ثقافة

ليلةُ النجوم بعد مئتي عام

نسرين أحمو

(إدراكُ الموت يحثُّنا على الحياة بشدّةٍ أكبرَ)- باولو كويلو.

الحياةُ بالنسبة لي كالسيمفونيّة، فهناكَ الكثيرُ من الهدوء، الكثيرُ من الصخب.. والكثير من الجنون. وعليكَ دائماً أن تتقبّلَ فكرةَ الجنون، فالكثيرُ منا يبحثُ عن الاختلاف ويريدُ أن يكونَ مميّزاً في كلّ شيء، إلاّ أنهم يسيرون في الدرب ذاته دونَ وعيٍ، ويبتعدونَ عن الواقع المحيط بهم كثيراً.

ربما لا نحتاجُ للابتعاد عن واقعنا كثيراً لنكونَ مختلفين، بل نحتاجُ إلى التمعّن في هذه الحياة من وجهة نظرٍ مختلفة. فهذا العالمُ مليءٌ بالنوافذ، وكلّ نافذةٍ وجهةُ نظرٍ أو طريقٌ لأن تجدَ ذاتكَ فيه.

” فينسيت فان كوخ” هو الرجلُ الذي اخترتهُ لأن يكون نافذتي أو مرآتي التي أودّ أن أرى نفسي من خلالها، وأكتشفُ مدى الجنون الذي أحملهُ بداخلي.

فلكلّ مجنونٍ حياتهُ الخاصة أو طريقٌ خاصّ، أو عالمٌ مختلفٌ بخلاف هذا العالم الذي نعيشه، كما المصابين بالانفصام، لكن بطريقةٍ مختلفة، دونَ أن تذهبَ بعيداً أو تخرج من هذا العالم كثيراً.

(ليلةُ النجوم)، أو(ليلةُ المجنون) أياً كانت التسميةُ، إذ لن يختلفَ الأمرُ كثيراً بالنسبة لي، فالواقعُ هو ذاتهُ، وليسَ ثمّةَ مَخرجٌ سوى باب ليل هذا المُبدع، ولربّما بالنسبة لي أيضاً وددتُ أن أعيدَ كبرياء الجنون لذاتي وألبس عباءةَ الجنون وأسير في طريقه، لكن بشكلٍ مختلفٍ بعض الشيء.

ولطالما أصبحت هذه اللوحةُ معشوقةَ الشعراء ومُلهمةَ الموسيقيين وتمجّدَ بها الكثيرون وأنا أحدهم، ابتداءً من السماء التي تتوسّطها  الزوبعات والتي استفزّت إلهامي، وانتهاءً بالألوان المتساقطة على اللوحة التي شرّدت مُخيّلتي.

أظنُّ أنّ هذه الزوابعَ ليست إلاّ الخراب الذي حلّ بهذا العالم البائس بالنسبة له. الخراب الذي أصابَ روحهُ من الحُبّ، فكسرتْ أقدامَ حبّهِ وأثارت في قلبه ثورةً وانتفضت أحاسيسهُ. إنه الخرابُ الذي أصابَ العالم من الطمع والغريزة والموت المتناثر في كلّ مكان.

ربما لو كان فان كوخ بيننا لأعادَ رسم هذه اللوحة بزوبعاتٍ أكبر وأكثر اتساعاً ليغطّي هذا العالمَ بأكمله. لقد قمتُ أنا بهذا الدور، وأضفتُ خريطةً مليئةً بالموت والسواد على صدر اللوحة.

الكثيرُ من النقّاد التشكيليين قالوا بأنّ هذه اللوحة ليست سوى تعبيرٍ عن حالته النفسيّة والحالات التي مرّ بها من مصحّه العقلي ومن شُرفته المُطلّة على المدينة الحزينة والمليئة بالخراب. ولرُبما لم يختلفِ الوضعُ لحدّ الآن، فما زالَ الحزنُ يأكلُ منا ويلتهم السعادةَ ويفتح أبوابَ الكآبة لنا، ويسيرُ بنا إلى وحدةٍ أبدية، يسير بنا إلى الموت البطيء.

ومنهم مَن رآى أنّ اللوحةَ لم تحملِ الحزنَ فقط، بل الكثير من الأمل والسعادة التي نبحث عنها جميعاً. فالألوانُ تأخذنا إلى السعادة التي طالما نبحث عنها جميعاً، في السماء أو في أحلامنا أيضاً، ليبقى الأملُ الذي لا غنى لنا عنه ساطعاً، فلا معنى للحياة دون الأمل.

تلكَ الحياة التي طالما نبحثُ بين طيّاتها عن ذواتنا المختلفة، عن دواخلنا التي طالما رغبنا بها وما تحقّقَ شيءٌ منها سوى في أحلامنا الهاربة منا في الواقع المرير.

ويأخذ الجنونُ ما يحلو له، والكآبةُ ما تيسّرَ لها، تلكَ الكآبةُ التي طالما أهربُ منها وأعودُ إلى ذاتي مستسلمةً، دون الخوض في معاركَ كثيرة، دون التوسّل إلى أحدٍ سوى ألواني ولوحاتي التي طالما وددتُ أن أرى ذاتي فيها وأفتحَ طريقاً لروحي من الألوان، وأسير إلى السعادة التي أبحث عنها أو التي بحثَ عنها فن كوخ.

ويبقى السؤالُ الأهمّ بالنسبة لي ولربما لفان كوخ: هل الإنسانُ الذي لا يعاني الجنونَ يُلحقُ الأّذى بالآخرين؟

أو الغريزةُ هي التي تقودهُ إلى الإيذاء؟

زر الذهاب إلى الأعلى