مقالات

الأزمة التركية بوصفها «سقطة الشاطر»

صالح مسلم

تصدرت الأنباء العالمية «أزمة تركيا الاقتصادية» وانخفاض قيمة العملة التركية في مواجهة العملات الأجنبية، وعزا كثر هذه الأزمة إلى الخلافات بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، كما يحلو للمسؤولين الأتراك إظهارها على هذا النحو لإضفاء صفة البطولة على الرئيس التركي كونه يتصدى لأعتى قوة في العالم. بينما الحقيقة هي أن الأزمة ليست طارئة بل كانت متوقعة، حتى إن عقد تحالف بين جميع الأحزاب التركية الشوفينية حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية والأحزاب الأخرى الصغيرة، واتخاذها قرار الانتخابات المبكرة التي أجريت في حزيران (يونيو) كان هدفهما الاستعداد لمرحلة صعبة جداً من النواحي الاقتصادية أولاً، ثم السياسية والعسكرية. لهذا، فإن جذور هذه الأزمة عميقة وتعود إلى سنوات خلت من الفساد والاحتيال والنصب.

قبل كل شيء، فإن وصول تحالف «أردوغان – غولن» إلى دفة الحكم في عام 2002، لم يكن بريئاً، بل كان مدعوماً من بعض الأطراف الخارجية التي دعمت هذا التحالف بشتى الوسائل والتوجيهات، ومنها الاقتصاد، للتحكم بمفاصل السلطة والمجتمع كافة. وتركيا التي كانت المستفيد الوحيد اقتصادياً على صعيد المنطقة من حربي الخليج الأولى والثانية، كانت تسوّق كل ما لديها من سلاح ومواد إلى الطرفين المتحاربين، وبتلك الشطارة استطاعت تجنب أزمات اقتصادية عدة ألمت بكثير من الدول على صعيد العالم والمنطقة.

ومن خلال علاقاتها الحميمة مع سورية، بل الشخصية بين أردوغان وبشار استطاعت تحويل سورية مستعمرة اقتصادية لتركيا. ومع الاحتلال الأميركي العراق استطاعت التسرب إلى مفاصل جنوب كردستان كلها لتجعلها مستعمرة اقتصادية أيضاً بما في ذلك نهب البترول من خلال الأنابيب التي أنشأتها. ومن خلال جنوب كردســـتان، جعلت من كل الـــعــراق ســوقاً لتــصريف منتــجاتــها.

كذلك استغلت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران منذ عقود لتفتح أبواب تجارتها على إيران بشتى السبل المشروعة وغير المشروعة في السر والعلن. والبنوك التركية تورطت حتى الأعناق في العمليات المشبوهة، إلى درجة أنها كانت تمول كل عمليات الالتفاف على العقوبات، بخاصة تجارة الذهب بدلاً من الدولار، كل هذه العمليات كانت تجرى مع شخصيات من بطانة أردوغان، والقضية الموضوعة أمام القضاء الأميركي بحق نائب مدير «خلــق بانك» ورضــا ضراب فيها كثير من التفاصيل التي تكشف تفاصيل شطارة أردوغان والدولة التركية.

مع ثورات ربيع الشعوب في المنطقة، استطاعت تركيا بشطارتها أن تظهر نفسها الراعي الأول لحقوق الشعوب والديموقراطية، وبشطارتها أقنعت جميع الأطراف بأنها الشريك الأفضل الصادق لكل مخططاتها، وبذلك أخفت نواياها ومخططاتها الخاصة بها. فكانت في تونس ثم ليبيا ثم مصر وأخيراً سورية. وقبل أن تبدأ العمليات العسكرية في سورية قامت بتهيئة معسكرات اللاجئين وإقامتها، ومعسكرات التدريب وتكفلت بصرف الأموال من الأطراف الممــــولة، فعندما يعترف بن جاسم بأنهم صرفوا مبلغ 137 مليار دولار لتمويل العمليات في سورية، فإن هذا المبلغ صرف من طريق تــركيا طــبعاً لشراء السلاح والتـــدريب والتمويل، ما عدا المبالغ المدفوعة من المـــمولين الآخــــرين.

كما جُـــعلت تركيا مركزاً لكل أطراف المعارضة الخارجية، لاستضافتهم والتحكم بكل دولار يصرف عليهم.

اللاجئون الذين فروا من جحيم الحرب في سورية تحولوا إلى بقرة حلوب لتركيا: تقوم الأمم المتحدة بصرف أموال طائلة لهم من طريق المؤسسات التركية، وهناك كذلك الأموال التي يمنحها المانحون من دول العالم كافة. فقد اشترطت تركيا أن تكون جميع المعونات الإنسانية من طريق مؤسساتها مثل «آفاد» و «أي إتش إتش». كما جعلت من مدينة غازي عينتاب مركزاً لكل المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني تحت إشراف الاستخبارات التركية ورخصتها. فلا بد لكل مؤسسة أو منظمة أن تحصل على موافقة الاستخبارات حتى لو أرادت توزيع سلة غذائية واحدة.

خلال هذه المرحلة، استطاعت تركيا تأسيس أدواتها والوسائل الخاصة بها وسط هذه المعمعة لتمرير مخططاتها الخاصة بها وعلى رأس هذه الأدوات كان «داعش» الذي حقق الإبادات التي تريدها الدولة التركية من جانب، وحقق لها تجارة البترول مباشرة، وكذلك كل أشكال التجارة الممنوعة. وبدأت هذه الألاعيب تنكشف مع هزيمة «داعش» في عين العرب/ كوباني، تلك الهزيمة التي أصبحت نقطة تحول في مسار الشطارة التركية. فقد كشفت الهزيمة عن العلاقات الوثيقة بين «داعش» وتركيا، وكذلك عن السياسات التركية المخفية ومخططاتها.

عند انكشاف هذه الألاعيب والمخططات لجأت تركيا إلى سياسات الابتزاز على جميع الأطراف المعنية بسورية، فهددت أوروبا بموجات من اللاجئين إذا لم تنصَع لشروط تركيا الاقتصادية والسياسية. وهكذا بدأت تمارس الابتزاز والتهديد والوعيد لكل من حاول لجمها أو طالبها بتغيير سياساتها نحو سورية والمنطقة عموماً. وهذا إلى أن تصادمت مع الولايات المتحدة عندما اتهمتها بالتورط في الانقلاب المزعوم ولدى مطالبتها بتسليم غولن، وألقت القبض على القس والعاملين في السفارة الأميركية بهدف مقايضتهم بغولن ونائب مدير البنك، وإسقاط دعوى ضراب، لما لهذه الفضيحة من علاقة مباشرة ببطانة أردوغان.

لهذا، يمكننا الحكم بأن الأزمة التي تشهدها تركيا عميقة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي معاً. فعلى الصعيد الاقتصادي، السبب الرئيسي يكمن في نضوب مصادر الأموال التي كانت تأتيها من ممولي الإرهاب والمعارضة السورية أولاً، ثم ضياع فرص تأمين أسواقها وتجارتها غير الشرعية مع الفصائل الإرهابية، والأمر الأهم ما سيحدث بعد افتضاح أمرها في خرق العقوبات المفروضة على إيران سابقاً وتحذير الولايات المتحدة من خرق العقوبات الجديدة.

كل العوامل التي أشرنا إليها خارجية، علماً أن هناك عوامل داخلية أهم من العوامل الخارجية، وهي أن الحرب الدائرة في الداخل على أشدها منذ سنوات، وهذه الحرب شلت الإنتاج والتجارة الاعتيادية، فقد تطورت الصناعات الحربية بدلاً من الصناعات المدنية، وأصبح هناك اقتصاد الحرب في الداخل التركي، وتولدت طبقة «تجار الحروب» وسماسرتها الذين لا يهمهم المجتمع ولا الاقتصاد الطبيعي للدولة.

لهذه الأسباب التي ذكرناها باقتضاب، يمكننا القول إن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا هي «وقعة الشاطر» التي تكون مؤلمة جداً، وستكون مضاعفاتها كبيرة جداً على الشعوب في تركيا أولاً، ثم دول الجوار ثانياً، وكذلك على الأطراف التي تتعامل مع تركيا اقتصادياً وسياسياً.

نقلاً عن صحيفة الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى