دراسات

القضية الإجتماعية (2)

يوسف خالدي

المشكلة الإجتماعية 2

لقد مر معنا أن تأسيس المدينة تحتل المرتبة الثالثة من بين مولدات الإحتكار بوصفها بؤرة تجمع للقمع والإستغلال ، فالمدينة بهذا المعنى ، في نشوئها تاريخياً ، وفي أول ظهور لها على شكل نواة أولية متداخلة مع المعبد ، المقر العسكري ، ومسكن قصور البورجوازية ( يسمي أوجلان كل الشرائح الإستغلالية بالبورجوازية ، كونها حضرية ) . والتجمعات حول هذه الشريحة بالعبيد والخدم حول تلك النواة المتواجدة ضمن أسوار المدينة ونواتها المعبد .

نظام المدنية المركزي هو السبب الرئيس للإحتكار ، أي أن الإحتكار هو نتيجة لتشكل المدينة ونظام تشكلها أولاً ، كما هو السبب تأسس المدن ، حين تطور الإحتكار وتوسعت حدوده ، فكان لا بد من تنظيم نفسه على شكل مدينة تشكل بؤرة ومركز تلك الإحتكارات ، وتاميم مقومات وجودها وإستمراريتها ، من خلال تشكيل بناها الميثولوجية والدينية والفلسفية والعلمية اللازمة ، التي توفر للسلطة في المدينة ، مقومات وجودها وإستمراريته ، ليبدو التاريخ لنا على أنه صنع أولائك الأفراد والشرائح الإحتكارية ، والعمل على إبقاء المجتمعات بدون تاريخ إستمر دون كلل .

وفق هذا التسلسل في الأفكار ، يرى أوجلان بأنه قد توصل إلى تحديد العامل الأساسي المولد للقضية الإجتماعية ، التي تم شرحها وتفكيكها في الحلقة الأولى ، ومع التوصل إلى تحديد ذاك العامل ، وهو كيان المدينة ، ومن ثم الطبقة ، والدولة . المولودة من الإحتكار كمبدأ إجتمعت حوله وضمنه ، تلك المفاهيم الثلاث .

يرى أوجلان بأن تاريخ المدنيات يبدأ من خلال إنتشار هذا الكيان الثلاثي زمنيا ومكانيا ، بحيث كلما إزداد وتوفر فائض في القيمة ، كلما تكاثر الإحتكار وتكثفت نسب الإستيلاء عليها ، وإزداد عدد المدن ، وتوسعت الهوة بين الطبقات ، وتعاظم دور الدولة ودواعي وجودها .

بعد أن تم تحديد العامل المشكل للإحتكار ، والذي بدوره المحدد والمسبب الأول للقضية الإجتماعية ، كما مر معنا ، يحدد أوجلان ظهور المشكلة ىالإجتماعية ، بالفترة الممتدة ما بين 3000م-500 ، هذه الفترة ، هي تلك التي جرى فيها نهب منظم أعظمي ، من قبل تلك الشريحة ( المحتكرة للسلطة ورأس المال ) . المدينية لمحيطها ( المجتمع بكافة شرائحه ) . لفائض القيمة الذي تشكلت بوادره في أحشاء المجتمع النيوليتي تدريجيا . في السطو على تراكمات هائلة ، للمحاصيل الزراعية والحيوانية عبر أساليب العنف ، أو إحتكار تجارتها خلال فترات زمانية وضمن حيز مكاني معين ، كانت نتيجة لتطور مذهل لأدوات ووسائل الإنتاج ، مقارنة مع تلك التي كانت متوفرة في العصر النيوليتي ، ليتشكل في التاريخ أول نموذج ، لإستغلال المركز للأطراف والمحيط ، والحلقة الأولى للفروقات التي نشاهدها في عصرنا .

العودة إلى أساطير تلك المرحلة ، تقدم لنا أمثلة صارخة ، لتلك التحولات كصراع أنكي إينانا ، الطوفان ، وكلها تشير إلى الطعنات التي كان الإحتكار قد بدأ يوجهها إلى المجتمع . ولو أن التاريخ كان قد دزن بلغة المضطهدين والمقهورين ، لكنا أمام تاريخ يتختلف تماما عما هو بين أيدينا اليوم .

 تلك الشرائح الكبيرة والمتحولة تدريجيا إلى عبيد ، وتلك القوافل المستمرة من عبيد قادمين من أسفار العسكر ، في غزواتهم على المحيط الخارجي ، بهدف توسيع مصادر ومراكز نهب فضل القيمة ، وتكثيف الإحتكار ، عبر نهب أملاك وأراضي وثروات ومقتنيات الذين تم غزوهم بعد مصادرتها ، ثم التخلص ممن لا فائدة منهم في سخرة العبيد ، الذين إستخدموا لتوفير المزيد من فوائض القيمة وتكديسها ، وهي بدورها ساهمت  في تطوير المزيد من أدوات ووسائل الإنتاج ومن أقنية للري أدخلت مساحات شاسعة للزراعة ، وفرت بدورها فائضا للقيمة زاد من نسبة الإحتكارات وقوتها .

يمكننا التوصل إلى وصف وتوصيف شبه دقيق ، عبر تناولنا لتلك الأساطير والملاحم و القصص التي تعكس في جوهرها تلك التطورات التي حصلت بنشوء المدينة ، وتطور البنية الفوقية ، والتعرف على العقل التحليلي الذي كان يتمدد مكان العقل الطبيعي لدى الكهنة ، الذين إحتكروا تلك الميزة وإستخدموها في صياغة إيديولوجيات على شاكلة يوتوبيات ميثولوجية ، تحتوي على مشاهد الفردوس والجحيم ، وحين إستنفذت هذه التقنيات أدوارها وعجزت عن تقديم الأجوبة للأسئلة المطروحة ، التي كانت تطفو على السطح ، نتيجة تفاقم المشكلة الإجتماعيىة التي كانت بدأت تظهر وبقوة ، مشكلة تهديدا لتلك البنى القائمة الإستغلالية ومراكز الإحتكار ، بدأت الفلسفة تظهر كإسلوب بديل متمم ، ثم العلوم ، ومؤسسات المعرفة ودور الحكمة . كأدوات قادرة على الإجابة ، سبيلا لتأمين الرفاهية والراحة للفئات الحاكمة ، بهدف تجذير مؤسسات الحكم وتقويتها ، وحين عجزت كل هذه المؤسسات الولييدة ، ظهرت الأديان الدوغمائية الصارمة في أحكامها ، لتهدئة روع الناس الذين وجدوا أنفسهم في أوضاع مخيفة ، فكانت الألهة التي صورت الملوك على أشكالها ، أو شكلت على صور الملوك ، في عملية تطور مذهلة إستطاع فيها العقل التحليلي ( الرمزي ) . قد حقق إنجازه الأعظم الذي مكنه من العبور إلى مرحلة الأديان الكبرى التوحيدية .

بعد أن توصلنا إلى العوامل المشكلة للقضية الإجتماعي من خلال ربطها بنشوء النية وتشكل المدن التي كانت سببا ونتيجة للإحتكار ، بات لزاماً علينا أن نصل إلى كيفية إنتقال مركزية الإحتكار من الشرق إلى الغرب ، ومن ميزوبوتاميا ومناطق طوروس وزاغروس إلى أوروبا ، بربطها بإنتقال مركزية المدنية ، وأسبابها ، وهنا لا بد لنا أن نعلم أن المسألة هنا مرتبطة بتلك الزاوية التي رفض أوجلان منها علوم الإجتماع الأوربية ، وقد تم ذكر أسباب ذلك في حينها أولا ، ولإثيات أن تاريخ المدنية ، ليس كما قدمته علوم الإجتماع الغربية تلك ، على أنها نتاج مركزيتها الغربية ، والقائمة على فرضية مركزيتها بدءاً من المدنية الإغريقية ، وأن الرأسمالية كنتاج للإحتكار والمدنية ، تمتد في جذورها إلى الحقبة السومرية وبدئاً من نظام المدينة وتشكلها كبؤرة إحتكار .

ففي المجتمع السومري والمصري وهارابا منطقة في ( القارة الهندية ) . تم الإستيلاء على كم هائل من فائض الإنتاح الزراعي وبأساليب منظمة ، يمكن وصفها بأول نموذج ضخم للتكديس ، تم لرأس المال والسلطة . نتيجة التطور والتقدم في وسائل وأدوات الإنتاج التي رافقها نتاج ضخم من المحاصبل الزراعية والحيوانية ، مقابل تخلف تلك التي كانت متداولة في المجتمع النيوليتي ، أنتج المدينة والطبقة والدولة بشكل يزيد عشرات المرات إن لم تكن مئات ، عن عمليات السطو التي كان المجتمع النيوليتي التي كان يعرفها قبل هذه الطرفرة من خلال العنف المنظم ، وإحتكار التبادل كتجارة ، وتشغيل البشر دون مقابل ، كعبيد وأرقاء ، فأعداد العبيد ممن إستخدموا في بناء الإهرامات بلغت الملايين كذلك الصروح الآخرى في باقي المناطق .

إزدياد احتكار الكهنة  للمعرفة . زاد من عدد الأساطير الميثولوجية ، واليوتوبيا المتضمنة للجنة والسعير والمبشرة بها ، وحين عجزت الميثولوجيا عن مهامها جاءت الإيضاحات والأفكار الفلسفية ، ثم العلم بأنواعه ودؤجاته ، لإقناع البشر والرعية بأجوبة لأسئلة كانت تطرح عن الطبيعة ومظاهرها ، جرى إستثمار كل تلك العوامل وما أنتجته من حساب ، ورياضيات و وكتابة ، بهدف ضمان إسيتمرارية الحكم وتأمين الرفاه لطبقة الإحتكار .

مرورا بعصور الآلهة إلى مرحلة الأديان الكبرى ، يكون العقل الرمزي التحليلي ، قد أوصل المرحلة إلى سقف الإنجاز الأكبر قياسا مع تلك المراحل الأخرى التي سبقتها ، وليس عبثا خروج كلمة ِAmargi ، السومرية إلى الملأ ، والتي تعني كمصطلح العودة بالإنسان إلى الطبيعة الأم ، كصرخة إحتجاج على الفردوس المفقود ، ونواحة على فقدان الفردوس والحياة الطبيعية والآلهة الآم التي طبعت تلك المرحلة بمياسمها .

لم تكتفي مؤسسات الإحتكار، بخلقها للمشكلة الإجتماعية فقط وإنما ، زادت من تفاقنها وتم إستثمارها إلى أقصى الحدود ، حيث تلقت الأخلاق أقسى الضربات وأوجعها من خلال إستغلال الإنسان للإنسان بشكل علني ، وفرض سلطة وقوانين المدينة وأخلااق المجموعات الإحتكارية على المجتمع ، على أنها تعاليم ووصايا وأحكام الملك الإله المقدسة . وتنحت البنى والمفاهيم المعرفية والعلمية ، لصالح اليوتوبيات الخيالية ، ويوم الحساب في الآخرة أو العالم السفلي ، أو العلوي ، وتراجعت مكانة المرأة إلى الحضيض ، لتصل حدود السلعة في التعامل معها ، بدلا من مكانتها كإله ، لصالح الملك الذكر ، والميثولوجيا في تلك المرحلة تقدم لنا سرداً واضحاً وصريحاً لهذا الصراع والتحولات التي جرت .

جرى القبول تدريجياً بالعبودية ، على أنها واقع وقدر مرسوم لا مفر منه ، وجرى تطبيع ذلك في العقول ، حتى ترسخت كمفاهيم غير قابلة للتغيير ، أو إلى التداول مع إستمرار المشكلة الإجتماعية وتفاقمها دون حلول لها ، تزايد حدة التناقضات ، إضافة إلى تزايد ملوحة الآرض نتيجة الإفراط في السقاية ، مع تزايد فترات الجفاف وتعاقبها في تلك المراحل الزمنية ، خلقت ظروفاً وأسباباً للتصدع الذي كان قد بدأ يتوسع في تلك المجتمعات ، بعد حوالي 2000 سنة من إستمراريتها وبسبب لإستمرارية الممارسات القاسية ضد المجتمع من مؤسسات الإحتكار ، هوت مجتمعات بأكملها كمدنية هارابا ( منطقة في شبه القارة الهندية ) . وإندثرت تماما بسبب تلك المآزق .

أما السومريون والمصريون فكانوا قد بدأوا يتخلون عن دورهم الريادي منذ أمد طويل ، لتحل مكانها مدنيات أخرى ، تابعة لمجموعات إثنية مخنلفة ، للأسباب ذاتها .

يعتقد أوجلان بأن عجز المدنيات تلك ، عن التوصل إلى مخارج وإلى حلول تمكنها الخروج من تلك المآزق دفع من إستطاع منها الصمود والمقاومة ، وتلك الآخرى المتشكلة على أنقاضها إلى البحث عن الحلول عبر إسلوبين.

الأول :

توسيع مجالها الحيوي بإتجاه الخارج ، كقوة توسع إستعماري ، جلب معه لاحقاً ، المزيد من القضايا الإجتماعية التي تتطلب حلولا لها ، كون تلك التوسعات لم تكن إلا حلولاً مؤقتة لتلك القضايا العالقة ، تكررت في دوائر شبه مغلقة ، مع كل تبدل أو تغيير طرأ على أماكن تمركز المدنية وأطرافها . فالمراكز السومرية بدأت بالتوسع من خلال عدة بوابات .

البوابة الشرقية والشمال الشرقي . وحصيلتها مدنية هارابا على ضفاف السند ، البوابة الأخرى ، بإتجاه الشرق وجنوبه ، صوب عيلام – سوس أو سوسيانا ، ومن خلال :

الغرب والجنوب الغربي ، تحققت على أيادي الهوريين أصحاب الثقافة الآرية ممن كانوا يشكلون المجموعات الأصيلة الأساسية للثوورة النيوليتية في ميزوبوتاميا العليا حيث تمكنوا من تأسيس أولى مراكزهم في أعوام ال أعوامِ 3000 ق.م، بإلإضافة إلى تلك الآثار التي عثر عليها في غوباكلي تبه ، قرب أورفه ، التي تتحدث عن حضارات عريقة في تلك المناطق ، 000.10 و8000 ق.م ، والتي تعود إلى الفترة ما قبل النيوليتية .

 يمكن إضافة البحر إلى تلك الإتجاهات الثلاث ، لتصبح رابعة . وقد خاضوا حروبا مع مدنيات الجوار التي كانت في صراع معهم على الهيمنة ، يمكن تلمس ملامح هذا الصراع من خلال الألواح السومرية ، وملحمة جلجامش ، تشرح بوضوح كيف بدأت عملية التوسع والإنطلاق ، صوب غابات الشمال ، إنطلاقا من المستوطنات السومرية ، إلى تأسيس إمبراطوريات حثية وميتانية في الأناضول الداخلية وفي الجنوب الشرقي من أعوام 1600 ق م . والتوصل إل نائج نهائية لطلاسم كوبكلي تبه ، قد تكشف عن مدنيات أخرى ربما تشكلت في تلك المناطق .

أما التوسع السومري نحو البحر عن طريق خليج البصرة ، فقد أدى إلى ظهور مستوطنات حضارية فيما يسمى اليوم عمان واليمن والحبشة ، والدراسات تشير ، إلى إكتشاف مدنية عملاقة في عمان ، تكاد تماثل مدنية هارابا في حجمها تقريبا . كما يعتبر نهر النيل مدخلا لتمدد تلك المدنية صوب مصر التي يصعب تصور إحتمال تطور مدنية في منطقة ، جهاتها الأربعة تكاد تكون مغلقة بالصحراء ، دون التواصل مع الخارج . كذلك إيضاح ولادة أولى الملكيات البارزة في الصين بحدود عام 1500 ق. م ، بصيغة مشتابهة هو أقرب إلى المنطق .

أما الإسلوب الثاني :

كوسيلة للنفاذ من الأزمة فقد تم سلكه من قبل البابليين والآشوريين بتطويرهم للعلم والصناعة ، الأمران اللذان أديا إلى إعتماد التجارة وإحتكارها مع الحروب التوسعية . حالة الإحتكار الآشوري للتجارة في ذاك الزمن ، يشبهها أوجلان بحالة إحتكار البندقية وهولندا وإنكلترا للتجارة بعد القرن السادس عشر. م

هذا التوسع التجاري الممتد على مراحل ثلاث

2000–1600

و1600–1300

و1300–600 ق.م

يكاد يكون هو الأول من نوعه في العالم ، لكنه بمجموعه يبقى كمحصلة ، تعود بذاتها إلى إلى المدنية السومرية الأم كمراحل مشتقة عنها . لكن تبقى مكانة آشور محفوظة في كونها حملت المدنية السومرية وقامت بتوزيعها طوال مرحلة زمنية تتراوح ما بين 1000 و1500 . سنة . وهي تعد من أقوى حلقات تسلسل المدنية . بينما ، إنهارت هارابا ، عمان ، وإنهار الميتانيون ومصر داخليا وبسهولة ، لعجزهم عن إحراز النجاح عينه .

يتبع ..

زر الذهاب إلى الأعلى