ثقافة

من مهاباد إلى عفرين نموذج الدولة القومية وانتفاضات الكرد -3-

دلبرين فارس

 في حديثنا السابق  عن جمهورية مهاباد كنا قد سلطنا الضوء على بعض الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية  عن الجمهورية التي لم تر النور لأكثر من سنة، والتي كانت ضحية لحلقات التألب بين نظام الحداثة الرأسمالية الذي كان بقيادة الانكليز وبين صغار الحداثة الحديثي النشء(نظام الدولة القومية)، بالمقابل انتفاضة الشعب الكردي في روجهلات كردستان لم تتوقف طيلة  تلك المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى والتي مهدت لقيام نظام الدولة القومية في الشرق الأوسط والتي وضعت أركانها في إيران (رضا خان) وبدعم مباشر من الانكليزي بعد اجبارهم لشاه بلاد فارس أحمد شاه بالتنحي عن السلطة – الأمر كذلك  بالنسبة لتركيا ومصطفى كمال اتتاتورك في تركيا،  كان للإنكليز الدور الأساسي في العلاقة الحميمة بين رضا خان ومصطفى كمال، وما كان يقوم به أتاتورك في تركيا وباكور كردستان، يقوم به رضا خان في إيران وشرق كردستان

  فالنظامان قاما بممارسات تخدم مَنْ صنعهما إن صح التعبير وبنفس الوقت تخدم سلطتهما في ترسيخ نظام الدولة القومية والتي لا يمكن أن تتنامى من دون فرض سياسة قائمة على صبغ الدولة بلونٍ واحد ألا وهو لون النظام الحاكم. لنسلط الضوء على بعض هذه الممارسات الأولية في تغيير الشكل والذي سيؤثر حتماً على المضمون،  من جهة فقد فرض النظامان لغتهما كلغة رسمية لكل البلاد ومنع بقية اللغات الأخرى؛ أي صهر كل المكونات الأخرى في بوتقة واحدة، منع الخروج بالزي واللباس التقليدي الشعبي، وفرض اللباس الأوروبي والنموذج الأوروبي، بالطبع الهدف كان فرض نموذج للرأسمالية عن طريق نموذج الدولة القوية التي كانت إحدى ركائز الحداثة الرأسمالية، من هنا فأن الهدف كان من وراء فرض اللون الواحد هو صهر الشعوب ضمن بوتقة نظام الدولة القومية وتجريد تلك الشعوب عن هويتهم، ولترسيخ هذا النموذج من الحكم والسلطة كان لا بد من مواجهات دموية في بيئة جغرافية تتصف بالتنوع والتعدد كبيئة إيران والتي لم تكن قد ترسخت بعد ركائز نظام الدولة القومية فيها حتى بعد الحرب العالمية، من هنا فإن مناطق مثل أورومية ومهاباد كانت لا تزال تحتفظ بنظام حكم ذاتي تحت قيادة سمكو شكاكي، أما في لورستان فقد كانت الإدارة فيها لازلت في طور التأسيس.

أمارة لورستان كانت تتسع شيئاً فشياً، أما في منطقة “اللاك” وبالرغم من إن الإدارة  فيها لم تكن في إطار نظام حكم سياسي لكن كانت تُدار من قبل سكانها، الأمر ذاته بالنسبة لمنطقة “جوانرو” التي كانت تتمتع بنظام حكم ذاتي، كذلك في كلٍ من هورمان، مِيريوان كانت تحكم من قبل شخصيات معروفة في تلك المناطق  أمثال جعفرسان، وأسرة حمرش التي كانت تدير مناطقها تلك، من هنا يمكن القول بأن تلك الفترة التي سبقت نظام حكم الشاه رضا خان وقبل أن  ترتكز دعائم دولته القومية والتي سميت بإيران، فقد كانت مناطق بلاد فارس وكردستان تتمتع بنظام حكم ذاتي، فالشعوب المتعددة كانت تحكم وتدير نفسها بنفسها، بالطبع كانت هذه الصورة هي السائدة في تلك الفترة ولم تكن شكل الحكم الذاتي مقتصراً على الكرد فقط؛ بل كانت معظم الشعوب الإيرانية تتمتع بنوع من الإدارة الذاتية.

 في تلك الفترة كان نظام القاجاريين قد بدأ يضعف ويتقلص، كما أن الحركات اليسارية كانت نشطة في تبريز والتي كانت مدعومة من السوفييت” المد الشيوعي”، كما إن إيران وعموم كردستان كانت قد وقعت سيطرة الدول  الإمبريالية الاستعمارية خلال الحرب العالمية الثانية.

 في ظل هذه الظروف والمصالح المتشابكة  لم تكن هناك مركزية في القرار بشأن إيران لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الخارجي، بالطبع العشائر والإدارات الذاتية والاتحادات التي حكمت نفسها بنفسها هي التي كانت تقاوم، وفي الوقت الذي أعلن فيه رضا خان عن دولته ونظام حكمه، وبدعم مباشر من الإنكليز عمل على بناء دولة قومية خطوة بخطوة، وكما أسلفنا في الأعلى فإن رضا خان كان يسير على خطى أتاتورك في تثبيت ركائز نموذج الدولة القومية، ومن الطبيعي كان لابد من خوض حروبٍ ومواجهات دموية مع الشعوب التي لن تقبل بالفناء. وأولى هذه الحروب التي سيخوضها رضا خان ستكون موجهة ضد الكرد في روجهلات كردستان، في كلٍ من منطقة لورستان.

خلال عامي 1926-1927 أصبحت مناطق الإدارة الذاتية للـ”لاكيين” مسرح لهجمات جيش رضا خان ولمخططاته التي نجح فيها، ولمدة 3-4أعوام سيستمر الحروب بكل وطأتها، إلى جانب ذلك  سيدبر الكثير من المؤامرات عبر تجار الحروب والأزمات،  بالطبع كان لرضا خان اسلوباً سياسياً يعتمد على الحيلة والخديعة فقد كان يرسل كتاب” القرآن” إلى العشائر ويقول لهم ليكون هذا القرآن بيننا و سوف نتفق بالتأكيد”، وعندما كان زعماء العشائر يستجيبون لدعوته بالذهاب إليه، كانوا يقعون في شَرَكِ نظامه ويزج بهم في السجون، (أمراء لورستان واللاك) كمثال.

التاريخ يشهد على المقاومة التي أبداها اللاكيين  بقيادة  الأميرة “قُدم خير” والتي تسلمت الإمارة  بعد سجن زوجها في طهران.

  كذلك ينبر اسم “جيهان خان” من بين الأبطال الكرد اللور الذين قاوموا فرمان (رضا خان) الذي كان موجهاً لإبادة الكرد،  ومع بداية سنة 1928 يترسخ نظام الشاه بدعم من الأنظمة الاستعمارية، ومن جانب آخر فأن المواثيق والمعاهدات بين الإنكليز والأتراك يتخذ منحى جديد،  وكمثال فقد كان  مضمون نص اتفاق 5/ حزيران 1926/ بين الأتراك والإنكليز ينص على  إبادة الشعب الكردي وطَمسِ هويته وثقافته، وبالتالي لا وجود للكرد في تركيا ولا حتى وجود لأرضه التاريخية.

رضا خان واحتلال المنطقة:

 لم يكن هناك تكافؤ في العدة والعتاد، رضا خان المدعوم من القوى الدولية وعلى رأسها المملكة الإنكليزية سيعمل بكل قوة من أجل السيطرة  على منطقة اللور، وهورمان الثائرتان مما اضطر قادتها إلى القبول بشروط الشاه، ولم تستطع “قُدوم خير” الاستمرار في المقاومة واضطرت للاستسلام والقبول بـ”قرآن” رضا خان  بالطبع توفيت “قدم خير” وهي في سجن بطهران.

وبأسلوبه الماكر والمخادع وبدعم من الإنكليز ينهار مقاومة كل من محمود خان دزلي، ومحمود خان سناني، ورشيد خان باني، ويحتل رضا خان منطقة لاك و لورستان وهورمان  ويضعها تحت سلطة الحكم المباشر.

 لم تستطع الدولة الإيرانية ” نظام الشاه” والذي خرج من الحرب العالمية الأولى بهزات كبرى من تثبيت دعائم وركائز سلطته السياسية في روجهلات كردستان إلا بعد عام 1925 ولم تكن هناك حركات مقاومة قوية وجدية حتى عام 1946 باستثناء تلك التي شهدتها أربعينات القرن العشرين، حيث شهدت بعض المناطق انتفاضات وحركات مقاومة كانت مرتبطة بالشروط والظروف التي فرضتها الحرب العالمية الثانية آنذاك،  وكمثال فقد شهدت أعوام1941-1945 بعض تلك الثورات، في كل من منطقة “بانِه” والتي كانت تحت قيادة “حَمه رشيد خان” لكن انهارت مجدداً نتيجة اتفاقات الإنكليز والسلطة الإيرانية.

انتفاضة سمكو شكاكي:

 لم يتوقف سمكو في منطقته عن الوقوف بوجه السلطات المحتلة بالرغم من كل القوى التي كانت توجه ضده حتى لحظة فقدان حياته عندما وقع في كمينٍ نُصِبَ له. سمكو الذي قال ذات مرة :” أنتم تلاحظون كيف إن الأقليات الصغيرة في العالم والتي لا تتجاوز عدد أفراد بعضها عدد أفراد عشيرة كردية تتمتع بحكم ذاتي” إدارة ذاتية”، كذلك فإن الأقليات الكبرى أيضاً تتمتع بحكم ذاتي مستقل كالحكومة الألمانية مثلاً، لذا فإن عدم حصول الشعب الكردي كأقلية كبرى في أيران على حكمٍ مستقل يعتبر بمثابة الفناء لشعبنا، لكن المؤكد بأننا لن نثني عن حقوقنا في الاستقلال وتقرير المصير”.

 يشير الباحث الإنكليزي، ر. ولسون في بحثه حول القضية الكردية والعلاقات التركية الإيرانية: ” لو إن الحركة الوطنية الكردية في إيران أصبحت قوية، كانت ستؤثر بشكل مباشر على السياسة الإنكليزية في العراق”.

من جانبه يقول الكاتب والباحث روبين ميشيل وود:” إن مقتل سمكو كان فرصة مناسبة لاستقرارٍ ولو لحظي للسياسة الخارجية  الإنكليزية”.

العلاقات التركية الإيرانية، رضا خان- مصطفى أتاتورك

 باختصار أن الحديث عن العلاقات التركية الإيرانية طويلٌ، تلك العلاقات تخللها فترات من الوئام والصدام، لكن مسرح الصدام والوئام كانت كردستان، وكان الكرد هم ضحية هذه العلاقات وحلقات التآمر الناجمة عنها، لذا سنسلط الضوء على فترة أتاتورك- رضا شاه، والتي هي بطبيعة الحال سلسلة من سلاسل تلك العلاقة.

 في سنة 1937 وخلال اتفاقية سعد أباد توضحت ملامح تلك العلاقة بين الطرفان الساعيان لترسيخ دعائم دولتهم القومية، وحسب بعض المصادر فإن هذه الاتفاقية عقدة في 8-9 من شهر تموز من العام المذكور في طهران بين تركيا وإيران وافغانستان، وعلى الرغم من التناقضات والخلافات بين الأطراف الثلاث، لكن الذي جمعهم في الإطار العام والخاص المصلحة المشتركة وتسويق لنموذج نظام أتاتورك الكمالي، وبطبيعة الحال فقد كان لهذا النموذج تأثيرٌ كبير على الدولتين المذكورتين، ومن هنا بدأت الجبهة تتوحد لقمع الكُرد وطمس وجودهم، ويمكن القول بأن حلقات التآمر ومكافحة  الوجود الكردي كشعب يقف عائقاً بوجه أنظمة القمع والاستبداد ومصالح السلطات الحاكمة والقوى العالمية الكبرى” الحداثة الرأسمالية” التي كانت تكرس وجودها عبر بناء أنظمة رأسمالية صغيرة مرتبطة بها وتخدم مصلحتها.

زر الذهاب إلى الأعلى