الحركة الكردية: ما بعد القومية
في السابع من يونيو /حزيران عام 2015، حقّق حزب الشعوب الديمقراطية HDP انتصاراً تاريخيّاً في الانتخابات التركية العامة محققاً نسبة 13.1% من الأصوات على مستوى البلاد، متجاوزاً بذلك عتبة الـ 10% في البرلمان التركي، للمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث، حاز حزب موالٍ للكرد في العلن على مقاعد في البرلمان. لم يحقق الحزب النتائج التي أحالت دون فوز حزب العدالة والتنمية AKP بأغلبية المقاعد فحسب، بل أضحى عقبة أمام تحقيق الأخير لهدفه في النظام الرئاسي الرامي بشكل مُركّز ومضطرد إلى إقامة كيان متجانس وتسلطي.
مـثَّـل صعود “الشعوب الديمقراطي” تهديداً لحكم “العدالة والتنمية”، لأنه تبنّى سياسات اليسار المحدث، العلمانية، المساواة بين الجنسين، التعددية السياسية، الديمقراطية المباشرة، حقوق الأقليات، المساواة، معاداة النيوليبرالية.
وبناء على هذه الأسباب، لم يكن مفاجئاً شروع الدولة التركية، المحكومة من قبل التركياتية الخضراء المتمثلة بنسختها الأخيرة (حزب العدالة والتنمية)، والمدعومة من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، في إطلاق حربها الممنهجة على الشعب الكردي في شمال كردستان. ويتمثل السبب الأول في أن هكذا نموذج مُعَد في المقام الأول لمحاربة وسحق القوي الديمقراطية في تركيا والشرق الأوسط. ثاني هذه الأسباب، يكمن في رغبة قوى الحداثة الرأسمالية باقتلاع جذور الإرادة الحرة للكُرد، وبالتالي إيجاد قاعدة لنموذج احتكاري استغلالي جديد في المنطقة.
القوموية المتمأسسة على كيان الدولة – الأمة والإسلام السلطوي قد مزقت بنيان الشرق الأوسط إلى قطع متناثرة تحت إشراف الحداثة الاحتكارية، من هنا، فإن النهج الجديد والحر في التفكير، المؤسَّس وفق صيغة لامركزية، والذي يتبنّى التنوع الثقافي المناهض للنيوليبرالية والدولتية، وبوصفه النموذج للكونفدرالية الديمقراطية (المقترح من قبل أوجلان، والمعمول به عملياً في روج آفا)، لاعتبارات شرطية بغرض التغلُّب على العقائد السلطوية التي أدت بشعوب الشرق الأوسط إلى المجازر، والإبادات الجماعية والغرق في البحار، وأخيراً تحولهم إلى فاقدي الإرادة والعزيمة على أبواب الدول الاحتكارية الغربية.
*جهاد حمي: كاتب كردي.
ترجمة: المركز الكردي للدراسات

زر الذهاب إلى الأعلى