مقالات

المُثَقَّف والمسقَّف (1-2)

imageسليمان محمود

ما عُدتُ أؤمنُ بكلِّ المعاييرِ الكلاسيكيّةِ والتعريفاتِ السّابقةِ للمُثقّفِ.

الثقافةُ- في زمنِ الثورة- ما عادتْ ترتبطُ بالمستوى الدراسيّ, أو تقتصرُ على الأكاديميّ.

الواقعُ يقولُ إنّ الكثيرَ من المثقفين والمبدعين في مُختلفِ المجالاتِ لم يحصلوا على مؤهّلٍ علميّ أو دراسيّ.

وإنّ احتكارَ الثقافةِ على فئةٍ مُعيّنةٍ من الناسِ, هو نوعٌ من الاختزالِ الذي ينبغي مُراجعتَهُ, والوقوف على التعاريفِ ضمنَ منظورٍ أكثرَ شموليّة وأوسعُ أُفقاً، فليسَ كلُّ مُتعلّمٍ مُثقّفٌ.

المُثقفُ هو مَن يستوعبُ ثقافةَ مجتمعهِ بدرجةٍ من الوعي الفائقِ بالمسؤوليةِ, الذي يُمكّنهُ من أن يُساهمَ في تعميقِ الإيجابيّاتِ, وتحريكِ جماعتهِ لبناءِ مُجتمعهِ وبيئتهِ.

ليسَ المثقّفُ مَن امتلكَ تنوّعَ المعرفةِ وسِعَةَ الاطّلاعِ.

 الثقافةُ الحقّةُ ليستْ فقط كَمّاً هائلاً من المعلوماتِ, بل سلوكٌ مُتحضّرٌ, وذهنٌ مُتفتّحٌ, رؤيةٌ شاملةٌ, تسامحٌ فكريٌّ, واطلاّعٌ على ثقافاتِ النّاس.

الثقافةُ برأيي, هي سلوكٌ حضاريٌّ ومعرفيٌ راقٍ مُتوَّجٌ بفعلٍ إنسانيّ, ولا يصحُّ لنا القول بأنّ هناكَ ثقافةً بلا سلوك.

المثقّفُ ناقدٌ اجتماعيّ, همُّهُ أن يُحلّلَ الأمورَ, ويساعدَ على تطويرِ أفكارِ المجتمعِ ومفاهيمهِ الضّروريّةِ، إنهُ الذي يملكُ قَدراً من الثقافةِ تُؤهّلهُ على النظرةِ الشموليّة والإبداع.

المثقّفُ هو المؤمنُ بالمُثُلِ العُليا نحوَ وطنهِ ومجتمعهِ وإنسانيّتهِ، هو كلُّ صاحبِ وجدانٍ يقظٍ وضميرٍ لا يقبلُ الهوانَ الواقعَ عليهِ أو على أبناءِ وطنهِ.

المثقّفُ هو مَن يتمثّلُ ثقافتَهُ جيّداً فكراً وسلوكاً, ومَن يدفعُ عنها عواملَ الانهزامِ الداخليّ والخارجيّ.

المثقّفُ هو المُتحرّكُ مع آمالِ الأمّة وتطلُّعاتها وقيمها ومفاهيمها, المُنفتحُ على كلّ الثقافات القديمةِ والمُعاصرة.

هو الذي يتبنّى الحريّةَ والعدلَ, ويُخاطبُ جماهيرَ الناسِ ونُخبَهم أيضاً, كلاً بما يناسبهُ.

هو الذي يشعرُ بالمسؤوليّة الخطيرةِ, فيتمثّلُ دورَ النبيّ لا دورَ الفيلسوف.

المثقّفُ هو عدمُ المتعصّبِ أو المتشدّد, وغير المُقيّد بثقافةٍ وحيدةٍ أو رؤيةٍ مُقدّسة. المُتعلِّمُ هوَ مَن يكونُ كذلكَ.

المُتعلّمُ هو المُتخصّصُ بالضرورةِ في مجالٍ واحد, منهجٍ رسميّ, وفكرٍ مُقولَب.

المتعلّمُ يصعدُ رأسيّاً في تخصّصٍ وحيدٍ, دونَ الانتماءِ بالضرورةِ لفكرٍ ضيّقٍ يحدُّ من قُدرته على التحليلِ والاستنتاج.

يُصبحُ المُتعلّمُ مُثقفاً إذا خرجَ من شرنقةِ التخصُّص, وانفتحَ على كافّة المصادرِ والمعارفِ والآراء والأفكار, وتأثّرَ سلوكيّاً بهذا التحوّلِ.

إذاً.. ليسَ كلّ مَن تخرّجَ من الجامعةِ يُعتبَرُ مُثقّفاً, وليس كلّ مَن كسبَ معارفَ ومعلومات كثيرة مُثقفاً, وليس كلُّ من تعلّمَ وقرأ الكتبَ مُثقفاً, ومع ذلكَ قد تجدُ فلاّحاً مثقفاً, ولا نقولُ عن المُدرّسِ في الجامعةِ أنهُ مُثقّف.

إنما المثقفُ الحقيقيّ هو كلّ مَن لهُ تفكيرٌ علميٌّ نقديّ, يكشفُ به عن المُسلّماتِ والبديهيّاتِ الزّائفة السّائدة في المجتمعِ, ويطرح الحُلولَ ويعتمد العقلَ والمنطقَ بعيداً عن التحيّزِ والعواطفِ وقيودِ السائدِ, وتكونُ غايةُ أفكارهِ الإصلاحَ والتصحيحَ والتطوّر والمنفعةَ العامّة للمجتمع, وتقبُّلَ الآراء المُخالفة بصدرٍ رحبٍ دونَ تشنُّج.

وبذلكَ هو يختلفُ اختلافاً كبيراً عن أصحابِ الشّهاداتِ المؤدلَجين, الذين يتعصّبون لأفكارٍ مُعيّنةٍ, وهدفُهم الانتصارُ لتلكَ الأفكار والدّفاعُ عنها.

المتعلّمُ يتلقّى علماً, ويسعى وراءَ المعلوماتِ التي تؤيّده في رأيهِ والكفاح في سبيله.

المثقفُ يمتازُ بمرونةِ رأيهِ, واستعدادهِ لتلقّي أيّة فكرةٍ جديدةٍ, والتأمّل فيها.

للأسف, المُتعلّمونَ بيننا كثيرون, والمثقّفون قليلون.

المتعلّمُ يبلغُ به الغُرورُ فلا يحتملُ رأياً مُخالفاً لرأيهِ, لكنّ المثقّفَ لا يكادُ يطمئنّ إلى صحّةِ رأيهِ, لأنّ المعيارَ الذي يزنُ به صحةَ الآراء غيرُ ثابتٍ لديه. إنهُ يتّصفُ بشجاعةٍ فكريّةٍ, يقتحمُ التابوهاتِ, ويكسرُ كلَّ الأُطرِ السائدة, ولا يتلقّى ما يسمعُ ويقرأُ كالإسفنجةِ, ولا يستظهرُ ما يقرأهُ كالببغاءِ, ولا يعتمدُ مثلَ العَوامِ على الأفكارِ الجاهزةِ, بل يعتمدُ التمحيصَ والبحثَ والتحرّي.

المثقّفُ حينَ يقرأُ لا يُلغي عقلَهُ, هو ليسَ كالأعمى, ولا يقعُ ضحيّةَ الأدلجةِ والتغييبِ.

الحديثُ عن المُثقّفِ يختلفُ إذاً عن المُتعلّمِ أو المُعلِّمِ أو حتى العالِمِ، الاختلافُ بينهما هو في (الدَّور), فمَن أرادَ أن يكونَ مُثقّفاً, عليهِ تحمُّل مسؤوليّته وأعبائها.

إنّها كمسؤوليّة الأنبياءِ في مجتمعاتهم، فالنّاسُ ما اتّبعوا الأنبياءَ لرسالةِ معرفةٍ جاؤوا بها وفهموها جيّداً, على العكسِ هم حُورِبوا ورُفِضوا في البدايةِ, واُتّبِعوا عندما نجحوا في إيصال تلكَ المعارفِ لا إلى عقولِ الناسِ وأسماعهم, بل إلى ضمائرهم وأرواحهم.

عملُ المثقفِ لا يختلفُ بطبيعتهِ عن أولئكَ الرُسلِ الذين جاؤوا ليبدّلوا انحطاطَ المجتمعِ إلى ازدهارٍ وحضارةٍ. المثقفُ ليسَ بعالِمٍ يأتي ليقولَ الحقائقَ.

 إنّ مسؤوليّتهُ تكمنُ في إيجاد أسبابِ انحطاط مجتمعه, ومحاولة تنبيه المجتمع الغافل إلى تلكَ الأسباب من خلال توضيح التناقضاتِ الموجودة داخلَ المجتمعِ وإيصالها إلى وعي الناسِ وأحاسيسهم.

يقولُ غرامشي: “المُثقّفُ الذي لا يتحسّسُ آلامَ شعبهِ, لا يستحقُّ لقبَ المثقّف”.

زر الذهاب إلى الأعلى