دراسات

دور تركيا الكبير في تفكيك المنطقة وفي تفتيت نفسها

سيهانوك ديبو

كحدٍّ أقصى؛ كل مئة عام يتكوّن نظام هيمنة جديدة. كل نظام مهيمن لا يمانع في وجود عشرات القوى الأدنى تأثيراً؛ وليس من الضرورة أن تتوافق مع رأس النظام المهيمن. بل ربما يظهر في منظر المعادي؛ انطلاقاً من القاعدة الأساسية في السياسة الكلاسيكية المتبعة منذ خمس قرون وحتى اللحظة (في إبقاء القوى المتناقضة متوازنة).

لا توجد منطقة في العالم تضاهي الشرق الأوسط من ناحية تعرضها لكافة أشكال العنف والإبادات الفيزيائية والثقافية. وكأنه انتقام تاريخي مزمن منه. من الشرق الأوسط صُيِّرَتْ الحضارتين الديمقراطية والمدينية، ومنها تم السلب والاستيلاء، وكأن تعرضها على طول الخط لمثل هذه الضربات – بمباركة من الأنظمة الاستبدادية المحلية وكافة زمر الاستبداد في الشرق الأوسط – يكمن في عدم وقوفه على رجليه مرةً أخرى والممشى في الاتجاه الذي يتناسب ودوره الحضاري المعيش في التكامل والتتام.

حتى لا ينسى السوريون عبثياتهم الستة التي أسقطتهم سبع مرات ربما إلى سبع تقسيمات. من المرجح أن لا تقوم لسوريا التي عرفناها قائمة مرة أخرى.

اليوم؛ ينقسم السوريون فيما بينهم؛ إلى ست فئات. يمكن تسميتها بانقسام المجتمعيّة المرحلي لما بعد الأزمة السورية. مع التركيز على قضية وجود استطالة لها تعود إلى ما قبل الأزمة؛ بشكل أو بآخر.

  • فئة تأن فقط. دوام السؤال على وضعية سوريا قبل الأزمة والآن. هؤلاء يعانون من واقعة اضطرارية هي النوستالجيا؛ هؤلاء في الوقت السابق من الأزمة تراهم يعيشون في فترات سابقة. إذاً حالهم في الماضي الذي يسبق الفترة التي يعيشونها.
  • فئة تريد الخلاص؛ كيفما كان؛ هؤلاء أنفسهم من ينتمي إلى المشاركة الضدية للنظام الاستبدادي؛ كيفما كان؛ لا تملك هذه الفئة العيون الحقيقية؛ ترى من خلال الآخرين، وتتكلم من لسان الآخرين، لتصل إلى درجة التفكير كما يريده البعض. كما أن هذه الفئة تلعب أسوأ الأدوار – في مرحلة حساسة – كما المرحلة الحالية فتظهر مواقفها وتحركاتها في دعم مباشر لموقف النظام الاستبدادي؛ كما في حالة إصراره على إعادة إنتاج نفسه في صيغة المركزية؛ لا تمنع أن تكون هناك مواد مُجمِّلة للمركزية ضمن سياق اللامركزية الهشة أو المبتورة.
  • فئة الضد من الضد. ربما هي فرصة مناسبة لتصويب القلم نحو أساس المشكلة في سوريا. والتفكير بصوتٍ عليٍّ بأن أغلب المعارضات في سوريا لم تكن معارضة. هل من المعقول أن يكون أول ظهور للمعارضة في سوريا، وأن يكون السوريون في موعد تاريخي ويروا أن بديل النظام الاستبدادي هو (المجلس الوطني السوري) ومن ثم (الائتلاف)؛ كليهما؛ بأغلب الموجودين فيهما؛ على نية وفعل مشروع إسلاموي في سوريا؟ ينتقل بهؤلاء؛ لاحقاً؛ كي يتم اكتشاف بأن لجبهة النصرة (يسار لها) معتقلون سابقون في أقبية النظام البعثي. ويزيد بالحال بلّة أن يتم تفضيل داعش على النظام الاستبدادي؛ وفي الوقت نفسه يتم التفاوض من قبلهم مع الأخير، أو بالأحرى؛ يؤمرون في ذلك.
  • فئة الخائفين من التغيير. لم تكن منظومة الاستبداد في سوريا ورئيسها هي المشكلة الأولى على عتبة التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا. المشكلة الأولى هي الأخيرة؛ والتي حوّلت إلى أزمة مستعصية، وتكاد تكون سوريا تتصدر مركز الفوضى في عموم الشرق الأوسط. المشكلة تكمن في طبيعة النظام المركزي الذي يخالف الطبيعة الاجتماعية في سوريا؛ والحل الذي يناسب ذلك يكمن بالفيدرالية الديمقراطية. فيدرالية سوريا الديمقراطية؛ التي؛ ربما؛ تتألف من أربع فيدراليات، متوزعة عليها السلطات وقضايا التنمية وتمثيل شعوب سوريا؛ كما المتعارف عن الأنظمة الفيدرالية الرصينة، المعهودة بوزنها بالنسبة لشعوبها أو فيما يتعلق بتأثيرها على ما يحدث في المنطقة والعالم. هذه الفئة تخشى التغيير، فتختار الرمادي من الألوان. ليست بالكامل مع النظام، وهي ترفض بطبيعة الحال أية معارضة. المسألة هنا لها استطالات ذات منبع اقتصادي وهرمية سلطوية زائفة ضمن نطاق محدد. إذْ أنه في فترة ما قبل الأزمة يظهر وكلاء رسميون وغير رسميون في المجتمع؛ يتقاسمون هدف إبقاء النظام.
  • فئة الثابتين في اللا ثبات. أو المتحولين. يعود ظهور هذه الفئة إلى حالة الشح الكامل من أي انتماء لبراديغما. هذه الفئة لا تواجه الواقع. إنما تدير له الظهر. وتبدأ بالتحول عن كل شيء وهجران البلد. ولا نية لها بالأساس لأية مواجهة.
  • فئة الواهمين. ترتيبها من هذه الفئات هي الأولى بالرغم من ورودها هنا، هذه الفئة موجودة في النظام وموجودة في معارضته التي تشبهه أكثر من أن تختلف معه. وأما الوهم فهي كينونات غامضة ومبهمة لم تحدث إلّا لصاحبها أو معتقدها، إنه الشخص المستعد لفعل أي شيء يعادي الحقيقة، ويرى الفيلسوف أوجلان بأن الوهم يتعدى الفردية الواهمة كما تفسير أفلاطون لحقيقة الوهم، وكما أنه يتعدى أيضاً الشخصية الواهمة كما تفسير نيتشه لأصل الوهم، إلى أنظمة ونمطيات كاملة واهمة، فحينما تصر أمة نمطية على أن تكون على ح

ساب صهر ثقافات وقوميات وأعراق أصيلة فإنها أمة واهمة تسحقها حججها التي تتآكل بفعل عوامل الحقيقة، ونسق الحقيقة في الأمم الواهمة تشتد بفعل التضليل والإبادة التي يمارس ضدها، وأن المجتمعات المنظمة هي المجتمعات الحقيقية التي تستحق العيش دون وهم، وعلى عكسها تماماً فإن المجتمعات الواهمة هي المجتمعات غير المنظمة والتي لا تعير أية أهمية للتاريخ ولعنة الجغرافية في التاريخ والمستقبل.

عن حرائق المنطقة؛ قبل الحريق الكبير

حرائق الشرق الأوسط تظهر بأشكال ويلزمها حتى تحترق ثلاثة أنواع من الحطب. تندلع في اللحظة التي يُراد منها أن تندلع. فهناك حريق بحطب قومي. وحريق بحطب ديني. وحريق بحطب طائفي (نصف قومي ونصف ديني). العبثيات الكبرى التي تحدثنا عن أهمها (ست فئات أو ست لعنات) يمكن النظر لها بأنها تقف وراء ومن سوريا وعموم الشرق الأوسط، وتؤدي دوراً وظيفياً في جعل استعار الحريق في أوج مرحلته. والفوضى في أوجها. الفوضى التي يتبعها نظام يتمثّل بها ومنها ولها.

في فقرة الأزمة والقضايا في مجتمع الشرق الأوسط، من مجلده الرابع (أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط) يقول الفيلسوف أوجلان:

“وتَغدو استحالةُ سيرورةِ المجتمعِ تحت ظلِّ النظامِ القائمِ أمراً واقعاً. فَبِتَبَعثُرِ بُنيةِ النظام، يتَوَلَّدُ وسطٌ من الفوضى لأجلِ ظهورِ بُنى نظاميةٍ جديدة. وحسبَ استعداداتِ القوى الاجتماعيةِ أيديولوجياً وبُنيَوِيّاً، فإن مَن يَمتَلِكُ الأجوبةَ الأرقى هو الذي يَكتَسِبُ فرصةَ أو مكانةَ احتلالِ الدورِ الرئيسيِّ في إنشاءِ النظامِ الجديد. أَفضَت كلُّ قضيةٍ في تَبَعثُرِ النظامِ وتأسيسِ الجديدِ منه إلى تسمياتٍ منحرفةٍ وشاذةٍ في مفهومِ العلمِ الوضعيّ. فقد نَمَّت مفاهيمُ التاريخِ ذي الخطِّ المستقيمِ على وجهِ الخصوصِ عن نتائجَ وخيمةٍ وسلبيةٍ للغايةِ عبرَ نشاطاتِها في تحديدِ ورسمِ أشكالِ المجتمعِ بمفهومٍ قَدَرِيٍّ جديد. ذلك أنَّ نشاطاتِ صياغةِ المشاريعِ بمنوالٍ هندسيٍّ لطبيعةٍ مُعَقَّدةٍ للغايةِ كالمجتمع، قد عَمَّقَت من الأزماتِ أكثرَ فأكثر على مرِّ التاريخ، فما بالُكَ بأنْ تَكُونَ حلاً للأزمات. وسواءً التعاملُ الميتافيزيقيُّ ….أم التعامُلُ الوضعيُّ (الأمة، الاقتصاد، الحقوق)؛ جميعُها يَخرُجُ من البوابةِ نفسِها. بل حتى أنّ المناهجَ الوضعيةَ بَرَزَت إلى الوسطِ في ظاهرةِ الفاشية، مثلما أَفسَحَت السبيلَ أمامَ نتائجَ أبعدَ من أنْ تَكُونَ أزمةً، لِتَصِلَ حدَّ الإباداتِ الاجتماعية. وحصيلةَ الثوراتِ العلميةِ والفلسفيةِ القائمةِ بعد الحربِ العالميةِ الثانية، بالإمكانِ القولَ أنّ مُناقشاتٍ أكثرَ عُمقاً قد دارت وتصاعدَت بشأنِ الطبيعةِ الاجتماعية. هكذا صارت عباراتُ الأيكولوجيا، الفامينية، الثقافة، والديمقراطية أكثر إنارةً، وقادرةً على تحديدِ فُرَصِ الحلِّ وزيادتِها بمنوالٍ سليم”.

المنطقة كلها تتفتت. كل الأنظمة متورطة في هذا التفتيت. إلّا أنه من يقوم بنشر البارود في المنطقة فموكَلٌ إلى تركيا؛ أكثر بكثير من غيرها. من يدعم تركيا في ذلك هي روسيا. أما حصار موسكو؛ في صيغة مبدئية بطرد سفرائها وقناصلها من أوربا ومن أمريكا التي تشكل حكومة حرب؛ فهي صيغة يفهم منها أمور كثيرة؛ الأكثر ترجيحاً يكمن بأنه بداية الاستعداد للمواجهة الكونية الثالثة. وإذا كانت حادثة قتل الدوق النمساوي قبل حوالي القرن بداية الحرب العالمية الأولى؛ فيبدو بأنه في تسميم الجاسوس المزدوج (سبايكر) في جنوب بريطانيا ستبدأ قرع طبول الحرب الثالثة. دون أن ننسى بأن تمدد تركيا يشبه تمدد داعش الملحوظ من صيف 2014 إلى صيف 2015؛ وانكمشت من بعدها داعش. وتركيا التي تمددت بشكل أكبر من بعد طارئ احتلالها لعفرين فإنها قد تتمدد أكثر؛ لكن صيف 2018 حتى صيف 2019 تنكمش تركيا. مع العلم بأن انكماش داعش صغير جداً أمام انكماشات تركيا وربما انتهائها. يبدو بأن أسهل طريقة للانقضاض على تنظيم إرهابي أو نظام مارق ما كما الحال في تركيا بأن يتم السماح له أن يتمدد ليتم تثبيته والانقضاض عليه بمفاد التحجيم أو التهميش أو التصغير أو الانتهاء. هذه هي خيارات تركيا، وتباعاً خيارات غيرها من الدول المارقة. العلم التركي المرفوع مؤخراً على بعض من مدارس عفرين دليل دامغ على أنها المارقة. تركيا وداعش ومن يرتبط بهما تنتهي. المنطقة كلها تتغير. حروب إقليمية في حروب أبعد من حدود المنطقة؛ تحدث.

نصف سوريا، وإدارةِ دولٍ من آسيا الوسطى لروسيا مقابل احتلال تركيا لعفرين

الدبلوماسية البقائية –إن صح التعبير- التي لا علاقة مباشرة لها بالوقائية، بشقيها الإقليمي والدولي على أشده. ترتيبات غير رتيبة؛ غير اعتيادية؛ تحدث بالمفرّق؛ بسرعة الرياح؛ تعصف بالمنطقة بالجملة. لكن تبقى بمضامين واضحة بمفاد: تأديب تركيا الناتوية -حتى اللحظة- من خلال روسيا. جعل روسيا أكثر التصاقاً بتركيا. تركيا تنشق عن الناتو فلن تُقْدِم على ما أقدمت عليه حلفاء الناتو من طرد السفراء الروس وقناصلها على خلفية اتهامات الطاردة للدبلوماسيين الروس بأن موسكو استخدمت سلاحاً محرّماً على أرض دولة حليفة هي بريطانيا أو بما تسمى بأزمة (سبايكر). الأمور إذا ما قدّر لها المشي في هذا المسلك فإن روسيا تفقد بدروها أن تكون راعية لحل الأزمة السورية وتنتقل إلى وضع المحتل لسوريا وإلى تقسيمها والسماح في تفتيتها كما تورط موسكو البليغ والداعم في طارئ احتلال أنقرة لعفرين؛ ومهيئات التقسيم طول السنوات الماضية بدلاً من تهيئة الحل والاختباء تحت هذه الحجة. يحرص قطبي الصراع على سوريا أن يستحوذ أحدهما فقط على تركيا. تركيا تقدم نفسها حتى اللحظة على أن تكون ممثل/ رجل روسيا في قسم من الشرق الأوسط وقسم من آسيا الوسطى، فهي تعهد إلى روسيا إدارة ملفات أذربيجان وأرمينيا ودولاً أخرى من قفقاسيا. يجب أن يعلم الجميع هنا بأن أردوغان مستعد على بيع تركيا كلها في سبيل أن لا يكون للكرد أي دور في المنطقة، وهم أبناء المنطقة وشعب أصيل عاش مع الشعوب الأخرى في الشرق الأوسط لآلاف الأعوام. ويجب أن يعلموا بأن تركيا حتى منحتها روسيا الضوء الأخضر وحدوث طارئ احتلالها لعفرين لم تبع نصف سوريا فقط لروسيا فالنظام؛ وذلك من خلال تحكمها بكل تفاصيل الجماعات المسلحة التي تسلم أوكارها تباعاً إلى روسيا/ النظام: السؤال يكمن هنا من الذي منح لتركيا مثل هذا التحكم وموّلت ذلك؛ قطر أولها. إنما أيضاً تم تسليم روسيا إدارة الملفات الساخنة في آسيا الوسطى أيضاً. وفي ذلك فإن روسيا من مصلحتها أن تفقد تركيا دورها المحوري وتبدو بالهزيلة أو الأكثر استعداداً ليكون وجهة شرها فقط إلى أوربا وإلى الناتو. ووضع تركيا في هذا الدرب إنما يعني درب احتراقها. وهذا هو الذي يحصل. وترجيحنا المتتالي لأنْ تنقسم تركيا يأتي ضمن هذا الإطار علاوة إلى الإطار الذاتي الداخلي في تركيا نفسها بأن القوى الديمقراطية في تركيا؛ تتحين الفرصة المناسبة لإسقاط مثل هذا النظام الذي بات وبالاً ومهدداً للإنسانية برمتها. لكن يبقى الصراع محموم على تركيا ما بين واشنطن وأوربا وغالبية البلدان العربية من جهة ومن جهة أخرى روسيا وبعض الأنظمة المارقة في المنطقة؛ من هو الماهر الذي يلعب بمختلف الأحابيل وينسج ما يلائمه كي يرث تركة الرجل المريض الجديد. تركيا.

ضمن هذا المشهد المتلاطم الذي نجم عنه احتلال تركيا لعفرين بالرغم من المقاومة المستمرة ضدها، يبرز تكتل العدم ورهط الخيانة المتمثل بمن اجتمع في فندق رويال عنتاب ليقدّم نفسه مرة أخرى على أنهم عبيد السلطان. كل من قبل بتشكيل ما يسمى بإدارة عفرين من بعد احتلالها تركيّاً؛ ليس سوى خائن ومرتزق وعدو لأبناء شعبه ولشعوب سوريا. عفرين التي ديرت من قبل مجلس مدني ديمقراطي وحققت مستوى متقدم من الأمن والاستقرار والتنمية من خلال الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم عفرين؛ يريدها وارثي ثقافة الحجل أن لا تكون. هؤلاء ليسو بالكرد وليسو بالسوريين ولا علاقة لهم بجنس الإنسانية. شعب عفرين ومجلسيه التنفيذي ووحدات حماية الشعب خرجوا من عفرين لأنهم أدركوا بأن ما صيغ يفي إلى إبادة كاملة لعفرين المدينة والشعب. أما الرجوع إلى عفرين اليوم يعني قبول الاحتلال. وهو الموت عينه. المشهد الذي تمر به عفرين جزء من المشهد الكلي في سوريا وفي المنطقة والعالم. إنه المشهد القلق؛ لكنه غير المستمر. عفرين ترجع؛ هذا هو الثابت في المسألة.

زر الذهاب إلى الأعلى