مقالات

آفرين المنعطف الفاصل للتحول إلى سوريا فدرالية ديمقراطية لكامل الشعوب السورية

ياسر خلف

أمور هامة طرأت على الساحات جميعها دون استثناء؛ كلها تشير إلى واقع بدأ يتشكل في المنطقة ما كان ليكون لولا الخطوة الأولى التي خَطَتْهَا القوى الثورية في روج آفا، ورغبتها في بناء مجتمع حضاري ديمقراطي يؤمن بالقيم الإنسانية، ويسعى لترسيخها. فتلك المقاومة التي أبدتها قوات حماية الشعب في “سري كانية”  كانت بمثابة العين التي أثبتت أنها قادرة على كسر المخرز وتحطيم اليد التي كانت تدفعها لاقتلاعها؛ لقد كانت الحرية هدفاً منشوداً لدى الشعب في روج آفا وطليعتها الثورية منذ البداية، حتى قبل أن تفكر تلك المجاميع التي تدعي الثورية؛ وأطّرَت نفسها باسم المعارضة؛ والتي أثبتت الوقائع والأحداث الجارية حالياً في مدينة الزيتون “آفرين” إنها لم تكن سوى أدوات رخيصة بأيدي القوى المناهضة للديمقراطية وحرية الشعوب، وعلى وجه الخصوص الفاشية التركية حيث تنتهي مفعول هذه المجاميع المرتزقة والمرتهنة الإرادة  بمجرد انقضاء المصلحة أو المنفعة، وهذا ما بات واضحاً لا يقبل الشك فيه من خلال مقايضة كرامتهم وإجبارهم على الذل والهوان أمام رغبة سلطان الإرهاب في تحقيق طموحاته على حساب الدم السوري، الذي بات سلعة رخيصة يتداولها أردوغان وأدواته من المرتزقة عبر التجارة بكل شيء، مقابل تحقيق غرور ونشوة أردوغان، وإن كان من خلال التنازل عما تبقى بيد هؤلاء المرتزقة؛ تماًماً كما حدث في حلب وقبلها في حمص وداريا والمعضمية  ……إلخ. وآخرها مطار أبو الضهور وكامل ريف إدلب تقريباً، والقائمة طويلة من سلسلة التِجَارة الاردوغانية، والغريب؛ أن هؤلاء المجاميع المرتهنة لا تزال سائرة في ارتهان إرادتها وكرامتها.

من هنا يمكننا القول إن قيم الحرية التي تبنتها ثورة روج آفا وشمال سوريا لم تكن تقتصر على الشعب الكردي فقط، وإنما أثبتت الأحداث الأخيرة في (آفرين) وقبلها تحرير الرقة عاصمة الإرهاب  هي لإنقاذ كل مكونات الشعب السوري، وهو ما بات واضحاً للعيان خلال السنوات السبعة من عمر الأحداث التي تعصف بسوريا؛ وخاصة في ملحمة كوباني، والآن في منبع الصمود آفرين  وذلك بوقوفها بكل أنفة وكبرياء أمام الصفقة الروسية التركية الإيرانية والبعثية؛ حيث يمكننا القول وبكل شفافية: “إن آفرين انتصرت حتى قبل أن تبدأ الفاشية التركية هجمتها وهمجيتها وانهزمت معها الدكتاتوريات الشرق أوسطية والقوى المهيمنة الرأسمالية؛ وعلى رأسها روسيا التي أرادت أن تدير الصراع حسب مصالحها ومنافعها الخالية من أية قيم ومبادئ. ولكن آفرين آثرت إلا أن تكون حرَّة أبية، ورفضت بشكل قاطع تسليم إرادتها وكرامتها وقررت الحياة بحرية عبر المقاومة والصمود, وهنا يمكننا التأكيد أن المنطقة الوحيدة التي حافظت على القيم الحقيقية للثورة والغاية من قيامها هي مناطق الفيدرالية الديمقراطية  في روج آفا وشمال سوريا، وأنقذتها من الانحدار نحو بوتقة استبداد الدولة القومية والمجاميع الإرهابية الطائفية التي كانت قد استحوذت على كل شيء باسم القومية أو الله ورسوله، والتي أثبت طلابها ومريدوها أنهم لا يستطيعون تجنب الفاشية نظاماً كان أم الخارجون عليه في ظل إصرارهم على بقاء الدولة القومية المركزية  العنصرية الرافضة لأيَّة هوية أخرى؛ إلا الهوية التي يحاولون فرضها على شعوب المنطقة.  لقد كان لقرار الصمود والمقاومة وخوض الحرب حتى آخر رجل وامرأة في كوباني ضد غزوات الهمج والظلاميين والتكفيريين ومجازرهم وأعمالهم الشنيعة والمروعة والانتصار عليهم هي العلامة الفارقة بين جهات وأطراف كانت تعوِّلُ على تلك القوى وداعميهم وتستغويهم بالقدوم؛ وذلك بفتح أبواب المناطق الكردية والشمال السوري على مصراعيها أمامهم بوصفهم قوة تحرير.

أثبتت الأيام الخمس الماضية على وجه الخصوص في قلعة الشرف آفرين نقيضها تماماً, وبيَّنت قوى استطاعت ليس فقط رد تلك الغزوات ولكنها عرَّت جميع القوى التي كانت تدعي يوماً الإنسانية ومرَّغت أنوف الاحتلال التركي ومجاميعه الإرهابية في التراب؛ لِتُلقِّن العالم مرة أخرى دروسا في الصمود والمقاومة والعيش بكرامة فُقدت في عصر المنفعة والمادة؛ واستطاعت بفضل فلسفتها ونهجها حماية السلم الأهلي بين المكونات، وصون حقوقهم ووجودهم ليس فقط في مناطق الفيدرالية الديمقراطية؛ وإنما أمسَتْ بِقيَمِها ومبادئها النابعة من إرادة شعبها قوة تحرير لكل سوريا ونموذجاً للحل الأكثر انفتاحاً وديمقراطية، والذي كان مُتعذَّراً تحقيقه في عُرفِ ومعتقد من كان لا يعرف إلا الهزيمة في كل مناحي الحياة، وكان ولا يزال يدفع بهم إلى الاغتراب عن واقعٍ كان يتطلب منهم التعرف عليه والتعامل معه بروح المسؤولية والاندماج في الثورة الإنسانية والأخلاقية التي بدأها أبناء القمح والزيتون، وكان لا بد لها أن تولد في النفوس المُخلصة مع ذاتها وأن تبتعد كل البُعد عن النفوس المريضة المجردة عن قيم شعبها؛ والمتهاوية نحو العمالة بأبهى صورها انحطاطاً.

إن انتصار إرادة خيار المقاومة على ذهنية الخنوع والاستسلام؛  تشير ليس فقط إلى تحرير الباب وجرابلس وربط أقاليم الفيدرالية الديمقراطية؛ لكنها أصبحت تمثل الأمل المنبثق من نفق أسدل عليه الظلام والسواد عنوة وبرغبة ممنهجة ومخططة لها في أقبية الذهنيات المعادية لكل ما من شأنه أن يشق النور في هذه الغمامة الداكنة بجورها واستبدادها، ولتصبح مطلباً مُلحَّاً للملايين ليس في روج آفا والشمال السوري فقط وإنما لكامل التراب السوري، والذي أثبتته الوقائع الميدانية وحتى الوجدانية منها، والتي توجتها أصابع النصر في كل الساحات التي توجهت إليها؛ ولتنضم الفصائل  العسكرية الواحدة تلو الأخرى لقوات سوريا الديمقراطية، والغالبية الساحقة من مكونات المجتمع التي جرى تحرير مناطقها في كل من تل أبيض ومنبج والرقة ومناطق شمال وشرق دير الزور؛ ورفضها للعقائد والذهنيات التكفيرية والاستبدادية القومية الدينية بجميع اشكالها، والانخراط  في البناء والتنمية الثورية المادية منها والمعنوية بشكل محسوس؛ ليتحول إلى هيكلية مؤسساتية، واللبِنَة الأساسية في مسيرة الحرية التي سعى الشعب السوري بكافة مكوناته إليها، ولترسيخ قواعد سوريا ديمقراطية تعددية لا مركزية انطلاقاً من روج آفا والشمال السوري؛ التي لعب وسيلعب الشعب الكردي والمكونات المتعايشة معهم فيها؛ الدور المحوري والبنيوي من خلال حركتهم الديمقراطية الاجتماعية، والتي ستحدد معالمها إرادة هذه المجتمعات التي بدأت تتعامل مع الحرية كقيمة معاشه على الأرض في ثورتها التي بدأت تنتصر فيها يوماً بعد يوم.

 إن ما شهدتها مدينة آفرين ومنذ سبع سنوات من الحصار، وخمسة أيام من حرب ضروس مازالت مستمرة؛ لم تكن من قبيل المصادفة أو أنها هجمة نازية لسلطان مغرور، لكنها كانت نتيجة لسياسات وتوافقات على مستوى إقليمي ودولي؛ كان يُراد بها ضرب ثورة روج آفا وشمال سوريا، والنيل من مكتسباتها, فقد سعت الدول المحتلة لكردستان دائماً إلى اللجوء إلى اتفاقاتها الأمنية المبرمة بينها؛ عندما كانت تستشعر بدنو الخطر من عروشها؛ ففوبيا القضية الكردية كانت وما زالت القاسم المشترك لهذه الدول الاستبدادية القومودينية رغم اختلافها في المواقف من الأحداث الجارية في المنطقة؛ لكنها كانت متفقة على محاربة الشعب الكردي وحركاتها التحررية، فما يشهده إقليم آفرين هو رغبة نظام البعث وملالي إيران وتواطىءٍ وضوءٍ روسيٍّ واضحٍ في مغازلة الطورانية التركية، وتوجيه رسالة عرفان متبادلة لتغير الأخيرة مواقفها واستدارتها 180 درجة تجاه بقاء الأسد ونظامه في سدة الحكم لمرحلة استبدادية مفتوحة الأمد، وتطمينها بأن اتفاقية أضنا ما تزال سارية المفعول عبر السماح لتركيا بالتوغل في سورية بعمق 30 كم مقابل تسليم مناطق خفض التوتر المزعومة إلى نظام الأسد بالكامل، ولكن؛ ما لا يستطيع أن يدركه أعداء الشعوب ومحتلي كردستان؛ أن مسيرة الحرية التي انبثقت من صرخة مقاومة أوقدها كاوى العصر مظلوم دوغان في غياهب السجون؛ بقيت مُتَّقِدة ومتجددة بروح آرين ميركان وملحمة كوباني، وستسمر بصمود آفرين لأنها ببساطة تعتمد على إبداعات مقاوميها وإرث شهدائها العظماء المستمدة من الفكر التحرري لقائد الشعب الكردي أوجلان، فالقوة التي قاومت لقرابة السنة ضد أعتى قوة إرهابية عرفها التاريخ في كوباني، وبتمويل وإسناد مباشر من الفاشية التركية؛ كانت بمثابة الناقوس الذي هزَّ الضمير العالمي ووجدانه؛ وجعلت من ملحمة كوباني حديث الساعة على كافة القنوات الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة؛ إلى درجة أرَّقت مضاجع الأعداء التقليديين المتجددين للكرد، والمتسترين والناكرين للحقيقة الكردية الحضارية، ورقيِّهم النضالي ضد الظلم على مر تاريخهم؛ فها هي آفرين توأمة كوباني تبدأ المرحلة الأكثر نضوجاً ورسوخاَ في النضال الثوري عبر صمودها ومواجهتها ومقاومتها المباشرة للإرهاب العالمي المنظم الذي تقوده الفاشية التركية، والتي كانت مبطنة قبلها بداعش والنصرة وأخواتها.

 إن المقاومة التي يبديها أبناء الشعب الكردي ومكونات الشمال السوري في آفرين ستتحول مجدداً إلى  قِبلةً لكافة الأحرار في العالم؛ لتصبح ملحمة حية تشهد على أرقى وأعظم القيم الإنسانية نبلاً وإخلاصاً وخلاصاً للبشرية جمعاء؛ والتي أرغمت وسترغم العديد من الدول في إعادة حساباتها، والوقوف مجبرة مرة أخرى بذهول أمام ما يبديه المقاومون من شعبنا وأبنائهم في قوات سوريا الديمقراطية؛ ليتحول العالم بأسره إلى ساحات للتضامن مجدداً مع مقاومة ومأثرة آفرين. فكوباني التي أصبحت الهوية الوجودية للشعب الكردي وشمال سوريا، فآفرين ستصبح المنعطف الفاصل للتحول إلى سوريا فيدرالية ديمقراطية لكامل الشعوب السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى