مقالات

هل نحرم أطفالنا مما حُرمنا منه؟

آزاد عكاش

حول حملة المجلس الوطني الكردي وغيره على لغتهم
سبب قرار الإدارة الذاتية بالتحول إلى التدريس باللغة الكردية ردود فعل متعارضة في الأوساط الكردية. ومع أن هذا القرار بالذات لم تتم محاربته كثيراً في الأوساط الإعلامية العربية والسورية إسوة بباقي القرارات الهامة الصادرة عن الإدارة. والمفارقة أن غالب المعارضة المنظمة صدرت عن أحزاب كردية محسوبة على المجلس الوطني الكردي. بعيداً عن المكاسب السياسية التي يمكن أن تتأتى عن الحملة المضادة يمكن القول أنها أول حادثة مهمة وضعت الكرد في رۆژاڤا أمام مواجهة حقيقية مع ذاتهم ومفهوم الهوية والانتماء.
التحول من لغة إلى لغة أخرى في التعليم خطوة صعبة جداً وتجربة الجزائر في التحول إلى التعليم من الفرنسية إلى العربية ليست ببعيدة وكثير من المعلمين الكرد شاركوا بأنفسهم كسوريين في تعريب التعليم في الجزائر. والانتظار حتى يصبح لديك كادر عملاق كلمة خادعة فكيف ستبني هذاالكادر في جو تعليمي عربي.
في البداية في روژاڤا تم الاستعانة بأعداد كبيرة من كوادر مخيم مخمور للاجئين في جنوب كردستان (والذي تحول إلى ما يشبه البلدة الصغيرة التعليم فيها باللهجة الكرمانجية حتى البكالوريا). وبعدها تم إعداد الكادر المحلي في رۆژاڤا على مدى ثلاث سنوات. كنت قد قمت بجولة على مدارس عفرين منذ سنتين خلال إعدادي لتقرير عن بدء تعليم الكردية كلغة في المدارس ولمست مدى الحاجة إلى المزيد والمزيد من المعلمين ولكن هذا الحاجز تم تجاوزه إلى حد بعيد حالياً. وإن يمكننا القول أنه بالتاكيد لم يتم حل مشكلة الكادر الكافي. ولكن في مرحلة ما يجب اتخاذ القرار وعدم التأخر به فليس من المعقول أن تجهز كامل الكادر لكافة المراحل الدراسية ومن ثم تبدأ في المرحلة الانتقالية لا بد من التماشي الوسطي. هذه الخطوة يجب الإقدام عليها عاجلا أو آجلا. وربما هذا هو السبب في البدء بفرض المناهج الكردية على الصفوف الدراسية الأولى الثلاث فقط.
قد يكون وقع بعض الكلمات قاسيا ولكن يمكن القول أن أنانية الخلاص الفردي إضافة إلى المشاعر الدونية التي غرست في الشخصية الكردية في سوريا خلال سنوات القمع البعثي وما قبلها تظهر أول ما تظهر في هكذا مراحل. الكل يزاود على لغته ويتباكى على لغة الأجداد المقموعة المهمشة التي يراد تحطيمها وتغريبها عن العصر الحديث وحين يتعلق الامر بابنه/ابنته يفضل أن يكون الجيل اللاحق لهم هو أول جيل يدخل هذه المرحلة ولسان حال الوالدين يقول لا ضرر في تعلم لغة أخرى ما دمت أنا ذات نفسي قُمِعَت لغتي وتعلمت لغة أخرى غصباً قيل لي كذبا أنها وأنها فقط هي لغة العلم. بدل أن يفكر أن أكثر نتائج التعليم بالعربية ظهرت على الوالدين هي مسح شخصيتهم واحترامهم للغتهم وجعلهم يعتقدون أنها فقط لغة بدوية قروية. النرجسية هي سبب آخر فالوالد/ الوالدة الذي تعتبر العربية هي لغة ثقافته لا يتقبل بسهولة أن يدرس ابنه بلغة أخرى تصبح هي لغة ثقافته حتى ولو كانت لغته الأم التي كان الأب غالباً يزاود عليها ويعلم ابنه أن لغته مقموعة ممنوعة وأنه من شعب مقموع.
مع أن اللغة الكردية تصف اللغة الأولى باللغة الأم والوطن بوطن الآباء والأجداد وما يحمل هذا التوصيف من ربط اللغة الأولى بالأم وطبعا الغالبية المطلقة من كرد رۆژاڤا وسوريا تعلموا الكردية من أمهاتهم. رغم ذلك الأم الأمية قبل المتعلمة تم برمجة وعيها أن ابنها الذي يجيد العربية هو الأشطر والأمهر في المدرسة وابنها الآخر الذي ترك الدراسة والأقل سوية تعليمية ومجتمعية هو ذاك المتعلق أكثر بكرديته كلغة نتيجة بعده عن العملية التعليمية العربية. صعب على هذه العقلية التي تم تعليمها أن تخفض صوتها حين تتحدث بالكردية في الأماكن العامة وأن تخجل حين تتحدث بعربية سيئة وحتى أن تخرس لغتها في الأماكن الحكومية صعب أن تدرك الآن أن مستقبل ابنها هو هذه اللغة لغته نفسها ولغتها نفسها. وعلى نحو معاكس وربما مبشر خلال جولتي كانت النسبة الغالبة من المدرسات من الإناث وهو تحول نوعي كبير عزيته حينها إلى عاملين الأول سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي في العمل في صفوف الإناث بسوية عالية, أما العامل الثاني أن التدريس بالكردية حينها كان شبه تطوعي مما يعني أن غالبية الذكور المطلوب منهم تأمين مستلزمات العائلية المادية أكثر من الإناث سيفضلون العمل في عمل ذي مردود مادي.
أغلب الأحزاب في رۆژاڤا ركزت في تعليم اللغة على الرجال أكثر من النساء لذلك كان غالبية المهتمين باللغة الكردية في العقود السابقة من الذكور. ولكن الكثير ممن يعرف الكردية قراءة وكتابة وضمنهم من بدؤوا بنظم الشعر بسرعة دون أن يتجاوز مستواهم اللغوي مستوى محو الأمية لم يدرسوا أو يقرؤوا كتب علمية باللغة الكردية ويعطون نفسهم الحق بالحكم على مستوى اللغة ومدى قدرتها كلغة علمية ويعطون الحكم القاضي بأن اللغة الكردية لا تصلح للتعليم. ليس ذنب اللغة إن كانت قدارتهم اللغوية وميولهم الأدبية أبقت الكردية لديهم لغة للشعر الحماسي والمزاودات السياسية مع أنه وللأسف غالبية الطبقة السياسية العليا لأحزاب رۆژاڤا التقليدية لا تجيد سوى الكردية العامية المتخمة بالمصطلحات العربية. وهي ظاهرة تدل على مدى الفشل في تطبيق ما كانوا يدعون إليه طوال عقود على الذات على الأقل. يمكن إيراد الأمثلة بالعشرات عن سياسيين قياديين في أحزاب رۆژاڤا الكلاسيكية يمكن لواحدهم الفخر بثلاثين عاماً وأكثر من النضال في سبيل نيل حقوق الشعب الكردي ولكن كل سنين النضال لم تنجح في تعليمه الكتابة والقراءة بلغته بشكل سليم وهي أول ظاهرة تدل على مدى الفشل واللامبالاة التي طبعت باقي أوجه النضال التي حولت غالية الأحزاب إلى ما يشبه منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الثقافية. ولكنها حتى في الجانب الثقافي كانت دون السوية المطلوبة. أول مواجهة مخجلة لهذه للطبقة كانت في جنوب كردستان في المؤتمرات والمقابلات التلفزيونية والتي أصبحت مادة للتندر بين المتابعين. شهدت الكثير منهم يرتجف حين يمسك الورقة لقراءة خطاب بالكردية إن كان يتحدثها بطلاقة ما دامت عامية. يمكنني أن أدعوهم للدراسة في الصفوف الابتدائية في مدارس رۆژاڤا. غالبية الكتاب الكرد ممن يجيدون الكردية تعلموها بمبادرات ذاتية وهؤلاء بالذات لم يجدوا طريقهم إلى المناصب العليا. وهم أول من يدافع عن التحول إلى اللغة الكردية في التعليم ويهون من فزاعة أدلجة التعليم التي تستخدم مبرراً كاذباً ويوضحون الفرق الواضح بين رفض أدلجة التعليم ورفض التعليم باللغة الأم.
المعيب أكثر من كل شيء بل والمفارقة أن الأحزاب التي تتدعي التزامها بنهج البرزاني هي من تقود هذه الحملة الحمقاء وكأن المدارس في إقليم كردستان لا زالت تعمل بنفس عقلية ومناهج أيام النظام البعثي البائد وكأن نهج البرزاني الذي قضى حياته مقاتلاً هو مجرد شماعة نستعلمها لتبرير فشلنا وكأن ما أنجزه البرزاني من منجزات سينسب لهم تلقائياً ما داموا يصنفون أنفسهم كمتتبعي النهج. يمكن أن أقول لو كنت حزباً كردياً منافساً للـ پ ي د لكان أول همي هو عدم استفراد الـ پ ي د بالمؤسسة التعليمية ولحرضت كافة كوادري على الدخول في المؤسسة التعليمية والمساهمة في تعليم اللغة الكردية إلى الجيل الجديد يمكنني حينها أن أؤثر على عملية وضع المناهج والمطالبة بإدخال تغيير هنا وتغيير هناك.
خطوة التعليم بالكردية خطوة كبيرة جداً تحتاج تعاون كافة الأحزاب الكردية وإذا كانوا فعلا يزاودون على القومية الكردية ونهج البرزاني فربما عليهم المساهمة في انجاح المشروع عبر إيقاف الحملة ضد التعليم باللغة الأم ونشر التوعية بين الناس حول أهمية هذه الخطوة وحتى المطالبة من سلطات إقليم كردستان الفيدرالي بدعم هذه التجربة أكاديمياً ولوجستياً. وهو رد الفعل الصحيح على نواقص االمناهج التعليمية والكوادر التدريسية الحالية وأما أن أحاول نسف العملية بكاملها بحجج واهية فهي عقلية مريضة ومريضة جداً وتنم عن جهل مطبق. ليست الديمقراطية مسايرة الأميين في الأمور الاختصاصية ومن هنا ظهرت فكرة التعليم الإلزامي للأطفال والتي تصل حتى البكالوريا في بعض البلدان والذي وللمفارقة المضحكة المبكية عندما تحول إلى اللغة الكردية أصبح اسمه “التعليم القسري” على لافتة معارضة تم وضعها في يد طفل صغير في مظاهرة مضادة لتعلمه بلغته.
تلبس دور الضحية تجيده الشخصيات المقموعة وتعتاد عليه. في الوضع الجديد ولحاجة النفسية المقموعة التي اعتادت العبودية إلى جلاد أصبح التعلم باللغة الأم والذي يريد تعليم الأطفال بلغتهم الأم هو الجلاد. وجود الجلاد ضروري لهكذا شخصيات. أما بالنسبة لحجج الأدلجة فهي كاذبة إلى حد بعيد بالمرة لأن هذا الطفل يعيش في روژاڤا حيث الحديث في كل مكان عن الـ پ ي د وال ي ب گ ويشاهد يومياً الإعلام الكردي في روژاڤا وغيرها إما مع الـ پ ي د أو ضده أو أن التحزيب والأدلجة هي في كل مكان من المجتمع الكردي. ولا أظن أن درساً واحداً فيه ذكر لأوجلان أو لشخصية أخرى من حزب العمال ستكون حقنة سحرية تحول التلميذ إلى محارب كريلا في جبال قنديل (في هذه الحالة يمكن لولي الأمر المتخوف والذي لم تنجح كل حقن البعث في تحويله إلى بعثي أن لا يبعث ابنه في ذلك اليوم إلى المدرسة ويحميه من ذلك اللقاح الفكري المخيف له). لو دعا أي حزب كردي إلى عدم ذهاب الطلاب إلى المدراس البعثية في الزمن السابق بحجة أنها تعلم مناهج مؤدلجة بعثية قومية عروبية فماذا كانت ستكون ردة فعل الأحزاب؟ كان الجميع سيفضل أن يدرس أبناءه ولو في المدارس البعثية على أن يبقوا أميين. يمكن أن أقول أن سياسة التعريب تأتي أكلها في هكذا لحظات.
في دهوك قال لي صديقي السرياني, أبي لم يبعث بنا إلى مدرسة عربية ولا سريانية بل إلى مدرسة كردية لسبب بسيط نحن نجيد لغتنا ونستطيع تعلم قواعدها وأدبها في أي مكان ولكن اللغة الأساسية في الإقليم هي الكردية والفرصة الأساسية في الوظائف هي للكردية. طبعا التوجه الأساسي بعد االتعلم بالكردية هو تعلم اللغة الإنكليزية والتي يا للمفاجأة هي لغة العلم والعالم وليست اللغة العربية. يمكن القول أننا نتجه لوضع مشابه في رۆژاڤا تصبح فيه اللغة العربية إغناء للمتعلم وزيادة في قدراته اللغوية إلى جانب اللغة الإنكليزية في حين أن الأساس هو اللغة الكردية.
خلال سنوات عملي في الترجمة من وإلى الكردية ترجمت خلالها إلى الكردية عن الإنكليزية أكثر من مئة فيلم وثائقي تغطي كافة جوانب العلوم النظرية والتطبيقية. يمكنني القول أن اللغة الكردية ومع أنها تواجهة بعض المشكلات من ناحية المعيارية وتكوين المصطلح ولكنها نفس مشكلة كافة اللغات ومنها العربية التي تختلف مصطلحاتها التعليمية الاختصاصية من بلد عربي إلى آخر وليس مفاجئاً أن أغنى لغات العالم بالمصطلحات هي الإنكليزية والصينية وستبقى باقي اللغات تواجه هذه المشكلة بدرجات متفاوتة. تجربة جنوب كردستان مع التعليم بالكردية بشقيها السوراني والكرمانجي-الباديناني كانت في خط بياني صاعد ببطء حتى بدأت العملية التعليمية الكاملة بالكردية حينها شهدت صعوداً حاداً والسورانية الآن كلغة علمية أعلى سوية بدرجات كبيرة عنها قبل عشرة سنوات ويمكن قول نفس الشيء عن البادينانية وكلتا التجربتين يمكن أن تفيدا التجربة التعليمية في رۆژاڤا. خلال قيامي بالترجمة كان الأمر كذلك تماماً.
أختم مقالتي بموقفين أثرا فيني كثيراً خلال جولتي على نواحي وقرى عفرين, الأول حين كنت أقف على باب مدرسة ابتدائية في موباتا. الطفلة الصغيرة الباسمة ذات السنوات الثمان والتي جاوبتني بسؤال آخر عندما سألتها هل تتعلمون بالكردية في المدرسة. سألتني بدورها هل أنت ماموستا (تعني مدرس لغة كردية), ليس عندنا ماموستا نحن نتعلم العربية, لماذا لا تأتي وتدرسنا بالكردية؟ الموقف الثاني لم أذكره في ذلك التقرير. وهو ما أخبرتني به مدرسة للغة الكردية عن والدة إحدى التلميذات التي تمزق صفحات الفروض البيتية باللغة الكردية المعطاة لابنتها بحجة أن المدرسين كانوا يهتمون فقط بالكردية ويهملون باقي المواد, ناسية أن مدرسي اللغة الكردية (حينها) كانوا متطوعين بالكاد يقبضون ثمن تنقلاتهم ومدرسي باقي المواد (المهملين) كانوا لا يزالون يقبضون معاشاتهم الحكومية.
أكثر ردود الأفعال وعياً كانت ممن بدأ مباشرة بالتمحيص في المناهج بحثاً عن أخطاء لغوية ومنطقية للعمل على تلافيها مستقبلاً وهي رد الفعل المتوقع بل والمطلوب من كل من يريد للجيل الجديد أن يتعلم بلغته الأم. في حين البعض من الجيل القديم وعن قلة وعي أو نتيجة لدوافع مغرضة من بعض الأحزاب سياسية يريد أن يحرم الجيل الجديد من التعليم من لغته. فهل سنحرم أطفالنا مما حرمتنا السلطات الغاصبة منه؟

زر الذهاب إلى الأعلى