مقالات

حينما تكون الحقوق؛ استفزاز وخيانة


سيهانوك ديبو
لعل القول أن الشرق الأوسط كان أكثر البقع الجغرافية إسالة بالدماء وأن سنواته المئة الأخيرة فُرضت عليه فرضاً ولم تسنح له الفرصة الكافية من أجل صناعة ذاته بذاته والالتفات إلى ذاته وحكمه الوطني وإدارته بذاته أو إدارته الذاتية لتاريخه وحاضره؛ يعتبر قولاً ناقصاً والاكتفاء به يعتبر مكراً يرتكبه الشرقي بحق نفسه فقط مؤديّاً نوايا الغير ووظيفتهم؛ أيّاً يكن؛ هذا الغير الرائي إلى الشرق بدونية حتى درجة تسليم الرقاب له بعد ترابه ومائه. وتشبه هذه الحالة كَمَنْ يصنع له عدواً وينفخ فيه إلى درجة وهم توحشه والخوف منه ومن ثم تقديم عشرات التبريرات من ناحِ الفشل، حال ذلك سلطة رأسمال المالي والصناعي وعدِّ الرأسمالية مرحلة اقتصادية تاريخية لا بد من وجودها في التاريخ حينما أخطئ ماركس حيال ذلك، علماً بأنها ليست سوى سلطة وسلطوية ضد البشر والاقتصاد والتاريخ كما فسّرها أوجلان، وإذا كانت غير ذلك فبماذا تختلف سلطوية غلغاميش عن سلطوية الاسكندر المكدوني؟ وبماذا تختلف المضامين المُتَخّلِّقة عن مثيلاتها في زمن أي سلطوي آخر شكّ قذيفة هنا وغزا بلد هناك؟ إنها السلطوية، وأعتقد هنا بأن التصنيف الماركسي للتاريخ كله في مهب الخطأ؛ إذْ لا يمكن الحديث عن الاقطاعية كمرحلة وكتشكيل اقتصادي تاريخي ناجز عن مرحلة بلغ الديالكتيك فيه إلى استحالة الحل والانتقال إلى ما عداها فيما بعد.
ربما نصيب لو قلنا أن التاريخ الكلي للحضارة البشرية ينقسم منذ تشكله المدني المديني إلى ثلاث مراحل فقط:
المرحلة البشرية الأولى، المرحلة البشرية الثانية، المرحلة البشرية الثالثة وحتى الآن، ومن المؤكد بأن تاريخ الحضارة الشرقية يختلف بالضرورة عن الغربية واعتقادنا بأن المحاولة في تطويع أي شق جغرافي بشري لصالح توسيماته وتشخيصاته هو قيد له من بعد اعتقال؛ خاطئ حتى درجة الخطيئة، فلكل منهما معاييره وأطره واتساقاته ومعاييره التي أوجدتهما ظروف التكون والسيرورة بإحكام متناغم، ومراحل التاريخ في الشرق ليس من الضرورة أن تكون نفسها كما الغرب؛ والمرحلة البشرية الأولى المناسبة شرقياً هي التي تبدأ من ظهور الإنسان الزراعي المبتدأ منذ حوالي اثني عشر ألف عام حتى غزو الاسكندر المقدوني أو فتحه للشرق ولنصف العالم واندحاره فيما بعد، والمرحلة البشرية الثانية تمتد من وقتها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم الشرق إلى مجموع من الدول، والثالثة تبدأ من حينها ولا تزال، وهنا من المهم التوضيح بأن مولَّدات التصنيف والتمرحل تعتمد على أكثر النقاط التي عطفت معها الشرق؛ وفي تقديرنا الأولي ما تم ذكره تبدو فوارق علّامة في تاريخ الشرق والعالم إلى حد كبير. ويبقى تشخيص التاريخ وفق عاملها الزمني؛ كثير الاستعمال؛ متسق أكثر من أي تصنيف آخر، وهذه المسألة ليست لها العلاقة مع قوة المنطق في التوسيم إنما بسبب سذاجة إطلاق المسمى والذي يخيم كغيمة تؤدي فعلها المطر ثم تختفي بكل بساطة.
أيّاً تكن الوجهة التي استقدم التاريخ من خلالها؛ من المنطقي أن ندرك الكيفية التي وصلت إلينا، فالتاريخ مادة منقضية لا يمكن تغييرها ولكننا يمكن تغيير مستقبلنا من خلال تغيّرات التاريخ وتغييراته على حد قول الفيلسوف أوجلان. وبالرغم من أن كتبة التاريخ في معظمهم آفلون ظالمون آبقون بسبب التشويه الكبير الذي أحدثوه حين التناول الرغباتي له وبسبب تفصيلهم إياه حسب مقاسات السلطة التي فقأت العيون واستلبت العقول بفعل جارٍ لم ينته؛ يكاد مثل هذا الفعل غير الأخلاقي المتضخم يوصل مقترفيه إلى درجة مجرمين محترفين بتهمة الاغتصاب الأكبر للتاريخ ويحلينا إلى نتيجة محزنة أخلاقياً وسياسياً: (لا من تاريخٍ بِكْرٍ)، وأن مستقبل تاريخنا يمكن رسمه بقدر ما نوجه جميع السهام إلى السلطة؛ لعنة البشر الأولى. إذاً مهما ت هذه الوجهة وأيّاً تكن واجهاتها الآنية فإن الشرق الأوسط الديمقراطي ليس عصيّاً على الحل، خاصة إذا ما أدركنا أنه قد وُلدت فرصاً كثيرة أمام الشرقيين على مختلف منابتهم أن يستنبتوا رواكز المجتمع السياسي؛ لكنهم؛ وعدوا وخالفوا فتحاربوا ولا يزالون. ولعل الفرصة الحقيقية التي ظهرت كانت – مثلا- في الأناضول بعد حرب التحرير الوطنية مباشرة التي خاضها الكرد والترك وغيرهم من الشعوب حتى تأسيس الدولة التي يُعتقد أن تكون بمسمى جمهورية الأناضول وليست تركيا؛ وقد خُطت خطوات تأسيسية في هذا المنحى وفق معاهدتين الأولى أماسيا في عام 1919 والثانية في مؤتمري أرضروم وسيواس، وتؤكد الاتفاقات التي حصلت خلالهما على قانون الحكم الذاتي الكردي المذيل بتاريخ 10 شباط 1922 وبإجماع ساحق لغالبية البرلمان، وقد تحدث مصطفى كمال في اللقاء الصحفي الذي عقده في أزميت بداية عام 1924عن أوسع آفاق الاستقلال الذاتي والذي انقلب على كل الاتفاقيات وفق معاهدة مع البريطانيين.
اليوم يطل التركياتي الأخضر والأخير أردوغان ليتصرف عكس التاريخ الذي لا يريد أن يدركه أو يدركه وفق لا منطق السلطوية المنتقل من سياسة الإنكار والتعصب إلى المرحلة الخطيرة منها والمتمثلة بالإبادة والصهر؛ حال ذلك حال كل السلطويين، وكل السلطويين من أكبر المحافظين على الأزمات وأكثر المستفيدين منها على الإطلاق؛ كيف لا وأنه في وقت الأزمات تبلغ المزاودة القومية والقوموية أعلاه، وهذا ما يفسر تبعية كل الحكام السلطويين إلى ما ورائيهم لتصل أحياناً إلى درجة العبودية الكيفية الخانعة. حال ذلك حال الأزمة التي يعانيها الشرق الأوسط اليوم بكل ملفاتها، وولع مستبديها بالسلطة أوصلتهم إلى درجة إقامة تحالفات وفق مقاساتهم مرتبطة أيّما ارتباط بحجم الرشوة المقدمة إلى المنضمين: تركيا تنضم إلى ما يسمى بالتحالف الإسلامي العسكري مقابل دعمها بكل ما يلزم لإنشاء منطقة العزلة وليست العازلة، وكلاهما يهيئان الحشد ضد طموح مُعلن من قبل نظام استبدادي آخر يريد الشرق له، علماً بأن الدوائر المنفصلة لا تشي بالتناغم بين الحلفاء الطارئين إلا في الخطوة الأولى الموجهة ضد الخصم الواحد، والكل عالِمٌ منظور الخطوة الأولى والكل لا يعلم الخطوة التي تأتي بعدها؛ شيءٌ أشبه بالهستيريا المُتزرِّبة من قِرَب السلطة، ربما نصيب بأن فيروس السلطة وبعد السقوط المدوي لديكتاتوريات ربيع الشعوب قد حصّن نفسه إجرائياً؛ وهذا كل ما تستطيع فعله لحماية العرش الورقي الذي يعتليه سلاطنة الألفية الثالثة.
أردوغان يصف مطلب الكرد في تركيا بإدارة ذاتية ديمقراطية بالخيانة والاستفزاز ؟؟ علماً أن كل الخيانة هي ما يفعله الجيش التركي في الكردستان الموجودة في تركيا؛ من قتل للأطفال والشيوخ والنساء، وما يفعله من صلب متعمد للحضارة عن طريق هدم آثار ديار بكر وصور وغيرها، والخيانة والاستفزاز من نصيب العدالة والتنمية، وَوحدها التي تحولت إلى مثال جامع مانع لكل الأنظمة الشمولية والسلطوية التي تعمل ضد شعوبها وضد إرادة المجتمع، وستصبح في هذا العام الجديد مثال تَقبلُ مكروهة على حقوق الكرد وغيرهم من الشعوب سواء في تركيا أم في سوريا أم غيرها.
الأنظمة الاستبدادية لها نهاية تقف فيها عاجزة عن التقدم شبر واحد، والأدوات الرهيبة الضامنة لاستبداديتها تصبح وبالاً عليها، وتخلق عند هذه النقطة ردة فعل معاكسة مُتمتعة بأقصى حالات الديناميك الثوري الحق ضد ستاتيكها الرجعي، الديناميك يتقدم لأنه جالبُ الحل والستاتيك يبقى متكوماً حول نفسه؛ فيتلاشى. هذه لغة التاريخ وهذا وجهته؛ فهلّا فهمها من جعل لنفسه مشهد المُستعصَى عليه الحل؟

زر الذهاب إلى الأعلى