مقالات

المواجهة الأمريكية الإيرانية بين الصِّدام والمهادنة وتغيّر المواقف

ياسر خلف

تخضع سيناريوهات الساحة السورية إلى تغيرات دراماتيكية مرتبطة بالصراع الدولي وخاصة المواجهات المفتوحة المعلنة وغير المعلنة في الحرب التي تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية والتي تنذر باتساع رقعتها باطراد لتشمل دولاً أخرى، وذلك ما يبدو جلياً من التحشدات العسكرية  على جانبي الحدود البلاروسية والبولندية وهذه التطورات تأتي بعد يوم من إعلان واشنطن استعدادها لحماية أراضي بولندا العضو في الناتو حال الهجوم عليها من قِبل مقاتلي شركة “فاغنر”، التي هددت بالتوجه إليها، وبعد التهديدات التي أطلقتها بيلاروسيا لدول البلطيق وعلى رأسها بولندا، ما ينذر بتفاقم الأمور واتساع دائرة حرب أوكرانيا وفق العديد من المراقبين، وعلى ما يبدو ستكون لها انعكاساتها على مجمل خارطة المواجهات والتحالفات في مختلف الدول وخاصة الصراع الدائر في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها من مناطق النفوذ.

إن الساحة السورية هي الأخرى لن تكون بمنأى عن هذه التغيرات وإنْ كانت مؤجلة وخاصة ما تشهده مناطق دير الزور والتنف السورية من تحشدات إيرانية وأخرى أمريكية لتعزيز قواتها وقواعدها في المنطقة، حيث يمكن القول إن سيناريوهات المواجهة بين إيران والولايات المتحدة مرتبطة بعوامل مختلفة داخلية وأخرى خارجية، فمن حيث المواجهة داخل الأرضي السورية يمكن الحديث عن عدم وجود رغبة إيرانية في مواجهة مفتوحة بالنظر إلى التتبع الإسرائيلي والأميركي اللصيق لتحركاتها في سوريا وعدم جاهزية حلفاء طهران- دمشق وموسكو ــ للتصعيد واستنزاف قواتهما في معارك قد تريدها أو تضطر إليها إيران تهدف إلى استنزاف طاقتهما المدخّرة لأجل التفرّغ للمعارك أو لحرب جديدة في مواجهة مليشيات الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام والجماعات الجهادية المرتبطة بتركيا في شمال غربي سوريا. وفي الجانب الآخر، لا تمتلك الولايات المتحدة القدرات البشرية اللازمة لدخول حرب موسّعة ضد الوجود الإيراني، ذلك لأن الفصيل المسمّى بمغاوير الثورة الموجود في مناطق التنف لا يمكنه أن يكون معيلاً موثوقاً ومؤثراً لواشنطن حال مواجهة إيران وبسط سيطرتها على كامل الشريط الحدودي العراقي السوري، يضاف إلى ذلك عدم رغبة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) خوض صراع ذي سمة إقليمية في مواجهة المليشيات الإيرانية، وذلك لأن اهتمام «قسد» منصبّ على ضبط الأمن في مناطق سيطرتها والمواظبة على جهدها في مكافحة خلايا تنظيم داعش الإرهابية ومثيلاتها، ولا يغيب عن التحليل المخاطر المستمرة التي تمثّلها تركيا على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وأن معاداة طهران يعني استنزافها على عدة جبهات هي بغنى عنها، ولعل واشنطن تتفهم مخاوف «قسد» ومحاذيرها بهذا الخصوص.

أما على الصعيد الخارجي فعلى ما يبدو، هناك توجه دبلوماسي أمريكي إيراني حَذِر نحو إيجاد صيغة مؤجلة لمواجهة قد تكون شبه حتمية على مداها البعيد حيث يمكن القول إن الصفقة الأخيرة بين إيران وأمريكا بشأن تبادل الأسرى والإفراج عن جزء من الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية والتي ستتم في قطر بعد أن تتحقق إيران من قدرتها على سحب أموالها المجمدة بموجب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، وهنا يمكن قراءة المشهد على الساحة السورية في جانبه الميداني، فتبدو الغاية الأساسية من مراكمة الجنود والأسلحة في سوريا والإيحاء بقرب المواجهة المحتومة والوشيكة بأنها جزء من استراتيجية البلدين في تعميق نفوذهما داخل سوريا والسيطرة على الشريط الحدودي، كما أن عدم حدوث مواجهات مدمّرة خارج سوريا يعني عدم حدوث مواجهات في سوريا أيضاً، فسوريا بالمعنى الاستراتيجي هي ساحة خلفية للمواجهة أكثر من كونها ساحة رئيسية للصراع بين القوى الدولية، وعلى ما يبدو أن أمريكا تسعى منحى  جذب تركيا باتجاهها، وخاصة بعد ما تمخض عنها لقاءات آستانا الأخيرة من توافقات روسية تركية إيرانية والتي كانت أكثر فائدة لإيران ونفوذها في سوريا.

وقد كانت هناك مواقف سياسية أمريكية واضحة لكسب الود التركي، وخاصة فيما يتعلق بالمناطق المحتلة (عفرين كري- سبي – سري كانيه – …)، وما صدر على لسان وزير خارجيتها من عدم وجود تغيير ديمغرافي فيها، علماً أن ما تمارسها تركيا في هذه المناطق من تغيير ديمغرافي منذ اللحظة الأولى من احتلالها وباعتراف منظمات دولية منها “هيومن رايتس ووتش” و “لجنة التحقيق الدولية حول سوريا”، حيث تعمل تنظيمات تابعة للإخوان المسلمين بتمويل قطري على بناء قُرى سكنية لإسكان آخرين بدلاً من السكان الأصليين وَسْطَ خشية السوريون من أن يكون ذلك تمهيداً لسلخ هذه المناطق عن سوريا وبالتالي تكرار سيناريو لواء اسكندرونة. وقد يعود السبب في تباين المواقف الأمريكية هي استدارة أردوغان نحو الغرب بعد الانتخابات وهذا ما ينم عن سعي روسي متسارع في فرض ما تمخضت عنها توافقات الآستانة الرباعية مؤخراً، وخاصة أن الجانب التركي يحاول اللعب على تناقضات السياسة الدولية مجدداً، ويبدو أن التصريحات الأخيرة “للأسد” كانت رسالة روسية شديدة اللهجة لأردوغان وتركيا في حال تنصله من وعوده. فهل ستشهد سوريا مواجهات وتحالفات جديدة أم أنها ستكون مرهونة بما ستسفر عنها الحرب الدائرة في أوكرانيا واتساع رقعتها لتشمل دول مختلفة من العالم؟

زر الذهاب إلى الأعلى