دراسات

القضية الإجتماعية (3)

يوسف خالدي

الحلقة الثالثة  الجزء الأول
يربط أوجلان قضية إنتقال المدنية ، من مركزها في ميزوبوتاميا بالتطور التقني الذي حصل مابين 3000-1000 ق.م بإكتشاف الحديد كبديل عن البرونز ، كون إستخدام التقنية في مجال الحرب ، يأتي بنتائج مختلفة عن إستخدام التقنيات القديمة ، هذا القول لا يقلل من شأن التطور الإجتماعي وتطور المدنية ، إلا أن للتقنية دور كبير في التأثير على التطور الإجتماعي ، وعليه فإن مركز الهيمنة ، ينتقل ولأول مرة خارج ميزوبوتانيا بإتجاه الغرب في أوروبا .
تشكلت أولى مراحل الإنتقال بالإنزياح الذي حصل ، من الإمبراطورية البرسية الميدية عن طرق البر في أعوام 600-300 ق. م ومن خلال الفينيقيين بحراً 1200-330 ق.م مع عدم نسيان دور الأورارتيين في ذلك أعوام 850 -600 ق.م . خلال هذه المدة ، لم تستطع المدنية تجاوز قضاياها ، إلا أن حدة القضايا الإجتماعية باتت ، أقل حدة من السابق من خلال تقنية إلإستخدام الواسع للحديد وسلامة الطرق التجارية .
تعرض الإغريق لحملات قوية من الإمبراطورية البرسية الميدية القوة المركزية المهيمنة ، وتواصل مكثف مع الفينيقيين من خلال التجارة عبر المتوسط ، جعل من المناطق الإغريقية شبه مستعمرة من القوتين .
كان لذلك تأثير كبير على المدنية الإغريقية التي تشكلت فيما بعد في شبه الجزيرة الإيبيرية ، لتصبح بعدها مركزالمدنية المهيمن الجديد . دون نسيان ما كان لمصر وبابل من تأثيرات سابقة عليها . وهذا الأمر يدحض تلك المزاعم القائلة بأن المدنية الإغريقية نسيج وحدها ولم تتأثر بمدنيات أخرى سبقتها . فما من مدنية أصيلة في ذاتها ، وسنجد مقولة جوردون تشايلد صائبة وفي محلها ، حين شبه التقنيات التي إكتشفها وطورها سكان قوس طوروس وزاغروس في أعوام 6000-4000 ق. م تماثل تأثير ودور الإختراعات التي تمت في القرن السادس عشر في أوروبا .
بدأت التطورات تتلاحق في المنطقة الإيونية بشكل تصاعدي وعلى ضفتي إيجة في ميادين الذهن والتقنية والميادين العملية ، فتطورت الكتابة المأخوذة عن الفينيقيين بتطوير أحرف الهجاء ، وكذلك الملاحة والنقل البري ، وثورة في الفلسفة أزاحت الآلهة السومرية بشكل شبه قطعي ، بإستبدالها بالآلهة الأولمبية ، وإرتقت بميثولوجيا جلجامش إلى القمة من خلال ملاحم هوميروس ، وكذلك في مجال المسرح والعمارة والموسيقا ، أنشئت المدن والمسارح ، والقصور الفخمة ، والتماثيل الدقيقة ، في تصوير الأجسام . وإدخال الديمقراطية إلى الحياة السياسية ، وأثبتت تفوق الديمقراطية على غيرها من الأسليب وأنظمة الحكم  حتى في ظل المدنية المهيمنة .
لكن يبقى السؤال هنا . هل إستطاعت المدنية الإغريقية حل القضية الإجتماعية ؟  يرى أوجلان :
حتى ديمقراطية أثينا لم تستطع حلها ، بل إن القضية إزدادت تفاقماً في بعض المجالات .
فمثلاً إزدادت وتائر سلب المرأة من حقوقها عما في السابق فهي بالإضافة إلى أعباء المنزل كأم وزوجة ، تم حظر مشاركتها في السياسة وممارستها ومن إنتهال العلوم والحكم والإدارة ، وتعاظم حجم الإسترقاق والعبودية ، و ظهرت للوجود مؤسسات إسترقاق ، وبات تصدير البضائع والرق وتجارة العبيد ، حالة ملموسة وسائدة ، مع ظهور مصطلحات الإستقراطية وعلية القوم ، وهكذا أضيفت قضايا إجتماعية جديدة إلى تلك القديمة ، لتتفاقم الأوضاع تدريجياً يوماً بعد يوم وبدلاً عن المعبد والسور المحيط بالمدينة ، ظهرت مرافق أخرى كالقلاع والأبراج وتوسعت حدود المدن وما يحيط بها من أسوار ، بشكل مضطرد ، مع بدء تشكل جيش للعاطلين عن العمل بين تلك الأسوار التي كانت تتسع بإتساع المدينة .
رافق كل ذلك تضخم في أجهزة الدولة والسلطة ومؤسساتهما وتم التضييق على السياسة ، من خلال تزايد دور الطبقة العسكرية ، لتنتهي الأمور إلى إستيلاء السلطة على السياسة وعلى المجتمع بكل فئاته ، حتى لفظت التقاليد الإجتماعية ولفظت الديمقراطية أنفاسها على يد الإستقراطيين في أثينا . لتنزاح المدنية صوب الغرب ، بإتجاه روما 750 ق.م -500 .م .
يمثل عهد روما ، تلك الفترة التي وصلت القضية الإجتماعية فيها إلى الذروة ، بسبب تراكم الإحتكار في النظام الديني والمدني ، على الرغم من قساوة الأحكام والعقوبات بأشكالها المروعة في ميادين حلبات المصارعة ، حيث الأسود كانت تنهش بالضحايا من البؤساء والمعوزين الذين إنحازوا إلى تبني المسيحية كمنقذ لهم من وطأة تلك القضايا التي كانت تسحقهم ، إنتشرت المسيحية وتحولت إلى دين رسمي ، لكن مع دوام إستمرار قضايا المدنية في الداخل ، ومع السيل المتدفق لهجمات قبائل الهون الجرمانية على الإمبراطورية الرومانية من الخارج ، تفاقمت أكثر فأكثر حدة التناقضات ، التي أدت إلى إنفجار الوضع في روما ، وإنهيارها لاحقا .
يمكن تحديد المرحلة الكبرى الثانية في القضية الإجتاعية ، وحصرها ما بين فترة سقوط روما ، وبدء تصدر أمستردام للمشهد ، تميزت هذه الفترة البينية بخاصية بارزة ، نتلمسها في البصمات التي تركتها الأديان الإبراهيمية عليها ، كرسالة لحل القضايا التي بقيت عالقة دون حل من 500 ميلادية , 1500 م .
هنا يرى أوجلان بأن العبرانيين ، تمكنوا من تحويل الميثولوجيا السومرية والمصرية لاحقاً إلى بلاغة في صياغة دين مع تلك الإضافات من الإصلاحات التي إستقوها خلال فترة السبي من بابل596 ق. م . ومن الزردشتية وكذلك الفينيقية والهورية والإغريقية ، كون التوراة تم صياغتها في الفترة ما بين 700-600 ق.م ، سيتم التعرض إلى هذه القضية وقضايا تراكم المال ، الإيديولوجيا ، العلم ، المعرفة . في دراسة خاصة بعنوان القبيلة العبرية كما أسلفنا لأهمية الموضوع .
ساد صراع طويل بين السلطتين المهيمنتين والمعبرتين عن أصولهما المشرقية والمغربية ، روما الأيطالية ، وفارس الميدية الساسانية ، المتقاسمتين لإرث المدنية الميزوبوتامية .
ضراوة الحروب بينهما ، وشدتها وطول زمنها ، يعبر عن الصراع على وراثة ميزوبوتاميا ، كصراع على الهيمنة شهده ذاك العصر ، فلكل حقبة زمنية حضارتها ومدنيتها وحداثتها ، وصراع على الهيمنة ، والمركز .
فلا الفلسفة الإغريقية في الإمبراطورية الرومانية وريثة الإغريق ، ولا التعاليم الزرادشتية ، إستطاعا حل القضايا الإجتماعية ، النابعة عن الإحتكارين .
الحروب تهدف دائماً إلى الإستيلاء على فائض القيمة ، وهي وسيلة لتركم رأس المال والسلطة . ممهورة بوصمة المدنية المركزية فالنزاعات الداخلية بين أطراف المسيحية كدين ، أفسحت المجال أمام حروب أكثر ضراوة وعنفا من تلك التي نشأت في الحقب الميثولوجية وإيديولوجياتها السائدة أنذاك ، في حين كانت تلك الديانة تسعى إلى السلام ونشره ولم تستطع النأي بنفسها عن الإنحراف عن أهدافها تلك . لا في حروبها المسماة بالصليبية في المشرق , ولا أثناء حروبها في المستعمرات .
أما الآشور والسريان والأرمن والهيلينبون في الأناضول ، وهم من أوائل من إعتنقوا المسيحية كنافذة أمل لحل قضاياهم الإجتاعية المتوقعة ، باتوا في النتيجة ضحايا مع ذاك الدين في روابطه مع المركزية المهيمنة ، من القوى الإحتكارية السلطوية للأقوام الأخرى في الشرق الأوسط ، (بينما تحولت مسيحية الغرب إلى سلطة ، على حساب رسالتها الجوهرية )، المناهضة للمسيحية في المنطقة .
على خلفية إرث السلطة الموروث من البيزنطيين والساسانيين تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى مركز مدنية للسلطات الإسلامية وتكاثرت السلطات ، والسلالات الحاكمة ، مع ذاك التفوق الحاصل ، مع إستمرار وتيرة الحروب والغزوات بكثافة أكبر .
على رؤى هذا الضوء ، يمكن تقييم الإسلام ، على أنه أيديولوجية للإحتكارين العسكري والتجاري ، إن لاحطنا نسبة تزايد عدد المدن في تلك الفترة ، مع تناقص مستويات التطور في المجالين الزراعي والصناعي .
لا يمكن الحكم على تلك المركزية الإسلامية سوى إخفاقها عن تتجاوز ، المركزية الإغريقية في تلك المجالات ، أي أنها بقيت تدور في إطارها . وعلى ضوء ذلك يمكن إعتبار عهد السلطات والدول الإسلامية ، هو آخر عهود السلطة المهيمنة للشرق الأوسط .
فمع إنقضاء القرن الخامس عشر ، سينتقل مركز الهيمنة المركزية ، وعن طريق البندقية ، إلى غربي أوروبا ، وإلى أمستردام الهولندية بالذات ولندن البريطانية .
يرى أوجلان ، بأن التقاليد الإبراهيمية ، اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ، أغرقت شعوب وأقوام الشرق الأوسط القديمة ، بأعقد القضايا وأكثرها إشكالية وتعقيداً ، وأسقطوا عليها وابلا من الكوارث الماساوية .
فالآشور والأرمن والبونتوس وغيرهم من الشعوب والثقافات ، وهم أعرق الأقوام التي إعتنقت المسيحية ، باتوا على حافة الإبادة ، على يد السلطات العربية ، التركية ، الفارسية والكردية المؤسلمة ، ويرى أوجلان أن لليهودية أيضا نصيب في ذلك ، وسنعرج على هذه القضية ، حين نتناول قضية القبيلة العبرية في دراساتنا القادمة ، الأمر الذي فتح الطريق ، أمام تحول الشرق الأوسط عموماً ، وبلاد الأناضول خاصة ، إلى صحراء مجدبة على الصعيد الثقافي ، فالمنطقىة التي تم حرمانها من هذه الشعوب التي تحمل في ثناياها وذاكرتها وأذهانها وتراثها التاريخي ، العلوم والفنون والصناعات والأدب والفلسفة ، كانت خسارة مأساوية للمنطقة وشعوبها ، زاد من حجم القضايا الإجتماعية ، واضعف قوى الحل .
كل ذلك يمثل خسارة وضياع مجتمع المنطقة لذاكرتها ، ومهاراتها ، في كل تلك الجوانب المذكورة ، وكان سببا رئيسيا ، لخروج المدنية من مهدها الشرق الأوسط ، إلى أوروبا .

زر الذهاب إلى الأعلى