دراساتمانشيت

كيف تواجه الإدارة الذاتية تحدياتها الداخلية؟

نشر المركز الكردي للدراسات قبل فترة قصيرة من هذا الشهر وبالتحديد في 22 نوفمبر الماضي، مقالة تحت عنوان “كيف تواجه الإدارة الذاتية تحدياتها الداخلية؟” للدكتور توماس جيفري ميلي أستاذ علم الاجتماع السياسي- جامعة كامبريدج، تتمحور المقالة حول نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا والبنية الجذرية التي صيغت لهذه الإدارة والمستمدة من فكر قائد الشعب الكردي عبدالله أوجلان وبأسلوب علمي تاريخ سلس يقارب بين نظرية القائد أوجلان في الديمقراطية وسوسيولوجيا الحرية وبين نظرية الفيلسوف الأمريكي موراي بوكتشين.

يقول الدكتور توماس جيفري ميلي :

من معتقله في سجن جزيرة إِيمرالي، صاغ أوجلان نموذجاً لشكل النظام الاجتماعي الذي يرتكز على الديمقراطية الجذرية، والمجتمع الإيكولوجي المستدام، والتحرّر بين الجنسين، حيث تُشكّل هذه القضايا الثلاثة عماد البرنامج الجديد للكونفدرالية الديمقراطية.اتخذت تجربة شمال شرق سوريا هذه المبادئ الثلاثة في برنامجها التطبيقي بشكل مباشر، الأمر الذي أدى إلى رفع درجة التحدي الذي طرحه المشروع على بنية تراكم رأس المال ونظام الدولة القوميّة على حد سواء، كما ظهرت عوائق متعددة تواجه هذه الإدارة الفتية، فضلاً عن التهديدات العسكرية الدائمة.سلك أوجلان منهجاً أقرب إلى ما يكون لمنهجِ الفيلسوف الأمريكي، موراي بوكتشين. وظهر جلياً في مجلداته الخمسة التي جاءت تحت عنوان “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، وتحديداً في مجلده الثالث الذي حمل عنوان «سوسيولوجية الحريّة». حيث كانت ” الهرمية والهيمنة” كوحدة التحليل، تاريخياً وحاضراً، بمثابة نقطة التلاقي بين كلا المفكرين.إن التجسيد المؤسسي الرئيسي لهذا النهج يتلخص في الدعوة إلى بناء مجالس محليّة ديمقراطية بشكل مباشر، والتي لابد أن تكون «منظمة حول الأحياء والقرى والبلدات». دافع بوكتشين عن مثل هكذا مجالس شعبية لدورها في إحياء فنون النقاش الديمقراطي وصنع القرار الجماعي المفقود منذ أمدٍ بعيد(1). معرباً عن أمله في أن تعزز المشاركة في هذه المجالس الشعبية إلى إحداث تحول في وعي المواطن، ويحوله من متفرج سلبي إلى مواطن فاعل. من جانبه، يؤمن أوجلان أيضاً إمكانية قيام مثل هذه المجالس بالمساعدة في إحداث تحولاً جذرياً في الوعي.تنبأ بوكتشين بسيناريو يمكن فيه لعدد لا يحصى من المجالس الشعبية على المستوى المحلي أن تزدهر وتتوسّع رقعتها، بل وتجتمع معاً في إطار اتحاد كونفدرالي، يصعب تقليل من شأنها، بل قد تشكّل تحديّاً كبيراً لسلطة الدولة القومية ونفوذها القانوني والبيروقراطي. وحذر من أنه عندما يحين ذلك الوقت، من المُحتّم أن يظهر صراع حاد مع الدولة. هنا، ستدق ساعة الصفر – إن جاز التعبير- حيث تقف الحركة الديمقراطية الجذرية أمام لحظة تاريخية، أما أن تكون جذرية وترتقي إلى مستوى التحدي، وتواجه بحزم عواقب ذلك الصراع، بما في ذلك حتميّة التنظيم للدفاع عن النفس. أوأنها قد تصبح غير جديرة بالمسؤوليّة، وتتراجع في نهاية المطاف إلى حضن النظام الاجتماعي البائد، التي خرجت من رحمه، وسقطت في بوتقته مجدداً.أكّد أوجلان على أهميّة التنظيم للدفاع عن النفس، وسعى إلى بناء منظومة الدفاع الذاتي تحت مظلة “الاتحاد الكونفدرالي” كما دعا إلى بناء وحدات شعبية دفاعية إلى جانب المجالس المحلية الإدارية المستقلة في نشاطاتها، وكلاهما يعملان معاً وفق آلية التنسيق بغرض الدفاع عن النفس، وهو نموذج يشبه نموذج سبارتا تاريخياً، بحيث يصبح تسليح المدنيين واجباً، عندما تقتضي المصلحة العامة لدرء المخاطر الابادة وقضية الوجود. على هذا المنوال، سيكون واضحاً منذ البداية أن التحدي الذي سيفرضه هذا النموذج على الدولة القومية التي تتميز هيكليتها بالتراتبية الهرمية والبيروقراطية، وحكرها استخدام العنف. لذا، ينبغي أن يكون هذا التحدي جلياً لدى التنظيم الاجتماعي الديمقراطي المناهض أيضاً. ولكن ماذا عن التحدي الذي يفرضه هذا النموذج من التنظيم الإجتماعي على علاقات المُلكية الاجتماعية نفسها؟ سيما أن ملامح هذا الرهان مبهم وغير واضح المعالم. ومع ذلك. فهو حقيقة قائمة، نظراً أن المجالس المحليّة – نظرياً – مخولة للإشراف على وسائل الإنتاج، ولجعل الدوافع الاقتصادية تابعة ومسخرة للإرادة العامة، وذلك استناداً إلى جملة من المداولات والقرارات التي تسن من قبل هذه المجالس والإدارات المدنية.طبقاً لهذا النموذج، لا ينبغي “تأميم” القوى الاقتصادية؛ بل يتعين إضفاء الطابع «البلديات» عليها _ أي أن تكون ذي طابع ديمقراطي مدني _ وأن تُوضع في خدمة المجتمعات التي توجد فيها. وقد عبر بوكتشين عن ذلك بقوله:« في المجتمع الذي يتبع للبلديات التحريرية، يقرر المجلس سياسات الاقتصاد برمته. وفي غضون ذلك سيتخلى العمال عن هويتهم المهنية ومصالحهم الذاتية لصالح الخير العام، ويسيرون أنفسهم كمواطنين في مجتمعهم. وستشرف البلدية، من خلال تجمع مواطنيها، على المحلات التجارية، وتتخذ جملة من القرارات، وتضع السياسات التي ينبغي أن تتبعها هذه المحلات ، وتعمل دائماً بنظرة مدنيّة بدلاً من نظرة مهنيّة»(2).من جهته، قام أوجلان بوضع تصّور للملف الاقتصادي سواء تحت تسمية «شبه الاستقلال الاقتصادي» أو «الاقتصاد المجتمعي».

واعتبر أن الإدارة الذاتية تعني ضمناً «إعادة صياغة بنية الاقتصاد». موضحاً أن مضمون شبه الاستقلال الاقتصادي « لا يرتكزُ إلى الرأسماليّة الخاصّة أو إلى رأسماليّة الدولة» عوضاً عن ذلك، يُصرّ على أن الأمر برمته يتعلق بدمقرطة الاقتصاد، فضلاً عن جعله متوافقاً ومُتماشياً مع «المجتمع الإيكولوجي» . كما أنه اعتبر أن الحدود المرسومة في شبه الاستقلال الذاتي أمام” الصناعة والتنمية والتشغيل الملكية والاستقرار الريفي والتكنولوجيا، مشروطة بإرادة المجتمع الديمقراطي” البلديات التحررية” ومعايير صديقة البيئة»، مبيناً أن هذا النموذج « يختزل فيه الربح ومراكمة رأس المال إلى الحدود الدنيا»، ولم يتردد أوجلان وبنبرة تصالحية مع مخاوف الناس على التأكيد بأن شبه الاستقلال الاقتصادي لا يرفض رفضاً قاطعاً قوانين «السوق والتجارة وتنوّع الانتاج والرقابة والعطاء»(3).ينبغي التمييز بين كُلّ من الهدف الاشتراكي للدولة المُتمثّل في التأميم، والاقتصاد المجتمعي أو شبه الاستقلال الاقتصادي، والنموذج الاقتصادي الذي يدعو إلى دمقرطة العلاقات الاجتماعية التي ترتكز في المقام الأول على نقاط الإنتاج. لا يعترض أيٌّ من بوكشين أو أوجلان من حيث المبدأ على مجالس العمال أو المشاريع التعاونيّة، بل على العكس تماماً، فقد قدم كلاهما دعماً صريحاً لهذه الجهود الرامية لدمقرطة نقاط الإنتاج. فعلى سبيل المثال، دعا أوجلان صراحة إلى إنشاء « تعاونياتٍ مُجتمعية في قطاعات الزراعة والاقتصاد والمياه والطاقة»(4).بيد أنّ النقطة الجوهريّة بالنسبة لكلٍّ من بوكتشين وأُوجَلان، تكمن في أن جميع الفعاليات التجارية _ سواء أكانت تعاونيّة أم لا _ لا بدّ أن تخضعَ في نهاية المطاف للإرادة الديمقراطية للمواطنين كما تم صياغتها والتعبير عنها في الكومينات والمجالس الشعبية. لأنه وكما حذّر بوكتشين، فإنه في ظلّ غياب أساسٍ اتحادي وإداري وسياسي متسق للإشراف على المطالب الديمقراطية، فإن ما تُسمى بالبدائل العماليّة يمكن إدماجها بسهولة بالغة في أسلوب عمل تنافسي رأسمالي بين الشركات.

لهذا السبب، يقوم كل من بوكشين وأوجلان بتعزيز وتبني أساس اتحادي إقليمي، وليس نموذجاً يأخذ الطبيعة الإنتاجية هدفاً لها فحسب.من منظور أخر، يُثير هذا النموذج عدة تساؤلاتٍ حول المدى الذي يشير فيه فعلياً إلى التغاضي عن علاقات المُلكية الاجتماعيّة، في مقابل سعيه فقط للسيطرة على التجاوزات التجارية. ومن المؤكد أن النموذج لا يشمل إلغاء الملكية الخاصة في حد ذاتها، من حيث المبدأ، يبقى الفصل بين العام والخاص، أمراً ثابتاً لا يمسه تغير. تالياً، فإن تقسيم النظام الاجتماعي يبقى خاضعاً إلى بنية تقسيم طبقات اقتصادية، ويُعيدنا هذه المسألة إلى دور الدولة مجدداً.وفي حالِ تصورنا للدولة على أنها مجموعة من المؤسسات التي يتجسّد هدفها الرئيسي في الحفاظ على العلاقات القائمة وفق المُلكية الاجتماعية، فعندئذ ينبغي لنا أن نتوقع من الطبقات المالكة أن تناشدها من أجل حماية ممتلكاتها من أي تهديد يطالُها، وخاصة إذا ما كان هذا التهديد صادر من المجالس الشعبية. ولهذا السبب، كما أشار العالم السياسي، فرانك فيشر بقوله « من أجل القدرة على تحدي سُلطة الدولة وتأمين سبُل حماية أنفسهم من توغلات الدولة، يجب أن تكون هناك رابطة كونفدرالية أكبر من الكومينات، بمقدورها بناء هياكل تنظيمية بديلة قابلة للتطبيق»(5). وبالتالي يمكن أن تؤمن « موقف قوي ضد السُّلطات المركزيّة”. ولكن أليست حماية المجالس نفسها من سطوة الدولة، ستُجبرها على بناء هويتها الخاصة حسب ما تقتضي الظروف المتغيرة؟يعتمد بوكشين على التمييز بين صُنع السياسات وتنفيذ السياسات من أجل الدفاع عن فكرة أن الإرتباط الكونفدرالي للكومينات يختلف جوهرياً في طبيعته عن الدولة، ووفقاً له، فإن وضع السياسات ينبغي أن يقتصر على الكومينات نفسها _ بدءا من القاعدة إلى الهرم _ في حين يقتصر دور الاتحاد الكونفدرالي على تنفيذ السياسات وحدها. بيد أن هذا التمييز من الصعوبة استدامته. ما الذي سيحدث إن كانت السياسات الصادرة من كومينات مختلفة وتتناقض بشكل مباشر مع بعضها البعض؟في مثل هذه الحالات على وجه العموم، يتضح أن حياد المسؤول أمر شبه مستحيل. والمسؤول الذي تُسندُ إليه مهمة تنفيذ السياسة سيتحتّم عليه تأدية دور صناعة القرار السياسي أيضاً. فضلاً على أن هذا الاتجاه نحو المركزيّة المتدرجة لا يقتصر فقط على الإطار التشريعي.

يمكن القول إنه يتبلور جلياً في إطار السُّلطة التنفيذية القسرية، حيث ينتهي الأمر بالجمعيّات الكونفدرالية التي تهدف إلى تنسيق تنظيم الدفاع عن النفس، لتكون أسيرة لقوة مركزية، مما يجعل ماهيتها أقرب إلى أجهزة الدولة نفسها.دعونا نُصنّف هذين الخطرين التوأمين المتمثلين في المركزيّة بـ: خطر المسؤول السياسي، وخطر المسؤول العسكري، كل حسب اختصاصه. ومع ذلك، ليست هذه المخاطر فقط من تظهر على السطح، بل قد يدفع هذا الواقع أن تقوم الإدارة الذاتية بغية حماية ذاتها – حيث يُفهم منها على أنها شكلٌ من أشكال تعزيز الديمقراطية- بتوسيع نطاق السُّلطة السياسيّة متجاوزة إمكانية القوى الاجتماعية التي تساندها وتعمل في نطاقها. ورغم ذلك، فإن هذه المقاربة بدورها قد تثير مصاعب جمة، إن لم تكن مستحيلة، كونها تنطوي على بذل جهود جبارة كي تتفوق الإدارة الذاتية على الدولة تحت مسمى الديمقراطية المباشرة.من أجل تحقيق النصر على الدولة، فضلاً عن الشركات والطبقات المملوكة التي تُمثّلها، فإن الإدارة الذاتية سوف تميل في النهاية إلى تأسيس إدارة مُضادة خاصة بها. وعندما تفعل ذلك، ستطفو على السطح مشكلة تُسمى تضارب بين ” أولوية ممثلي إرادة المجتمع ومطالب المواطنين” وما تحمل هذه الصيغة من مساوئ في طيّاته. وغالباً، سيتم إغواء مُمثلي إرادة المجتمع، ودفعهم صوب تحقيق مصالحهم الخاصة أو مصالح فئات مُعينة ترتبط معها النُخب السياسية المضادة لإرادة المواطنين وغالبية المجتمع، وهذا ما سيؤدي إلى عرقلة جهود التمثيل الديمقراطي وتنفيذ مطالب الإرادة العامة.

د.توماس جيفري ميلي: أستاذ علم الاجتماع السياسي- جامعة كامبريدج.

المصدر : المركز الكردي للدراسات

زر الذهاب إلى الأعلى