دراسات

الأسلوب ونسق الحقيقة (3)

تكملة دراسة الكاتب والباحث السياسي يوسف خالدي الأسلوب ونسق الحقيقة . 

الحلقة الثالثة

بدأ الأمر في أوروبا التي انتفضت مع بزوغ عصر النهضة والاصلاح وثورة التنوير الفلسفي في المسيحية، ببروز ثنائية الذات والموضوع، ذات الإنسان الفاعلة ـ وموضوعية العالم، على وقع انهيار العالم الدوغمائي المستند إلى كلام الرب ونقد المنظومة الأخلاقية والفكرية التي أنتجها الأسلوب الوثوقي الدوغمائي .
روجر بيكون (1214-1294Roger Bacon:)
يعتبر روجر بيكون من رواد النهضة في العصر الوسيط. دعا إلى عدم التسليم للمعارف المستحصلة من خلال الحواس والعقل، وعمل هو نفسه على إخضاع الظواهر للتجربة، واستطاع إنجاز الكثير من الأعمال المهمة بهذا الخصوص. اعتبرت كشوفات مبكرة في بعض العلوم . ومنها طب العيون .
رينيه ديكارت (1596 ـ 1650:Rene Degartes )
رينيه ديكارت عالم وفيلسوف ومؤسس للرياضيات الحديثة . أقام مذهبه على الشك والتشكيك بكل شيء “أنا أشك بكل شيء والشيء الوحيد الذي لا أشك فيه هو أنني أشك”، هذا المنهج أفسح المجال أمام الأفراد في التعبير عن ذواتهم وأفكارهم بشكل مستقل، وتناول المواضيع التي كانت تمتاز بالقدسية بالنقد والتحليل، بدءاً من الشك فيها وانتهاء برفض القبول بها على أنها حقائق .
فرانسيس بيكون (1561- 1626(Francis Bacon
أقام فرانسيس بيكون منهجه في الاعتماد على التجربة، واقترح استبدال مناهج التعليم الدينية السائدة حينها، بتدريس الرياضيات والكيمياء والتجارب العلمية، و انتقد التعاليم الدينية والفلسفة الكنسية. قبض عليه وسجن لمدة عامين بتهمة الخروج عن الدين .
قواعد بيكون العلمية كان لها الفضل في انبثاق الثورة الصناعية الكبرى لاحقاً، فهو بذلك يعد أحد رواد النهضة ونشوء الحداثة الرأسمالية. دعا إلى إخضاع اللاهوت لدراسته علمياً كالفيزياء والكيمياء وغيرهما من العلوم .
نظريته عن أوهام العقل في كتابه “الأورغانون الجديد”، اعتبرها أوهاماً أصابت البشرية بمقتل خلال التاريخ . نلخصها كما يلي :
أوهام القبيلة: رفض الاعتماد على الحواس البشرية في قبول الحقائق.
أوهام الكهف: التكوين الفكري والاجتماعي للفرد، عائق يمنع انتقال الحقائق لنا.
أوهام السوق: ألفاظ اللغة التي توقع البشر في أخطاء لا يمكن حصرها.
أوهام : هيمنة الموروث الفكري والثقافي المتخذ صفة القدسية واستبعاد الأخذ بها على أنها مسلمات وبديهيات لا تحتمل الخطأ .
إلى جانب هؤلاء كان لـ “اوغست كونت” و “إميل دوركهايم” تأثيراً كبيراً في جعل علم الاجتماع علماً وضعياً، موضوعه كل شيء اجتماعي وإنساني، حيث سمى كونت العلم الجديد وهو مؤسسه بحق بـ “الفيزياء الإجتماعية”، ثم عاد لاحقاً واستبدله بعلم الاجتماع “Sociologie “.
يرى أوج آلان بأن الطريقة، أو الأسلوب العلمي، كان له دور بارز في إيصال الرأسمالية إلى مستوى نظام عالمي كون هؤلاء العلماء والفلاسفة، ولا سيما ديكارت و بيكون هما أبرز رواده، الذين تأسست رؤاهم على الفصل بين الذات والموضوع .
ينتقد أوج آلان هذا التمييز والفصل ويرى ضرورة إعادة التعريف بمصطلح الموضوعانية وتحليله بعمق كمصطلح ظهر نقيضاً للذات الفاعلة كأحد أهم المصطلحات المتداولة في الأسلوب العلمي .
يرى أوج آلان بأن تعريف الطبيعة بأحيائها وجمادها على أنها موضوع “شيء “، كان ذاك المفتاح الذي شرع الباب أمام الرأسمالية بالتصرف مع الطبيعة والمجتمع على أنهما حيازة لا صاحب لها، فالتحولات الذهنية التي جرت في إطار التعامل مع مفهوم “الذات” و”الموضوع” أنتج فكراً شرعن لتلك “الذات الفاعلة” أحقية التصرف بالموضوع كما تشاء .
الفرد “المواطن”، مجتمع الدولة القومية، ذوات الأشخاص المنظمون لأنفسهم في مواجهة الطبيعة والمجتمع، ينظرون إلى الطبيعة وكل ما فيها من جماد وحي نظرة إلى “الشيء” لهم الحق في التحكم به واستغلاله دون رحمة وشفقة، بوصفهم آلهة جدد غير مقنعة .
اعتبار”الموضوع” وفق المنهج العلمي مصطلحاً نزيهاً وشفافاً وبريئاً تسبب في مجازر مروعة لا تقل ترويعاً عن تلك التي ارتكبت زمن محاكم التفتيش في أوروبا، على أيدي الدوغمائيين من مناهضي الحداثة والتنوير و رواد الفكر والمنهج العلمي، كـ “القس برونو” و”جاليليو”، وغيرهم المئات .
لا يمكن فهم أسباب فشل وعطب وإفلاس مذاهب علم الاجتماع في عصرنا، ما لم نستوعب حقيقة أن الأسلوب العلمي الموضوعي كان وسيلة لأكبرعملية تقسيم طبقي، و هذا ما كان ذو دور كبير في إفلاس الاشتراكية العلمية .
كان انتقاد الاشتراكية العلمية، كما غيرها من المذاهب التي قدمت نفسها مناهضة للرأسمالية، لكنها رغم ذلك فشلت، حين أرادت تغيير الواقع الاجتماعي اعتماداً على الأسلوب الذي يعتبر عماد الرأسمالية وسندها الرئيس، ألا وهو الأسلوب العلمي الوضعي بتقسيماته نفسها، والفصل بين الذات والموضوع . فالدرب الواحد الذي يسلكه الجميع سيقود إلى الغاية نفسها في المكان الآخر، ولن توصلهم إلا إلى النتائج نفسها في عودتهم إلى نظام الحداثة الرأسمالية، إما بتقديم الخدمات لها، أو الانصهار في بوتقتها .
هذه النتائج التي تشكل اليوم أزمات عميقة لنظام الحداثة، يقر اليوم أغلب منظري هذا الحداثة، بحقيقة وجودها و تفاقم القضايا والمشاكل الناتجة عن تلك الأزمات، التي باتت منذ زمن تحتاج إلى حلول لها، حيث بات التعايش معها ضرب من المستحيل مع استفحال و تعمق تلك الأزمات من ” مالية ـ اقتصادية”، و”اجتماعية ـ تنموية”، و” وبيئية ـ صحية “.
يرى أوج آلان في معرض تحليله للخصائص الطبقية والاجتماعية المفجرة لهذه الأزمات، على أنها وليدة التمييز بين “الذات والموضوع” . وتشيييء المجتمع والطبيعة بهدف نهبهما. هذان المصطلحان اللذان نهضت ونمت الحداثة على قوامهما معاً، لا علاقة لهما بما تشهده البشرية من منجزات في العلوم، كما تم طبعه في أذهان البشر اليوم .
هذان المصطلحان لا يشيران إلى مصطلح “النسبية” في دلالتيهما كمضمون، بقدر ما يعبران عن معنى الوثوقية، من خلال حشوهما بذاك المعنى، ضمن قوالب ثبوتية لا تختلف عن تلك الثبوتيات التي سادت وسيطرت على الأسلوب الوثوقي “الدوغمائي ـ القطعي” في العصور الوسطى .
هذه الثنائية الوثوقية المناقضة لمبدأ “النسبية” أولاً، ومن خلال فصلها بين الذات والموضوع كتمت أنفاس الحياة الحرة، وتسببت في بروز تصدعات أخذت طريقها في التأثير على كافة أوجه الحياة، حين بدأ هذا الأسلوب بذاك الفصل، الذي قاد وانتهى إلى تجزئة الشيء إلى أشياء، وأجزاء متبعثرة، في عملية نفي للتكامل الخلاق، ملغياً أو مستبعداً للوحدة بين “الذات والموضوع”، و”النفس والجسد”، أظهرت أشكال من الحياة هي أشبه بـ “سرطنة اجتماعية”. هذا الوصف ليس مسستمداً من الخيال، بل هو تفسير للواقع الملموس و للنظام القائم إزاء الحياة .
لا يقترح أوج آلان بهذا الصدد ومن خلال نقده للأسلوب العلمي وتحليله للأساليب الأخرى، أسلوباً جديداً بديلاً عن الأسلوب العلمي، فهو يرى بأن معارضته للأسلوب ومناهضته له، لا يعنيان إنكاره، أو بأن الزمن قد تجاوزه، بقدر ما يطالب التأمل فيه بإمعان ودقة، و بالانفتاح أكثر على إمكانية “التفسير الأقرب” إلى الحياة الحرة .فإن كانت الغاية هي “معنى الحياة” الدالة على “الحرية”، فإن على الأسلوب أن يكون وسيلة إلى تحقيق تلك الغاية.
يحذر أوج آلان بهذا الصدد من هذا المصطلح من حيث الدلالات الخاطئة، التي قد يقوده المعنى إليها من حيث المضمون، حين يشير هذا المضمون إلى مبدأ الحتمية المطلقة .
كما يرى بأن الإصرار على مبدأ الثبوتية والحتمية، سيقودنا بالتالي كنتيجة حتمية، إلى إنكار التطور والحرية، وهذا الأمر نابع من نظرته ورؤيته إلى هذا الكون، الذي لايمكن له أن يكون إن لم تكن هناك أساليب ” قوانين”، تحقق له وجوده واستمراريته .
يستنكف أوج آلان عن المساهمة في تقديم أي شروح، أو إضافات، أو تحليل حول مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة، ورغم أنه يبد كل التقدير لممثليها، ومواقفهم في هذا السياق، فهو يرى بأن قناعاته لم تتجاوز اعتبار ما وراء الحداثة، استمراراً لها ولكن بأشكال، و وجوه، وأقنعة جديدة للحداثة نفسها .
أمام هذا الواقع، يرى أوج آلان بأنه مضطر لتقديم شروحه وآرائه باسم ـ مصطلح “نسق الحقيقة”، حيث ميدانه سيكون البحث عن السبل للخروج من القضايا التي كتمت عنها الحرية أنفاسها، والمثقلة بالأخطاء والدلالات المضللة، بدل البحث عن أسلوب جديد، فالبحث بدءاً كما ذكرنا ـ من الميثولوجيات، إلى الأديان، إلى الفلسفة والعلوم الراهنة ـ سيقودنا إلى شبه قناعة تفيد، إن كانت إمكانية العيش خارج نطاق هذه الخيارات غير قابلة للتحقق، كذلك فإن إنكار وجود عالم قاسي هزلي مؤلم، هو نتيجة تلك الخيارات نفسها، وبمعنى آخر، لا يمكن العيش بدونها أو معها كما هي .
التضخم السكاني، نفاذ الموارد، دمار البيئة، التصدعات الإجتماعية المتعاظمة، انحلال الروابط الأخلاقية وضمورها، انقطاع الحياة عن الزمان والمكان، القلق والتوتر والكآبة المتزايدة بين أوساط أعمار مختلفة، أكداس الأسلحة الفتاكة، الحروب والمنازعات اللامتناهية، البنى الاجتماعية الهشة والآيلة إلى الانهيار في أي لحظة .
إن الوصول إلى هذه المستويات وهي جميعها خطيرة، تعد بحد ذاتها مؤشرأ واضحاً يدل على إفلاس أنساق حقيقتنا القائمة أمام هذا الواقع، وهذه الحياة المنتهية في دواخلنا. لا يمكن لي أن أقف صامتاً وعلينا رفع أصواتنا لنقول: “لم نفقد الأمل بعد، علينا البحث عن حل وعن مخرج، وأن نعود إلى الواقع وإلى أنفسنا ونسأل:
أين أخطأت البشرية؟
متى تم ارتكاب الأخطاء الكبيرة ؟
كيف ولماذا تشبثنا ولا نزال بالأفكار الدوغمائية الجامدة ؟.
يتبع …

زر الذهاب إلى الأعلى