مقالات

الحرية؛ كقيمة ومعنى

الكثير من العلماء والفلاسفة تناولوا مفهوم الحرية وعرفوها بجوانب وزوايا مختلفة لكن بالمقدور القول إن البشرية لم تصل الى الحرية كمفهوم ملازم للفطرة الإنسانية لكنها بقية جزئية ومؤطر بالزاوية التي ينظر إليها حسب الطرف الذي يمنحها رؤيته ومنظوره لكيفية منحها ومعاير ممارستها.

ما نستطيع قوله بهذا الصدد أن المجتمع البشري يتميز عن غيره  في رقيّ آفاقه الذهنية ومرونته وقدرته على الإبداع في انشاء ذاته وتقديم نفسه كطبيعة كونية متميزة.

ربما قد يكون تناولنا للطبيعة البشرية من هذا المنظور اقرب إلى ما دعا إليه الميثولوجيا الدينية ومناهجها كـ (خلق الإنسان في أحسن تقويم، واستخلفه على الارض، وسخر له كل الكون), وهنا قد يتبادر إلى الذهن إن الإنسان اصبح هنا حرٌ في سلوكياته واستخدام قدراته المميزة ولكن هلّ هذه الحرية فردية أم جماعية ؟ وهل هي خاصة بقوم دون أخر أو دولة دون أخرى وهكذا نكون امام اشكالية الانتقائية وثنائية المالك والمستملك.

من المهم هنا عدم الوقوع في براثن ثنائية الإنسان الحر والإنسان العبد أو حتى اختزاله في الانسان وحده لأنها ستكون هدامة وكارثية على جميع الخليقة دون استثناء وبهذا المعنى الضيق لمفهوم الحرية سيكون تناوله بكونها مادة يمكن استملاكها من قبل الشخص (الفردانية) أو قومية (عنصرية ) أو دولة (سلطوية) أو هيمنة مركزية (رأسمالية) وهذه الاصطلاحات التي تؤطر نفسها تحت مفهوم الحرية هي في حقيقة الامر تقزيم ونفي لمفهوم الحرية وأدوات مادية تستخدم المقدرات للحد من تدفق الحرية كطاقة موجودة بذاتها منذ تشكل الكون ومن هنا فإن درجة الوصول الى معنى الحرية هي خاصية كونية بعيدة عن كونها مادة تجب استملاكها من قبل فئة معينة ولكن على النقيض يمكن القول أنّ درجة الوعيَ هي أقرب دائماً إلى الوصول الى الحرية، وهنا نصل إلى إن الحرية والوعي مفهومان متلازمان ومرتبطان ببعضهما لحد التطابق والتي بدورها قيمة مرتبطة بمدركاتنا وطاقاتنا لذلك فأن  الوعي هي بوابة الحرية، أي أن الوعي المبني على الواقعية يفتح الآفاق أمام الحرية في كلِّ الأوقات.

ولهذا السببِ أيضاً يمكن تعريف الوعيُ على أنه استمرار لتدفقُ الطاقة(الحرية) لأن الحرية لا يمكنها إلا أن تكون استمرارية لتدفق الطاقة (المعنى ).وفي هذا الصدد  يقول القائد عبد الله أوجلان (لا أتمالكُ نفسي من القول: وكأنّ الحريةَ هدفُ الكون. كثيراً ما سألتُ نفسي إنْ كان الكونُ يسعى نحو الحرية فعلاً. ولَطالما اعتَبَرتُ المقولةَ التي تُشِيدُ بأنّ الحريةَ نزعةٌ وبحثٌ عميقٌ خاصٌّ فقط بالمجتمعِ البشريِّ مقولةً ناقصة، وفكرتُ دائماً بوجودِ جانبٍ فيها معنيٍّ بالكونِ بكلِّ تأكيد.

 حسبَ رأيي، من المهمِّ بمكان عدمَ سلوكِ الأنانيةِ في موضوعِ الحرية، وعدمَ السقوطِ في اختزالها إلى الإنسانِ فقط. أَوَ يمكن إنكارَ كلِّ مساعي الحرية الكبرى للحيوانِ المحبوسِ في قفص؟ وبينما يُضارِع تغريدُ البلبلِ أرقى السيمفونيات ويُخَلِّفُها وراءه، فَبِأيِّ مصطلحٍ عدا الحرية يمكننا إيضاح هذا الواقع؟ وإذا ما تَقَدَّمْنا أكثر؛ ألا تُذَكِّرنا كافةُ أصواتِ وألوانِ الكونِ بالحرية؟ والمرأة باعتبارها أولَ وآخرَ عبيدِ المجتمعِ البشري بأعمقِ الدرجات، بأيِّ مصطلحٍ عدا البحث عن الحرية يمكننا إيضاح كلِّ مساعيها وتَخَبُّطاتها؟ وتعريفُ الحريةِ لدى أكثرِ الفلاسفةِ تعمقاً – سبينوزا مثلاً – بِكَونِها قوةَ المعنى أو الخلاصَ من الجهل، ألا يؤدي إلى البوابةِ عينها؟).

وهنا ينبغي التنويه بأن مظاهر الثراء المادي(التقدم الاقتصادي المادي) , والمعنوي(الثقافة والفنون), والقوة(السلاح والعتيد) والسيادة (السلطة والهيمنة) المحتكرة من طرفٍ ما، تتحققُ على حسابِ فقر وعجزِ الآخرين وتصييرهم رعاعاً وجاهلين وهنا يبدأ مرة أخرى دوامة البحث عن الحرية من قبل المفتقرين لمعنها أو المحرومين منها و ما نشهده واقعاً في حاضرنا من ثورات ومقاومات  هي في حقيقة الأمر من أجل الوصول إلى قيمة الحرية التي احتكرها فئة معينة دون أخرى، وكذلك الصرعات والهيمنات والأزمات والاشكاليات التي يشهدها البشرية برمتها ما هي إلا أدوات لتكريس العبودية والاستبداد من قبل الأطّر المحتكرة للحرية التي جعلتها مادة لتوسيع سلطتها وفرض هيمنتها، لذلك يمكن القول أن البشرية حلقة مفرغة للحرية كمعنى وقيمة جمعية، وما نشهده من مظاهر شكلية للحرية هنا وهناك هي في حقيقة الأمر افرغٌ تام لمعنى الحرية كطاقة متدفقة غير قابلة للحبس والاحتكار، لذلك يقول القائد (أبو) في هذه النقطة  بالتحديد: (فإنْ كانت هذه الفئة أو القومية أو الدولة  تتطلعُ إلى تحريرِ ذاتها فلا خَيارَ أمامها سوى تحرير المجتمعِ برمته). ومن هنا يمكن القول إنْ كان الهيمنات التسلطية  بمختلف تسمياتها (الرأسمالية, الليبرالية ,القومية، الدينية….)  يرغبون التأكدَ من حرياتهم، أي مِن ثرائهم وقوتهم في الذكاءِ والمعنى؛ فلا سبيلَ أمامهم سوى إثراء المجتمعِ العالَمي برمته، وتعزيزه وإثرائه معنوياً على منوال مشابه والاعتراف بكون الحرية قيمة مطلقة وغير مجزئة   وإلا فالبشرية لن  تنبَري من أمثال الفراعنة و نيرون وهتلر وميسوليني وبينوشيه وصدام وخميني وأروغان، لِيَتَسَلَّطوا على رؤوس المجتمعات في كلِّ لحظة. وبهذا المعنى فأن تحرُر المجتمعات غير ممكنة إلا بتناول الحرية كمعنى وقيمة جمعية ملك لكافة الشعوب والقوميات والمكونات والتي أقرتها الأمم المتحدة في عهودها ومواثيقها الدولية ,ولكنها لا تزال محتكرة من قبل الهيمنات المركزية وأدواتها من دول قومية ودينية في اعظم تناقض يشهده البشرية من إنكار لمبادئها وانفصام عن قيمها التي اصبحت فيها الحرية سلعة ومادة مزاجية يمنح لمن بمقدوره الحد من تدفقها كطاقة للحياة وكقيمة ومعنى فطرية يجب سلبها ومنعها من الانبثاق.

واستدراك لهذه الجزئية من المقال فان الهيمنة والسلطة والثراءِ والشأنِ المعنويّ المبني على حسابِ فقر وانكار واستعباد الآخرين من خلالِ المجازرِ والإبادةِ والصهر والاحتلال لا قيمة لها ولا تقاس إلا كونها عبودية يُراد بِها استملاك الحرية كسلعة ومادة خاصة بهم دون غيرهم.

المعنى الحقيقيُّ للحرية يَكّمُن  في طابعها الجمعي الغير قابل للتجزئة والتخصيص وهي تتخطى الأنا أو نحن ولكنها كقيمة ومعنى لا تكتمل إلا إذا كانت جامعة وشاملة وهي تكون اكثر اصالة وغنى إذا تناولت المجتمع بصفته أمة يجمعها اطياف ومكوناته وثقافات فريدة متنوعة.

زر الذهاب إلى الأعلى