مقالات

منبج مرآة سوريا المستقبليّة

عامر طحلو

كثيرةٌ هي المدن والمناطق الّتي احتلّتها داعش في سوريا, وبقيت تحت سيطرته دون أدنى محاولةٍ من قبل الأطراف السّوريّة لتحريرها, سواء كانت الّتي تسمّي نفسها المعارضة أو النّظام, وعانى أهالي تلك المناطق والمدن من ويلات داعش ومن جرائمه وظلمه.

منبج من بين المدن الّتي احتلّتها داعش, منبج الّتي كانت ومازالت تشكّل لوحة فسيفسائية من حيث مكونّاتها, حيث يعيش فيها العرب والكردّ والتّركمان والأرمن والشّركس, وكانت مثلها مناطق الجّزيرة السّوريّة الّتي فُرض عليها أن تكون مناطق نامية, أي أنّها لا تحتوي على أيّ وجهٍ من أوجه الحضارة كالجّامعات والمصانع والمؤسّسات, وهي تتبع إداريّاً لمدينة حلب, وطُبّقت فيها سياسة الحزب الواحد, فمن كان بعثيّاً كان يُعتبر مواطناً من الدّرجة الأولى  بغضّ النّظر عن طائفته, لذلك تمايزت تلك الفئة البعثيّة  ونالت كافّة الامتيازات من توظيف ورُخَص تجاريّة وصناعيّة, وكانت تلك الفئة تشكّل الأقليّة, في حين كان يعاني بقيّة الشّعب من التهميش والظّلم والاستبداد.

وعندما احتلّها داعش طبّق نفس السياسة الاستبداديّة والتسلّطيّة السّابقة, وأضاف إليها فنون القتل والتّعذيب والجرائم ضدّ الإنسانيّة, فإمّا أن تكون داعشيّاً أو تموت, لذلك هرب منها معظم أهلها, وتركها النّظام والمعارضة فريسةً للدواعش, مثلها مثل الرقّة والشدادي والباب وغيرها.

اشتمّت منبج رياح الحريّة من الشّرق, وكان أهلها يراقبون تقدّم قوّات سوريا الدّيمقراطيّة وتحريرها لمدن وبلدات الشّمال والشّمال الشّرقي السّوري من براثن الإرهاب, ولم ينتظر الشّرفاء من أهاليها وصول تلك القوّات لتحرير مدينتهم, بل بادروا بكل طوائفهم إلى تشكيل مجلس منبج العسكري, الّذي اندمج فيما بعد في  قوّات سوريا الدّيمقراطيّة, وشارك هذا المجلس في معارك تحرير الكثير من المناطق الّتي تحرّرت قبل تحرير منبج, وضمّ هذا المجلس مقاتلين عرباً وكرداً وشركساً وتركماناً ومن كافّة مكوّنات المدينة, وقدّم العديد من الشّهداء الّذين امتزجت دماؤهم مع بعضها البعض, وسقوا بها تراب الوطن, وأبرز هؤلاء الشّهداء قاهر الدّواعش الشهيد (فيصل أبو ليلى), وبعد ملحمةٍ بطوليّةٍ حرّرتها قوّات سوريا الدّيمقراطيّة وبدورٍ كبيرٍ من مجلس منبج العسكري, وبقي هذا المجلس يدافع عنها من هجمات عرّاب الدّواعش  (أردوغان) ومرتزقته, الّذين احتلّوا جرابلس وعزاز والرّاعي وعاثوا فيها فساداً.

بعد التّحرير انضمّت منبج إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة في الشّمال السّوري,  وشكّل أبناؤها مجلساً مدنيّاً لإدارة شؤونها, ومجلساً للعدالة الاجتماعيّة مؤلفاً من 16 عضواً ومن كافّة المكوّنات ( عرباً وكرداً وتركماناً وشركساً), ولأول مرةٍ في تاريخها في منبج مارست المرأة دورها الفاعل في المجتمع, وتحرّرت وزادت من قوة المجتمع ضعفين, وتشكّلت في منبج قوات الأمن ( الأسايش) وشرطة المرور ( الترافيك) وتم وبطلبٍ من أهلها تفعيل واجب الدّفاع الذّاتي أسوةً بكافّة المناطق المحرّرة من داعش, وافتُتحت المؤسّسات والهيئات المدنيّة وحتّى الثّقافيّة كهيئة الثّقافة والفن, وباتت منبج عروساً تجسّد مبادئ الأمّة الدّيمقراطيّة من أخوّة الشّعوب والتّعايش المشترك والحريّة والسّلام, وبقيت عروساً خالدةً كما كانت تُسمى في غابر التّاريخ ( مابوك ) أي العروس الخالدة, إنها الآن عروس فدراليّة شمال سوريا.

وبات يلجأ إليها الهاربون من مناطق درع الفرات, وبشهاداتهم الّتي رووها عن جرائم الاحتلال التّركي ومرتزقته في جرابلس والباب والرّاعي, الّذين يمارسون كافّة أنواع الفظائع من قتلٍ واغتيالٍ وخطفٍ واغتصابٍ وتهجيرٍ للكرد من قراهم, وكلّ هذه الجّرائم موثّقة من قبل المركز السوري لتوثيق الانتهاكات SYRIAN CENTER FOR DOCUMENTATION OF VIOLATION , وقد استبدلت الحكومة التّركيّة داعش بفصائل تابعة لها, وعملت على تتريك تلك المناطق من خلال فرض المناهج التّركيّة في المدارس وفرض التّداول بالعملة التّركيّة وتهجير المكوّنات الأصليّة للمنطقة ومن يقف بوجه مخطّطاتها, وافتعال تغيير ديموغرافي لصالحها.

إنّ الديمقراطيّة الحقيقيّة في منبج ليست مجرّد كلمات, ومن يشكّ بذلك فليذهب إليها ويستطلع آراء مكوّناتها من غير الكرد, وسيجد أنّ أخوّة الشّعوب والعيش المشترك والدّيمقراطيّة هي أساس الحياة فيها, فمنبج تحرّرت بفضل تضحيات أبنائها من عربٍ وكردٍ وتركمانٍ وشركس, وهي الآن باتت تشكّل نموذجاً مصغّراً لسوريا المستقبليّة, سوريا الدّيمقراطيّة التّعدديّة الفدراليّة الّتي ستتعايش فيها كافّة الطّوائف والمكوّنات والشّعوب بأخوّةٍ وسلام.

زر الذهاب إلى الأعلى