دراسات

طبائع المرحلة الجديدة والتحديات التي تواجه الإدارة الذاتية ما بعد داعش

لا يختلف اثنان حول نتيجة عنوانها أن داعش لم ينتهِ بعد. المنتهي هو دولة التمكين؛ هكذا سمّاها التنظيم في صيف ساخن لن تنسى لظاها شعوب سوريا والعراق بشكل خاص الشعب الكردي والكرد الإيزيديين. وبقدر ما فتكت (الدولة السوداء) وقدمت أشكال مرعبة من الجرائم بمختلف أقضت المضاجع وسفكت فيها الدماء. يخال للمرء كأن زنبرك التاريخ أرجع وقتها لزمن مقضي؛ كان حسابه في حكم أنه زمن ولّى، واقتصر في/ على عهد السبي وأسواق النخاسة المعروفة. زنبركة الزمن الأسود يلزمها أفاعيل وأفكار منفعلة منفلتة. حدث كل هذا جرّاء تمدد الوحش الأسود تحت اسم دولة الإسلام في العراق والشام؛ عاصمتها الرقة أو ما سموها بولاية البركة. اعتمد التنظيم الإرهابي في أوج تمدده النموذج الإداري المعروف والمعمول به في عهد السلطنة العثمانية. لكن وفي ظل الهزيمة التي ألمّت به اليوم على يد قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي ضد الإرهاب يقوم قادة التنظيم وأركانات القرار المسيّرة لأحواله بتعديل المسمى الإداري إلى (الولايات الأمنية) بدلاً من (ولايات الخلافة). أي أنه من الخطأ الاحتساب بأن داعش ولّى. هو بالأساس موجود في شرق الفرات وبكثافة ملحوظة ووجود خطر في غربه. والتوقع الأسلم بأن الهجوم يزداد وتيرة في شرق الفرات؛ فلا شيء يخسره هذا التنظيم؛ توحشه يكون في انتقامه وكل الاحتمال بأنه سيلقى الدعم الكبير بحسب أيها الجهات التي ليس من مصلحتها حل الأزمة السورية وفق مساره السياسي؛ وفق شكله الأنجح المتمثل بالإدارة الذاتية. بخاصة إذا ما أدركنا –وهذا الشيء تم تلمسه منذ البداية الأولى لداعش- بأن موجود ومستباح ويتم استخدامه من عدة جهات. أي أن أمام قوات سوريا الديمقراطية قسد مهمة أمنية صعبة طويلة وشاقة. لا تنفصل هذه المهمة من مهمة الدفاع عن مكونات شمال وشرق سوريا منذ سبع سنوات بشكل فعلي، وهي بالمهمة المتصلة التي يطرأ عليها إضافة أخرى؛ فإلى جانب الدفاع تتكفل قسد بملاحقة الذئاب المنفلتة وفي الوقت نفسه الخلايا التي تنتظر اللحظة التي تتنشط فيها. إلى جانب مهمة قسد الكبيرة هذه سيكون أمام مجلس سوريا الديمقراطية بمختلف تكويناته السياسية، وبشكل ملفت للمظر أمام الإدارة الذاتية كجسم إداري يتكون من قوى وأحزاب وشخصيات وفعاليات ومؤسسات مجتمع مدني العمل سوياً لاجتثاث الفكر الإرهابي. وردم أيها المتشققات التي حصلت حتى نمت داعش وأصبحت بهذا الحجم. بالأساس فإن فكر الأمة الديمقراطية معد لإنهاء كل فكر نمطي، وكل فكرة فئوية تعادي التكوين المجتمعي والتعدد الذي يحظى به المجتمع السوري، وعموم مجتمعات الشرق الأوسط. فلولا فكرة الأمة الديمقراطية لما كان بالإمكان هزيمة داعش في مرحلة دولة التكوين والتمكين والتوحش. والدعم الذي تلقته قوات سوريا الديمقراطية يجب أن لا يتم التقليل منه ولا عدّه الحاسم الوحيد، الأعدل هنا أن يتم النظر إلى هذه الشراكة بأنها الضرورية والأسلم للأسرة الدولية. وفي ذلك فإن برقية الرئيس الفرنسي ماكرون يوم اعلان النصر على الدولة داعش بأن فرنسا باتت اليوم أكثر أماناً؛ تعبر عن حقيقة بأن العائلة أو الأسرة الدولية ما تزال تحتاج أن تكون سوياً. وهذا ما يستدعي إحداث تغيير جذري في مفاهيم الأمم المتحدة؛ ربما إلى الشعوب أو المجتمعات المتحدة. فلا يستثنى منها أحد. لكل شعب ثقافة يجب إدراكه ومعرفته من قبل الآخرين، فلا يكون قضية التمثيل شرط عن طريق احداث دولة فقط. مفهوم الدولة القرن العشرين كان السبب في إحداث إبادة لثقافات وشعوب أصيلة لا نرى منها سوى النذر اليسير. أي أن قيم المجتمع العالمي؛ أو العالمية نالها الكثير من التخريبات والتجني؛ وقد حان وقت مناولتها بشكل عادل ديمقراطي. على الرغم بأن هذا الموضوع بحاله ولحاله ومن حاله.

أما عن وجود داعش في غربي الفرات فإنه بات بالأمر المرصود له. موجود في ريف ألبو كمال، وفي البادية السورية من كهوفها، وفي ريف السويداء، وعلى تخوم درعا من منطقة وادي الموت. ولكنها الموجودة في إطار التمكين الإداري أي أنها تدير بشكل فعلي إدلب وعفرين، وأحد أهم مركز القرار في تحريك داعش سواء في شكل الذئاب المنفردة أو الأشكال الأخرى فإنها تطبخ في مناطق ما يسمى بدرع الفرات (جرابلس، الباب، واعزاز). فهل يحق لأحد القول بأن داعش انتهى؟!

لكن ما هي التحديات التي تواجه الإدارة الذاتية، وعن سبل التصدي لها؟

بالرغم من أنها تصنف كلها دون استثناء بالتحديات؛ ويجب تناولها بالرزمة الواحدة، لكن يجب مناولتها من باب أيها تشكل الأكثر خطورة. لذا فإن الاعتقاد في ذلك يكون الآتي:

1-  تشير الأرقام الرسمية بأن عملية عاصفة الجزيرة التي قضت فيها على آخر معاقل الدولة السوداء داعش؛ إلى وجود حوالي 60 ألف شخص متمكّنٌ فيه الذهنية الداعشية تم تحييدهم. واستسلامهم. قبل اعلان النصر. ما بين هؤلاء أكثر من 5000 مقاتل داعشي؛ يجب التوقع هنا بأن هذا العدد لن يخلو من قيادات الصف الأول للتنظيم. ومن الصعوبة إن لم نقل من الاستحالة تحمل الإدارة الذاتية مسؤولية هذا العبء وحدها. في ظل عدم استجابة أو بوجود استجابة خجولة من بعض العواصم في تناول هذا الملف. علماً بأن بعض العواصم سرعان ما أسقطت الجنسيات عن المسجلين/ ات بالخطر عوضاً عن التعامل بمسؤولية في ذلك؛ علماً بأن هؤلاء ينتمون إلى أكثر من 50 جنسية عربية وأجنبية. والأسلم هنا والأسرع إنشاء محكمة دولية في مناطق الإدارة الذاتية متوافق عليها من قبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. يتم محاكمتهم في الأرض التي ارتكبوا فيها الشرور واقترفوا الذبح والتنكيل. حينها ستبدو محكمة هؤلاء بالأكثر اقتراباً وتلامساً لإطار المنحى الأخلاقي ومن ثم القيمي. من الحكمة ومن الأخلاق ومن المنطق أن يتم محاكمتهم في الأمكنة نفسها التي اقترفوا فيها الشرور. مع الإشارة بأن تفاصيل كثيرة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وأن يكون رأي الإدارة الذاتية هو الأساس. طالما يوجد لديها عقد اجتماعي وقوانين يمكن عدها في تأسيس هذه المحكمة بالأساس.

2- علماً بأن هذا التحدي لا يقتصر على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ إنما على كل سوريا، سوى أنه من المهم إدراجه هنا. تحدي العملية التفاوضية الجوهرية ما بين السلطة في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية مسد. في هذا فإن دمشق تعتمد سياسة الباب المغلق، أو الباب الموارب أمام المصالحة فقط. علماً بأن العملية التفاوضية أو الحوار البناء شيء، والمصالحة شيء آخر مختلف. المصالحات التي تمت في أمكنة معينة كما حدث في الغوطة وحدث في درعا بإشراف روسيا فإنها جرت بين طرفين متحاربين أوقعا المئات إن لم نقل الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين؛ تبعت تحت بند مثل هذه المصالحة استسلام من رضي وترحيل الآخرين إلى إدلب وعفرين بشكل خاص، أما الترحيل إلى عفرين فغايته مركبة وكمطلب تركي هو إلحاق الجريمة الأخيرة بعد عشرات الجرائم بحق شعب عفرين؛ أي جريمة التغيير الديمغرافي في عفرين. حدثت مصالحة ما بين السلطة في دمشق والجماعات المسلحة التي أثبتت بأنها وسائل ومشغِّلة للأجندتين التركية والقطرية مفادها سيطرة الاخوان المسلمين على سوريا. ربما كانت هذه المصالحة هي الخيار المتبقي أمام هذه الجماعات، والفرصة الوحيدة التي نالها المرحِّلون إلى عفرين وإدلب للاستمرار في القتل والعنف. لكن هذه المصالحة لا توجد لها أية أرضية في مناطق الإدارة الذاتية. توجد عدة أسئلة يصطدم بها من يفكر في ذلك. أهمها: هل شهد أحد حرباً ما بين السلطة في دمشق والإدارة الذاتية؟ لقد اتخذ الطرفان خيار المهادنة المفروضة سبيل لهما. لم تجد الإدارة الذاتية طرفاً أفضل من السلطة في دمشق ليستدل على أن هذه الإدارة غير الانفصالية وغير التقسيمية. على العكس تماماً فإن أفضل من عارض النظام المركزي الاستبدادي هم قوى وأطراف الإدارة الذاتية من خلال مشروعهم المجسد للامركزية الديمقراطية كمطلب ملح في طريق التغيير والتحول الديمقراطي السوري من منظام شديد المركزية إلى نظام لا مركزي ديمقراطي. وهنا لا بد من التذكير بأن موسكو الأكثر قدرة –بما لها تأثير حاسم على السلطة في دمشق- أن تقوم بدور الراعي البنّاء لعملية تفاوضية حقيقية سوريّة سوريّة تكون أحد أهم المخرجات الاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

3- التحدي الخطير الذي لا يغيب حتى اللحظة متمثل بالخطر التركي على سوريا بشكل خاص وعلى عموم المنطقة بشكل عام. وبالرغم من مخالفة تركيا للقانون الدولي المتعلق بمنع الدول من التعدي على سيادة الدول الأخرى، ومنع أي ضم قسري لأرض بلد جار ذات سيادة وشخصية اعتبارية؛ فإن تركيا اليوم تحتل ضعف مساحة لبنان من المناطق السورية. ويبقى احتلالها لعفرين الجريمة والمخالفة الكاملتين المستوجب معاقبة تركيا وإلزامها على الخروج.  إذْ وكشأن متعلق فإنه على السلطة في دمشق فتح الباب المغلق الذي تعتمده حيال عملية حوار بنّاء وتفاوض جوهري مع مجلس سوريا الديمقراطية؛ الأسلم لكلينا أن يبدأ الحوار. فإنه في أي لحظة يبدأ فيها الحوار البناء سيكون بمثابة القطع على تحديات تهدد السيادة السورية من قبل أغلب المتدخلين في سوريا وفي شكل خاص من قبل نظام الاحتلال التركي. كما أنه يجب على دمشق ومختلف العواصم العربية أن تنظر إلى الإدارة الذاتية كصمام أمان وخط مواجهة مُفشِّل للطموحات العدوانية التركية. وبأن الاعتراف بالإدارة الذاتية إنما يكون بالخطوة الحقيقية لاستعادة سورية وإفشال أي محاولة تقسيم وسلخ وفصل مناطق منها. الجميع يعلم بأن تركيا باتت اليوم مركز خطر بما تؤكد الحقائق مدى تورطها بدعم المجموعات الإرهابية أبرزهم داعش والنصرة وحراس الدين والتركمنستاني وعموم الجماعات المسلحة المرتبطة بالإخوان المسلمين والقاعدة.

4- أكلاف الحرب وأثمانها الباهظة المؤدية إلى انهيار أو تقويض البنية التحتية. إنما يشكل بحد ذاته تحدياً يستوجب على ال (79) دولة متحالفة مع قسد حتى إنهاء الإرهاب جغرافياً والقضاء على دولة التمكين السوداء أن تكون داعمة لمناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ودعم بناء المؤسسات الديمقراطية وإعادة الإعمار وعموم مسائل الشأن الإنساني في هذه البقعة الجغرافية التي قدمت أبنائها وبناتها أغلى ما لديهم. لا يكاد أن يكون بيت في مناطق الإدارة الذاتية إلّا وكان من عوائل الشهداء. تأسيس البنية التحتية وخلق الكادر البشري المؤهل وتنمية الموارد البشرية هي مسائل يجب أن تكون مسؤولية انمائها مسؤولية الجميع. من حيث أن محاربة الفقر لا يقل شأناً عن محاربة الفكر التكفيري، واجتثاث الإرهاب يبدأ تنمية مستدامة.

كملخص مكثف.

 تحديات جمّة تظهر اليوم أمام قسد ومسد. داعش لا زال موجوداً بالرغم من انهاء قسد مدعوماً بالتحالف الدولي لِ(دولة التمكين) التي أعلنها التنظيم الإرهابي داعش في العام 2014. داعش يطرح هذه اللحظات فكرة سوداء تزيد خطورة سابقاتها؛ بمسمى الولايات الأمنية مستعيضاً بها مسمى ولايات الخلافة. أي أن تعويل داعش يكون على الذئاب المنفردة والخلايا التي تتحين لتنشط مرة أخرى؛ نتحدث هنا عن شرق الفرات. أما في غربه فإن داعش موجود بقوة في عفرين وفي إدلب ويلقى التدريبات في مناطق ما يسمى بدرع الفرات، موجود في كهوف بادية الشام، وفي ريف ألبوكمال وريف السويداء، وبقوة في منطقة وادي الموت على تخوم درعا. أمّا أعداد أسرى داعش وعوائلهم فإنها تفوق ال 50 ألف من 48 جنسية عربية وأجنبية وهذا يعتبر معضلة كبيرة لا تستطيع الإدارة الذاتية في شمال سوريا أن تتحمل مسؤوليتهم وحدها. الخطوة الأسلم هنا تأسيس محكمة دولية في شمال وشرق سوريا بتفاصيل متفق عليها والإدارة الذاتية.

الباب المغلق الذي تعتمده دمشق حيال عملية حوار بنّاء وتفاوض جوهري ما بينها ومسد حان وقت فتحه. جعله مغلقاً على طول الخط أو موارباً لعملية المصالحة لا نعتبره مفيداً . من المفترض أن لدمشق المعرفة والإدراك بأن المصالحة شيء والحوار البنّاء شيء آخر. بالأساس المصالحة أنتجتها ظروفها وتم تفعيلها ما بين دمشق وجماعات مسلحة تحمل أجندة غير خادمة لشعب سوريا والتي لا تنطبق على دمشق ومسد. الأسلم لكلا الطرفين أن يبدأ الحوار للقطع على تحديات تهدد السيادة السورية من قبل أغلب المتدخلين في سوريا وفي شكل خاص من قبل نظام الاحتلال التركي. يجب على دمشق ومختلف العواصم العربية أن تنظر إلى الإدارة الذاتية كصمام أمان وخط مواجهة مُفشِّل للطموحات العدوانية التركية؛ فالاعتراف بالإدارة الذاتية إنما يكون بالخطوة الحقيقية لاستعادة سوريا وإفشال أي محاولة تقسيم وسلخ وفصل مناطق منها.

سيهانوك ديبو

زر الذهاب إلى الأعلى