دراساتمانشيت

موجز فكري سياسي قانوني في مفهوم اللامركزية الديمقراطية

اعداد: سيهانوك ديبو

مقدمة

ليس بالسر حين القول بأن أغلب المفاهيم التي تتبناها اليوم وتتضمن في مبادئ الأمم المتحدة تنحدر من مرحلة الامبراطوريات أو أثناء تحول الحداثة الرأسمالية من مرحلة التجارية إلى مرحلة الصناعية. فعندما هجرت الدول الاستعمارية سياسة المركزية في إدارة شؤون مستعمراتها ولجأت إلى تطبيق الحكم الذاتي بهدف تحويل رابطة الاستعمار بينها وبين مستعمراتها إلى علاقة اشتراك بمعنى آخر بقاء المستعمرات في حالة تبعية لكن في إطار جديد هو الحكم الذاتي. ومن هنا كانت العلاقة بين الطرفين على أساس مبادئ القانون الدولي العام، غير أن التحولات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وتبنيها لنظام حماية الأقليات ونظام الانتداب جعلت مفهوم الحكم الذاتي يعرف تطوراً أساسياً، فقد تمكنت الدول الاستعمارية من إيجاد صيغة قانونية لاستمرار هيمنتها الاستعمارية وذلك عن طريق تطبيقها لنظام الحكم الذاتي في مستعمراتها. وقد أدى هذا التطور الذي شهده مفهوم الحكم الذاتي إلى خروجه من نطاقه الضيق كعلاقة داخلية إلى المجال الدولي واكتسابه بعد ذلك بعداً قانونياً دولياً. وتم التنصيص عليه بعد ذلك في ميثاق الأمم المتحدة في الفصول 73 و74 و76. لا يقتصر هذا على مفهوم الحكم الذاتي فقط وإنما إلى مفاهيم الفيدرالية والكونفدرالية؛ بخاصة التي ظهرت أشكالها ما بعد الحرب العالميتين الأولى والثانية واختفاء بعضها بشكل نهائي. كما أنه ملاحظ بأن هذه المفاهيم لا يمكن تطبيقها بالشكل نفسه في بقية البلدان التي تمتلك نظام الحكم نفسه إن كان فيدرالياً أو اتحادياً أو كونفيدرالياً. ففيدرالية ألمانيا تختلف عن نظيرتها في البرازيل، والاتحادية الروسية تختلف عن الاتحادية الإماراتية أو الإمارات المتحدة، كما أن الكونفدرالية في عهد الاتحاد السوفياتي تختلف كلياً عن الكونفدرالية الأوربية. هذا ينطبق على مفهومي اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية؛ الأخيرة التي تختلف في كل بلد على حدا. ففي مثال اللامركزية الإدارية الفرنسية التي لها جهة وظيفية اقتصادية و إدارية و ترابية. ويضاف إليها السياسية في إيطاليا، وعنهما عن المعمول به في مصر وعموم دول المغرب العربي.

وفق ما تقدم، وعلى اعتبار أن القانون يمثل روح المجتمعات؛ فإنه حريٌّ بنا كسوريين البحث عن قوانين ملائمة لخصوصيتنا التعددية السورية. لا علاقة ولا استدلال بذلك بالقطع مع الإنجازات القانونية والسياسية وفي مجال علم المصطلح العالمية إنما التأكيد على التكامل والتتام. ومنطلقاً من ذلك نشأت مصطلح اللامركزية الديمقراطية. ورأت النور في مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة 7/8 حزيران 2015 في وثيقة العهد السوري. وتبنته مجلس سوريا الديمقراطية المتأسس بدوره في 8/9 كانون الأول 2015 في مدينة ديرك كأول جسم سياسي؛ ائتلاف لقوى وأحزاب وشخصيات سياسية وأكاديمية.

تعريف اللامركزية الديمقراطية

مفهوم إداري سياسي مجتمعي. من نتاج البحث عن حل الأزمة السورية. يحقق التحول الديمقراطي ويضمنه من خلال مشاركة فعلية للمناطق والسلطات المركزية على أساس مبدأ تقاسم السلطة. ويحقق أقصى حد للتغيير الجذري الشامل في بنية النظام المركزي عبر صلاحيات محددة للمركز، وأخرى للمناطق التي تدار ذاتياً، وآخرها عبر صلاحيات مشتركة ما بين المركز والإدارات الذاتية. وتعتبر الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال سوريا وشرقها التجسيد الإداري لمصطلح اللامركزية الديمقراطية.

في مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية

في القانون الدولي العام لا يوجد مسمى للإدارة الذاتية. لكن هذا لا يعطينا الحق أن نطوع مجتمعاتنا وفق قوانين أسست بناءً على خصوصية علاقات طارئة أو مستقرة لمجتمعات تبتعد في تاريخها وحاضرها وبالتالي مستقبلها عن تاريخ وحاضر ومستقبل المجتمعات التي ظهرت فيها مفاهيم كمثل الحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية. تكاد تكون بعضها غريبة أو غير مؤدية و مفيدة كحل للمشاكل العالقة في الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه بمجرد عدم وجود نصوص في القوانين الدولية تحت مسمى الإدارة الذاتية لا يمنعنا كسوريين أن نفتش عن حلول ناجعة و ناجحة تلائم خصوصية المجتمع السوري بخاصة إذا ما أدركنا بأن الكل السوري من مختلف موقعه أو تموقعه السياسي يعترف بأن سوريا تتألف من نسيج وفسيفساء اثني وقومي وديني وطائفي؛ فما يلزم هنا بعد هذا الاعتراف وقبول هذه الحقيقة البحث عن تمثيل قانوني لهذه الحقيقة. وهنا وجوب ضرورة التذكير في مسألة الخصوصية والعمومية مسألة مهمة. فخصوصية المجتمعات لا تنفي ضرورة التواصل بينها والمحيط الأممي الذي ينتمي إليه المجتمعات.

يمكن القول بأن /self- management/ الادارة الذاتية من وجهة نظر سيسيولوجيا القانون، معيار يتحقق من خلاله أن تحكم مناطق الإدارة الذاتية مكونات المنطقة القومية والدينية وفعالياتها المجتمعية، ويقصد بها أيضاً “صيغة قانونية لمفهوم سياسي يتضمن منح نوع من الاستقلال الذاتي الديمقراطي للمناطق لأنها أصبحت من الوجهتين السياسية والاجتماعية جديرة بأن تتشاطر السلطة والمركز”. كما أن مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية من المفاهيم ذات الصيغة الاجتماعية – السياسية تظهر بسبب الحاجة لمثل هكذا مفاهيم نوعية تراعي الواقع ولا تحاصره؛ لا بل تفك الحصار عن المجتمع من خلال قوانين ومراسيم السلطة الشديدة المركزية. موضوعها من صلب الواقع وليست مفروضة عليها، فهو كقانون اجتماعي سياسي تقوم بالتعامل مع المحددات الموجودة في المجتمع ومن كل جوانبه؛ فتقوم بتشكيل حكم محلي إداري له تمثيل في المركز من خلال البرلمان العام والوزارات العامة. لأن الإدارة الذاتية الديمقراطية تتمتع بخصوصيّة التعامل مع الواقع المُعاش وتقبُّلها للإنسان دون تميّيزٍ للعرقِ أو للدينِ أو للّون أو للمذهب.

يستوجب على مشرعي القانون العام الداخلي في سوريا المستقبلية – التعددية الديمقراطية. والتي أسهمت ظروفها المشهودة ما بعد 2001 بحراك رفضي لممارسات الاستبداد في كل مناحي الحياة السورية والاجتماعية والسياسية. على المشرعين أخذ كامل الحيطة والحذر والانتباه إلى أن سوريا مكون من قوميات أو جماعات متباينة، وأن تفضي جهودهم القانونية وتشريعاتهم الاجتماعية التي هي روح القوانين إلى محاولات إظهار الروح القانونية المجتمعية في مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية الطابع القيمي الحضاري للإدارة الذاتية، وذلك بتصويره فكرة مستمدة من مبدأ تقرير المصير الديمقراطي بالانتماء إلى سوريا، والقيام بتنظيمها في إطار قانوني ليكون أساس لحل القضيتين الديمقراطية والكردية، وحل اشكالية تحقيق التكامل والتمثيل للدولة السورية.

ويمكن القول أيضاً بأن المقصود بالإدارة الذاتية قانونياً إنما هو نظام قانوني وسياسي يرتكز على أسس تحقيق نظام لا مركزي، مبني على أساس الاعتراف بالشعب الكردي ضمن الدولة السورية وضمان حق الكرد والمكونات الأخرى في إدارة شؤونهم بالتنسيق بين سلطة الإدارة المتشكلة والسلطة المركزية. ولهذا فهو في نطاق القانون الداخلي أسلوب للحكم والإدارة في إطار الوحدة القانونية والسياسية للدولة السورية.

أهداف اللامركزية الديمقراطية

رفع اللامركزية  السورية من مستوى الإدارات المحلية  إلى مستوى الإدارة الذاتية في تمكين المكونات المحلية من إدارة شؤونها الذاتية عن طريق مجالس وهيئات منتخبة محلياً وتتوافق عليها هذه المكونات في الوقت نفسه بهدف تحقيق الديموقراطية على الصعيد المحلي، ومشاركتها في إنماء المناطق من خلال تحقيق التنمية المستدامة فيها، مع اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق السورية وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا تحقيقاً للعدالة الاجتماعية. تتطلب تجنيد جميع الطاقات والإمكانات البشرية وتهيئة الأطر الجغرافية المناسبة على مستوى الوحدات الإدارية المختلفة لاستيعاب عملية التنمية الشاملة والمشاركة فيها، بحيث ينظر إلى إقليم الدولة كوحدة إنمائية متكاملة، وبما يحقق هدف الإنماء المتوازن، والذي يعتبر من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، ومن هنا يتبين ما للامركزية الديمقراطية من آثار إيجابية على العيش المشترك. وهي بهذا المعنى تشكل عنصر وأداة جذب وليس أداة طرد.

وأن في مفهوم اللامركزية الديمقراطية، تصبح اللامركزية الإدارية في مستوى الإدارة المحلية جزء من النظام الإداري المحلي أي جزء من الإدارة الذاتية وليس عوضاً عنها، تظهر مضامينها وجوهرها وتساعد على فهم حقيقة مكوناتها.

 أبعاد اللامركزية الديمقراطية

تتضمن أبعاداً ست؛ هي: البعد النظري الفلسفي والبعد التنظيمي الإداري والبعد السياسي الديموقراطي والبعد الاقتصادي الإنمائي وبعد الحماية الذاتية وبعد العدالة الاجتماعية.

أولاً:  البعد النظري الفلسفي، الامة الديمقراطية من اهم المبادئ التي تبنى عليها اللامركزية الديمقراطية. فمثلما نقول ان نظام الدولة القومية المركزي قد فشل ولا فائدة مرجوة من إعادة إنتاجه ولا يعبر عن حقيقة المجتمع السوري المتنوع الثقافات، فإن اللامركزية الديمقراطية عبر نموذج الإدارة الذاتية أيضا ترفض ان تكون على أساس قوموي او ديني-طائفي؛ وهو في الوقت نفسه يؤكد على خصوصية كل الثقافات وتنظر إليها في سياق تفاعلها القيمي وليس حربها أو احتجابها واحتجازها. لهذا فالأمة الديمقراطية المبنية على أساس تكامل الثقافات والهويات القومية، هي أساس نظام الإدارة الذاتية. ففي ثقافة الامة الديمقراطية لا يوجد انكار لأي هوية قومية او ثقافة دينية مجتمعية. على العكس تماما هناك انعاش للثقافات من خلال ضمان وجودها بمبادئ فوق دستورية. البعض يتمنع من ذكر اسم طائفة او قومية، ظناً منه أن مجرد ذكرها يعني التحديث عن الانشقاقات والتقسيم، علماً أن عكسه ومن خلال الكبت وسياسات الإنكار والتعويم أو الالتفاف عليها؛ تظهر ميول الانشقاقات.

كما إن الحقوق الفردية والجماعية يكملان بعضهما البعض في الأمة الديمقراطية، فهي لا تشمل فقط المواطن بل تشمل أيضاً مجموعات المجتمع المدني والجماعات والإثنيات المختلفة باعتبارها مفعمة بالتنوع في مضمونها، وبقدر ما يصبح المواطن عضواً منظماً في التجمعات المنظمة يغدو أكثر فاعلية في هذا المجتمع.

ثانياً- البعد التنظيمي الإداري للامركزية الديمقراطية، ما من دولة في عصرنا الحاضر إلا وتعتمد نظاماً لامركزياً، على الصعيد الإداري، إلى جانب النظام المركزي. وتقوم اللامركزية الديمقراطية على تنظيم الجهاز الإداري في الدولة بشكل يسمح بتعدد أشخاصها الإدارية على أساس محلي، ومؤداها استقلال جزء من أرض الدولة بإدارة مرافقة ويكون للشخص الإداري اللامركزي في هذه الحالة اختصاص عام بالنسبة لهذا الجزء المحدد من أرض الدولة. ويفترض التنظيم الإداري تحديد العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات اللامركزية المتمثلة بالإدارات الذاتية، وبالتالي، توزيع الصلاحيات الإدارية بين السلطة المركزية، من جهة، والسلطات المحلية. من جهة ثانية، بما يحقق الاستقلال الذاتي للهيئات المحلية بإدارة نفسها بنفسها، دون المساس بوحدة الدولة، ذلك أن اللامركزية الإدارية وإن كانت تؤمن استقلالا ذاتيا للجماعات المحلية، إلا أنها تعيش في حضن السلطة المركزية، وعليه، يجب فهم اللامركزية الديمقراطية على أنها ليست تبعية وليست استقلالاً.

ثالثاً: بالنسبة إلى البعد السياسي للامركزية الديمقراطية، تقوم هذه اللامركزية على مشاركة المواطن في إدارة الشأن العام، وبالتالي، فهي ترتكز إلى قاعدة ديموقراطية مؤداها مشاركة الأهالي في القرار وفي إدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم من خلال الانتخابات، وقيام الدولة بتعزيز المناخ الديموقراطي في البلاد وتوفير مناخ الحرية الذي يكفل التعبير عن إرادة المواطن وإطلاق قدراته وإمكاناته وملكاته الفكرية والانتاجية. والانتخاب، على الصعيد المحلي هو شرط أساسي لتحقيق اللامركزية الديمقراطية، لأن النظام اللامركزي هو امتداد للفكرة الديموقراطية على المستوى المحلي. هذا الانتخاب هو الذي ينمي مستوى معين من الثقافة الديموقراطية ويحقق قدراً من المشاركة الشعبية ويقوي الولاء الاجتماعي ويدفع المواطن إلى الاهتمام بالشؤون العامة وحمل المسؤولية. لأن اللامركزية الديمقراطية بحد ذاتها نظام ذو طابع قيمي غير تنميطي، لاسيما إذا نظر إليها من زاويتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، كما أنها ليست نهجاً أو أسلوباً من الأساليب الإدارية فحسب، ولكنها موقع اجتماعي لممارسة الحريات الديموقراطية على الصعيد المحلي. وأنها مؤسسة ديموقراطية ومدرسة للحريات السياسية. فالعلاقة بين اللامركزية والديموقراطية إذن هي علاقة عضوية وليست علاقة عارضة أو سطحية، وهذه العلاقة أفرزت علاقة أخرى متممة، وهي علاقة اللامركزية بالانتخاب نظراً لارتباط الديموقراطية بفكرة الانتخاب بالحد المتعارف عليه تاريخياً والمعمول به حتى اليوم. وعلى هذا الأساس يحكم البعد السياسي الديموقراطي للامركزية فكرتان، فكرة المشاركة في إدارة الشأن العام الإداري على الصعيد المحلي وفكرة انتخاب الهيئات المحلية من قبل المكونات المحلية، ومن خلال منح بعض الجماعات القومية حصة تمثيل لها غير خاضعة لمعايير الانتخاب/ كوتا.

رابعاً: البعد الاقتصادي- الإنمائي للامركزية الديمقراطية، ذهبت مقدمة العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها في تركيزها على الإنماء المتوازن للمناطق وأهميته في بناء الوطن ومستقبله، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إلى حد اعتباره ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام السياسي، وأثبتت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية صحة ذلك؛ على الرغم من حالة الحرب والحصار المفروض على مكونات شعب شمال وشرق سوريا وروج آفا. والإنماء المتوازن للمناطق يفترض أمرين، دور أساسي للدولة في القيام بعملية الإنماء المتوازن يؤكد على وحدة الدولة والمجتمع ويؤمن التوازن بين المناطق والفئات المجتمعية. ودور للمناطق في عملية الإنماء يؤكد على مشاركة المناطق من جهة، وتكتمل بها الخطة الإنمائية الموحدة الشاملة للبلاد من جهة ثانية. وينطوي هذا البعد الاقتصادي والإنمائي للامركزية الديمقراطية على فكرة العدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي اللتان تعتبران ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة ووحدتها والسلام الاجتماعي في الوقت نفسه، فضلا عما تنطويان عليه من تعزيز وتحصين للعيش المشترك وأخوة الشعوب ووحدة مصيرها واستقرار النظام السياسي كوحدة إدارية واحدة. فقرار التنمية المستدامة قرار سياسي، وهذا يعني أنه من مسؤولية الدولة، وعلى عاتقها تقع عملية البناء والإعمار والإنماء، ولكن هذه العملية لا تكتمل إلا بمشاركة المواطنين جميعا ومختلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في تحمل هذه المسؤولية وذلك عبر تمثيلها في الإدارات الذاتية. فلا يجوز إهمال البعد الاقتصادي في اللامركزية الديمقراطية لأن هذا الإهمال يؤدي إلى التفاوت بين المناطق في حال عدم قيام السلطة المركزية بضبط عملية التنمية على المستوى الوطني.

خامساً: بعد الحماية الذاتية، تـأكّد علمياً بأن كل كائن يملك نظاماً دفاعياً خاصاً به بشكل طبيعي، اعتباراً من الأحياء ذات الخلية الواحدة ومروراً بالإنسان والنباتات والحيوانات. لذا فإن المجتمعات البشرية التي تمتلك مستوىً راقياً من الذكاء الطبيعي أو الشرطي لا يمكنها التخلي عن آلية الحماية الذاتية، فالحروب المندلعة مرتبطة عن قرب بالمفاهيم المنحرفة عن الحماية الذاتية التي خلقتها الأنظمة الحضارية المدينية/ تسلط المدنية/ في التاريخ. ففي المجتمعات الطبيعية اعتبرت عملية الحماية الذاتية من المهام الأولية للدفاع عن كيانهم ووجودهم تجاه الهجمات المميتة لقوى الطبيعة الخارقة، وفي مواجهة الصراعات التي كانت تنشب فيما بينها، وفي مراحل الحضارات الهرمية والامبراطوريات، لجأت المجتمعات الديمقراطية والأفراد الأحرار إلى الدفاع عن أنفسهم واعتبروا مبدأ الحماية الذاتية حقاً مقدساً لهم لمواجهة عمليات الاضطهاد والاستغلال الناجم عن عناصر الحداثة الرأسمالية (الدول القومية، الربح الأعظمي، والصناعوية)، لذا توجد حاجة ملحة لإيجاد حلول لمشاكل الحماية الذاتية لكافة مكونات الشعب من الأفراد والجماعات الحرة.

إن الافتقار لنظام دفاعي ذاتي في المجتمع لا يمهد السبيل أمام العبودية الاقتصادية فحسب، بل يؤدي إلى استفحال البطالة والأمراض الاجتماعية أيضاً، والأنكى من ذلك يجلب مخاطر الإبادات العرقية، الثقافية والجسدية، وعلى هذا الأساس فان الهجمات الناجمة عن النظام الحداثوي الرأسمالي تجبر المجتمعات الديمقراطية بشكل عام والأفراد الأحرار بشكل خاص على الدفاع عن ذواتهم، وفي حال إخفاق آلية الحماية الذاتية فإنهم لا يتعرضون فقط لخطر فقدان حريتهم بل يتعرضون لخطر الزوال أيضاً. انطلاقاً من هذه الحقائق ،يتوجب على المجتمع الديمقراطي ان يطور آليته في الحماية الذاتية عبر تنظيم كافة شرائحه.

النموذج المتطور في مناطق الإدارة الذاتية ليس بنموذج مؤقت ظهر نتيجة ظروف الحرب كما يتوقعه او يحلله البعض، الحماية هي حاجة مجتمعية، وليس بالضرورة ان تكون الحماية مسلحة، انما الحماية لها جوانب متعددة، سياسية، قانونية، ثقافية، وأخيراً العسكرية. عند تطبيق اللامركزية الديمقراطية في نظام الحوكمة السورية هذا يعني، بأن وظيفة الامن الداخلي المحلي يكون تابعاً لإدارتها الذاتية وسيكون المنتسبين إليه من سكان تلك المنطقة. كما أن ذلك يتناول أيضاً مسألة الجيش الوطني الحيادي الذي يكمن وظيفته في تحقيق الأمن الوطني وحماية السيادة من أي خطر عسكري؛ في انتساب المجندين من سكان المنطقة في الحماية، علماً بأن نظام الجيش بشكل عام هو من صلاحية الإدارة المركزية، وتكون فيه القيادة المحلية جزء من منظومة الدفاع المركزية.

سادساً: بعد العدالة الاجتماعية، للإدارة الذاتية مجالها أيضاً في مسألة القضاء وسن التشريعات المحلية غير المتعارضة مع القوانين العامة وروحية العقد الاجتماعي/ الدستور السوري الجديد. ويتضمن هذا المجال من خلال مجالس العدل ولجان الصلح التي تعتمد الصلح الاجتماعي في اغلب القضايا التي لا تضمن الجرائم والتعدي على الحق العام. المحاكم تكون محلية مع توحيد قوانين الجزاء في كامل البلاد. كل كومين له عدة وظائف من بينها تأسيس لجنة الصلح المجتمعي في الحيّز الجغرافي الذي يتشكل فيه الكومين بغض النظر عن انتماءاتهم الثومية والدينية والطائفية. إذْ تهدف الإدارة الذاتية لتحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية، تقوم في ذلك المجالس واللجان بدور التكامل والتعاضد، ويحقق إلى معرفة وإدراك معنى العدالة. فالعدالة إدراك وليست سوط موجودة أو متخفية في القوانين. يجب معرفة بأن الفعاليات المجتمعية التي سبقت تأسيس نظام الدول لها تجربة متقدمة عن القوانين الوضعية. إلى الآن نرى أن بعض العشائر والقبائل تنحو مناحٍ معينة حققت نتائج متقدمة في الردع الاجتماعي وتحجيم الجريمة. أي أن اللامركزية الديمقراطية على وشيجة مباشرة وفكرة تحقيق العدالة الاجتماعية بكل أبعادها.

خلاصة

اللامركزية الديمقراطية تشبه نفسها. ظهرت لأول مرة بعد استفحال الأزمة السورية وفشل لُقيان الحل. فتكاملت مع المفاهيم السابقة والجهود الحثيثة غير المنقطعة التي تقوم بها العالمية والبشرية في رحلتها الدؤوبة عن الديمقراطية. تعتبر الحل الأمثل للأزمة السورية. تتحقق فيها نقلة نوعية من شكل الحوكمة السورية من المركزية الشديدة إلى اللامركزية؛ متضمنة في ذلك أقصى درجة مشاركة لشعب سوريا في اتخاذ القرارات وتحقيق مصيره وتحديد أدواره. في ذلك فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا نموذج هذه اللامركزية على أساس الجغرافية وتمثيل إرادة المكونات السورية، كما أنها تعتبر رافعة نهضوية لتحقيق الانتماء إلى سوريا وتأسيس دولة المواطنة.

زر الذهاب إلى الأعلى