مقالات

من دروس السودان والجزائر لسوريا وبالعكس. ما العمل –اليوم وفي المدى المنظور- في سوريا؟

أن يستمر الرئيس في الأنظمة (الجمهورية) للبلدان العربية بشكل مخالف للدستور؛ ويبقى  جاثماً على صدر الشعب إلى ما شاء فإن ذلك من دون أدنى شك يعتبر أزمة أو تكوير الأزمة الأوليّ. لكن ما يضاهي ذلك هو المتمثّل في أن يتم تصوير إسقاط الرئيس أو خلعه أو حجزه أو ما غير ذلك من اجراءات تغييب شامل على أنه كُلّ الحل. إنما ذلك هي الأزمة الحقيقية. لأن القضية تتمثل في وجود أو عدم وجود المشروع الديمقراطي البديل للنظام المستبد الذي خرج عليه الشعب في لحظة إدراك جمعي من خلال وعيه الجمعي، وهو الصحيح فهو الصحيّ؛ بأنه يجب أن لا يستمر في أن يكون موجوداً في الحكم. وهنا بالضبط تبدو مهمة واحدة يجب أن تتنفذ على يد جهة واحدة لا غيرها؛ هي المعارضة الديمقراطية لا المعارضة السلطوية. أما تجربة الحراك الثوري السوري في انتفاض شعب سوريا من حوران إلى قامشلو تؤكد بأن الغالبية العظمى من المعارضة السورية وبخاصة المستجدة منها بأن لا مشروع لديها. وبأنها عارضت النظام المركزي الاستبدادي السوري لسببين: إما من منطلق رومانسية حالمة أو من منطق اعتلاء السلطة. سوى أن كليهما يؤديان النتيجة ذاتها.

فعلى الرغم من أن المشروع البديل هو القضية المهمة بحد ذاتها؛ المشروع البديل له البعد النظري الفلسفي المغاير للقديم وفي الوقت نفسه له أبعاد إدارية اقتصادية تشاركية السلطة والسياسة؛ أي تحقيق أكبر قدر ممكن من تمثيل المتنوع الذي يتألف منه شعب ما. سوى أنها تبقى بالقضية الأساسية الثانية. لأن القضية المركزية في الشرق الأوسط متمثلة بأن نموذج الدولة القومية المركزية فشلت. فشلت في كل مكان. ابتداء في أوربا على اعتبار أنها تمثّل مهد الدولة القومية رسمياً ما بعد معاهدة (الصلح) ويستفاليا 1648أو المخاضات والحروب التي رافقت تلك المعاهدة حتى قيام الثورة الفرنسية من بعد سيادة قيم الجمهورية؛ الحقيقة هنا يجب تصويبها بأن أول نموذج دولة قومية كانت دولة البرسيس –سماها الغريق بذلك السائب أو الغازي-  في المرحلة الثانية من الامبراطورية الميدية. كما أنه من المهم الذكر بأن كل الاتفاقيات التي سميت صلحاً ما قبل ويستفاليا وصولاً بالتي نسمع بها اليوم لم تكن بالصلح إنما وقف الحطب وكل شيء يجعل الحروب مستعرة. إنها معاهدات وقف الحروب وابقائها في الوقت نفسه على شكل الحرب الموجودة الخامدة. كمثل الذي يراه السوريون ما يحدث ما بعد كل آستانا سوريّة. نجزم أو نكاد نجزم في القول بأن نموذج الدولة القومية في أوربا فشل أيضاً. أما الحركات والأحزاب الشعبوية التي هي اليوم في أعلى مستوى نشاط لها فإنها تستعد لأخذ زمام الأمور وبأنها قد تكون المرحلة الجديدة من إحياء الدولة القومية المركزية. فكيف يمكن القبول أساساً بنموذج الدولة القومية المركزية في الشرق الأوسط الذي لم يُمنح أو لم يتسنى له الوقت الكافي في التعرف على هذا النموذج أو ادراكه أو استيعابه أو بالتعرف عليه ذاتياً كقضية مفصلية متمثلة بدروها بالتحول؟ التحول من نمط إلى نمط آخر أكثر حداثة؛ لا ينسف الشكل القديم إنما كمن يبني فوقه؛ ليأتي في وقت لاحق من يبني نموذج أجدد تفرضه حالات التطور وخاصيّات التفكير العلمي، وكذا خاصية المجتمعات الدينامية. لأن الفرضية الثابتة تؤكد بأن كل المجتمعات دينامية. أما تعبير المجتمعات المتخلفة هو تعبير محض رجعي ومن بنات قوى الاستعمار المتعكز على نمطيات الكومبرادور، أو بالأقنية ومُمَرري الأجندات الخارجية. ينطبق ذلك على الأغلبية الساحقة من المعارضة السورية كانت داخلية أو خارجية. بالأساس يعتبر هذا التوصيف الطارئ غير مهني وغير حكيم. فليس من بقى في الداخل هو الوطني وليس من في الخارج هو بغير الوطني.

تعتبر الدولة القومية تحولاً بالمقارنة مع الدولة الدينية التي سبقته أو مع الدولة المدنية التي جاءت فيما بعده؛ من ناحية المفهوم؛ الدولة المدنية أحد أدبيات المعارضة السورية التي تدرك أو لا تدرك بأنها مفهوم جاء كأحد محاولات تجديد الخطاب السياسي للإخوان المسلمين منذ منتصف القرن الماضي؛ محاولة منه ترطيب المسمى مع ابقاء مضمون ومآرب المفهوم النمطي هو كما هو، كي يكون بديل الدولة العلمانية وقطعاً في طريقه. علماً بأن المفهومين (العلمانية والمدنية) ملتبسين. أما حالة الالتباس في ذلك فتأتي قياساً على التجارب المريرة التي حمّلت الشعوب أكلافَ باهظة جرّاء أو تحت هذين المسميين. يجب عدم السكوت أكثر من ذلك إن كان في نية وعزم أحد التغيير الذي يلزم أو التغيير الديمقراطي.

بعض من يفسّر الأزمة السورية محمّلا (الجيش السوري) سبب الأزمة في عدم حيادته فإنما بالتفسير البسيط إنْ لم يكن بالساذج جداً. بخاصة حينما يأتي من السوريين أنفسهم. بالأساس فقد الجيش السوري مفهوم المؤسسة وتشريف السيادة في ظل الحكم العسكرتاري المعروف به سورياً. علماً بأن إدراجه والجغرافيا والسيادة والنظام السياسي/ السلطة الحاكمة كمقومات الدولة إنما مفاهيم تلزم إعادة تناولها مجدداً وبفكر جديد إذا ما كنا أما إنتاج قيم الجمهورية الثالثة في سوريا أو تشكيل أنظمة سياسية جديدة في المنطقة برمتها. ما يلزم هنا مغادرة مسؤولة لمفاهيم الغير التي قد و أشدد بأنها قد أحدثت فرقاً في محلات أو من جغرافيتها الأصيلة، الجغرافية التي أنتجت هذه المفاهيم. ولكن هنا في الشرق الأوسط فإن الأمر مختلف وبالغ التعقيد. المهمة الأولى تقع بتشريب عملي ونظري وفعلي للدولة زائد الديمقراطية. مع الإدراك بأن هذين المفهومين لا يحتملان بعضهما الآخر. فلا توجد دولة ديمقراطية إنما دول بممارسات ديمقراطية. وطنية الدولة ووطنية سوريا يمكن بتحويل المجتمع وإعداده أن يدير نفسه بنفسه. وهنا تظهر مشقة المهمة طالما النتيجة موجهة نحو استبات المجتمع السياسي. في الحقيقة الأزمة السورية لا يتحمل وزرها الطبقة العسكرية. هذه مناولة قاصرة خاطئة. طالما لا يمكن لأي شيء أن يكون المشكلة والحل في الوقت نفسه. بالأساس فإن الموضوع يضاهي ذلك ولا ينجم من محاولة التسويف هذه إلّا دوام الأزمة والوصول أخيراً أدرياً أو جبرياً أو فوضوياً إلى النتيجة التي تخدم منظومة الاستبداد. يمكن أن يكون ذلك الدرس الأهم المستخلص من الأزمة السورية. كما يمكن هنا التوقف عند قرار حركة المجتمع الديمقراطي في مؤتمره الثالث الأخير المتعلق بإحداث نقلة نوعية في مهام الحركة من سياسية عسكرية إلى الساحة الثالثة/ ساحة المجتمع المدني. هو قرار تاريخي ما يلزم هنا تصيير ذلك عملياً؛ مع الكثير من الصبر.

الديمقراطية تلزمها معارك. كل معركة في طريق التغيير والتحول الجذري يجب أن تكون ديمقراطية تنطلق من فكر ومشروع ديمقراطي هو البديل لأي فكر استبدادي ونظام مستبد؛ في ذلك حوامل ظاهرة يجب أن تكون: القوة العسكرية الأمنية إلى جانب القوى السياسية الدبلوماسية؛ كلاهما إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني الفعلية. أما النهوض المجتمعي فيغدو نتيجة حتمية. غير ذلك يجب تعويد نفسنا بأننا لن نكون سوى أمام بشر يستمرون في إنتاج سلسلة تحيا كأجيال في زمن الفوضى. الأمر لم يحل في الجزائر ولا في السودان. والأمر مستعصي في تونس وغيرها التي تراءت لها بأنها أوجدت البدائل. يلزم وقت طويل حتى التخلص من التركة الثقيلة التي تعود بالأساس للأنظمة الاستبدادية بموازاة المعارضات المستبدة. وكلاهما يتبعان بالجملة إلى نظام الهيمنة العالمية. لا يهم هنا كثيراً حللها المتغيرة.

ما العمل –اليوم وفي المدى المنظور- في سوريا؟

إذا كان بغير مقدور السوري اليوم القول فالفعل بأنه بالضد من جميع الموجودين/ المتدخلين في سوريا. مع العلم لا يوجد متدخل شرعي وآخر غير شرعي. كلهم سواء فكلهم بالأساس موجود لأن غيره موجود. لكن بمستطاع السوري القول والفعل بأن جهة اليوم تحتل سوريا. واحتلالها واضح يؤكده مواثيق الشرعية العالمية والمواصفات الكيفية لاحتلال دولة لدولة أخرى. تركيا اليوم تحتل مناطق من سوريا. وتقوم بتغيير معالمها الاجتماعية والسياسية والإدارية، سبق ذلك تغيير ديموغرافي بالذي يحدث في عفرين.

خطوات عاجلة يتخذها السوريون

1- رفض ما تسمى باللجنة الدستورية السورية التي تتحضر بإشراف روسي تركي. علاوة على أنها غير ممثلة لكل أطراف وقوى شعب سوريا؛ في جزء مهم منه مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. فإن هذه اللجنة المسيّرة تخدم منظومة الاستبداد في دمشق وتقسّم سوريا في الوقت نفسه.

2- التحضير لمؤتمر سوري عام. من المهم أن يسبق ذلك خطوات حوارية ولقاءات متعددة ما بين مختلف القوى السورية ترصد فيها أكبر قدر ممكن من التقاطعات. المؤتمر السوري العام له وظيفة الجمعية التأسيسية والبرلمان الشعبي.

3- يَنُّم عن المؤتمر السوري العام وثيقة عهد وطني سوري. تعتبر في الوقت نفسه محددة للمبادئ فوق الدستورية التي ينتهج منها عقد اجتماعي سوري/ دستور سوريا الجديد.

4- على سوريا ظهرت الدولة السوداء/ داعش الإرهابية وأرعبت العالم بأسره منذ 2014. عليها انتهت جغرافية الدولة داعش في اعلان تحرير الباغوز الفعلي 21 آذار 2019. من الطبيعي تشييد محكمة دولية ضد الإرهاب؛ بخاصة بعد اجحام الدول عن استلام مواطنيها. إقامة هذه المحكمة رد الاعتبار الأخلاقي للضرر الكثيف الناجم عن مقتلة الإرهاب على شعب سوريا؛ بشكل مخصوص منه في شرقي الفرات وشمال سوريا. هي مسألة أخلاقية قبل كل شيء إذا ما كان الجميع يرى بأن القوانين روح المجتمعات.

5- عموم القوى الوطنية المدنية الديمقراطية العلمانية السورية يُضاف إليهم مجلس سوريا الديمقراطية مطالبين بالعمل سوياً. أيّا كانت تموضعات هذه القوى قبل مرحلة داعش. يمكن لمناطق شمال سوريا وكامل شرقي الفرات –مناطق محررة من الإرهاب والاستبداد أن تتحول إلى مركز جذب وطني. وهذه ليست برؤية طارئة لمجلس سوريا الديمقراطية وليست رؤيتها فقط إنما رؤية الكثير من الأطراف الوطنية السورية خارج وداخل سوريا.

6- ينجم عن المؤتمر الوطني السوري العام منصة تفاوضية؛ لا تقتصر على مجلس سوريا الديمقراطية فقط؛ إنما بجزء أساسي منها. تسترشد هذه المنصة بالقرارات الأممية ذات الصلة في مقدمتها القرار الدولي 2254 وغيره. على أساسه يكون السوري لأول مرة أمام ظروف حقيقية وأجواء نافعة لعملية تفاوض جوهرية سورية.

7- تقام لجان وتتفرع وفق الأوليات والمهمات التي استعصت على الأسرة الدولية وبخاصة المتدخلة منها. بشكل خاص المتعلق بالقضية الإنسانية السورية ومسائل الإعمار وعموم ذلك.

كملخّص

الدروس كثيرة التي من الممكن أن تكون بالصالحة المأخوذة من مسيرة شعب سوريا إلى السودان والجزائر؛ وبالعكس، ومن غيرهما، ومن الغير في إقليم الشرق الأوسط، ومن الغير في العالم. سوى أن الدرس الأهم؛ هي النتيجة الكبيرة؛ بأن مسيرة الشعوب لتحقيق الحرية مستمر. والحرية لا يمكن أن تكون من دون ديمقراطية حقيقية هي ديمقراطية القبول، ومن دون قوة أمن ذاتية ترسخ هذه الديمقراطية. المعضلة التي يجب أن تُحَلْ: الدولة زائد الديمقراطية. في ذلك فإن الالتفات إلى شمال سوريا؛ إلى مشروعها أمر يستحق فيه الالتفات والتطوير والتعديل والتصويب.

زر الذهاب إلى الأعلى