مقالات

الأسير الحر

يقول الكاتب التركي اسماعيل بيشكجي مستغرباً (عجباً أن تكون هناك كردستان تركيا وكردستان إيران وكردستان العراق وكردستان سوريا ولا تكون هناك كردستان للكرد أنفسهم).

تُعتبر القضية الكردية من أهم  القضايا سخونة وحيوية في المنطقة, وتلقي هذه القضية بظلالها على أغلب القضايا الشائكة في الدول المهيمنة على كردستان، وقد سعت هذه الدول بكافة الوسائل المتاحة لديها إلى طمس حقيقة وهوية الشعب الكردي، والقضية الكردية القديمة المتجددة تمدُّ بجذورها إلى عمق التاريخ وهي مليئة بالمقاومة والنضال.

يُعتبر الشعب الكردي من أكثر الشعوب التي حافظت على سماتها الاثنية وخصائصها كشعب وقومية بالرغم ممَّا تعرَّض له من مجازر وحملات إبادة ممنهجة ومنظمة من قبل القوى الحاكمة لكردستان المجزأة, ولم يَعرِف هذا الشعب الكفَّ عن المقاومة وظل تواقاَ لوطنٍ يجمع اشلاءه المجزأة, وعلى مرِّ تاريخ الشعب الكردي كانت هنالك ثورات وانتفاضات تم القضاء عليها من قبل الفاشية بأبشع الوسائل كانتفاضة ديرسم وآغري  وكذلك حملات الإبادة الأنفال وحلبجة والقافلة تطول … وكانت  ضحاياها الآلاف من الأبرياء من أطفال ونساء.

 وكان يتم استمالة الكرد أحيانا وصهرهم بشتى الطرق والوسائل وتحت شعارات مزيفة، وكانت القيادة الكردية هدفاَ للطغمة الفاشية وتتم تصفيتهم جسدياَ كالقائد الكردي قاضي محمد واسماعيل آغا الشكاكي وصادق شرفكندي وعبدالرحمن قاسمو وغيرهم, في ظل استمرار معاناة الشعب الكردي وتعرضه للإبادة الجسدية والثقافة من تتريك وتعريب وتفريس.

ومن عمق مأساة الشعب الكردي وتجرع الألم والظلم والقهر والفقر والجوع ظهرت حركة التحرر الكردستانية في سبعينيات القرن الماضي على يدِ نُخبةٍ من الشباب امتازوا بروحٍ ثوريةٍ ورغبةٍ في تغيير المجتمع  وإقامة مجتمع خال من الظلم.

يبدو أن التاريخ والحاجة الاجتماعية تفرز نوعاً من القادة وخصوصاً عندما يصل وضع المجتمعات إلى الحضيض, فيظهر قائدٌ يجسد آمال وتطلعات الشعوب المظلومة, ويعود له الفضل في النهوض بأمته، وحجم الدور التاريخي الذي يلعبه لقائد يتناسب طرداً مع حجم معاناة شعبه، وبروز دور القائد عبد الله أوجلان كضرورة اجتماعية وتعاظم دوره تناسب طردا مع تعاظم المعاناة التي كان يكابدها الشعب الكردي. حيث كان للقائد اوجلان قبل تأسيس الحزب دوراً مميزاً بين رفاقه في مرحلة البناء الأيديولوجي لامتلاكه مَلَكَات عقلية و فكرية واسعة الأفق, وتجلت تلك القدرة الفائقة؛ على تحليل واقع المجتمع حيث صاغها بجملة واحدة  “كردستان مستعمرة”. وتعمق في البحث عن حقيقة الشعب الكردي من خلال تقليب صفحات التاريخ وتحليل عميق للشخصية والواقع الكردي المتشرذم, ووضع الأسس والمبادئ الأولية لانطلاقة قويَّة وبداية حركة تحرر شاملة تتجاوز المناطقية والقبلية والحدود.

 وبما أننا نتحدث عن شعب عانى من حالة فريدة من الاحتلال تجاوزت القمع الجسدي للفكري والثقافي, لذا كانت البداية صعبة للغاية بسبب القضبة الأمنية القوية للطغمة الفاشية وحالة عدم الثقة بالذات التي انتشرت بين الشعب الكردي؛ كما كان لاعتقال النخبة القيادية من مؤسسي حركة التحرر الكردستانية كالشهيد مظلوم دوغان ومحمد خير دورموش  وكمال بير الأثر الكبير على الحركة وزيادة عبء القائد أوجلان، وقامت الفاشية التركية بارتكاب أبشع أعمال التعذيب والتنكيل التي يندى لها جبين الإنسانية وجوبهت تلك الأعمال اللاإنسانية بمقاومة شرسة في السجون التركية وبذلك شكلت تلك المقاومة أرضية مقاومة السجون ولهذه المقاومة دورها ومكانتها البارزة في تاريخ حركة التحرر الكردستانية.

وشكل المقاومون الأوائل مثالاً يحتذى به ويبعث روح المقاومة أمام كبر حجم الوحشية والاضطهاد, واستمروا بالمقاومة تحت شعار المقاومة الحياة, وبدأت سلسة مقاومة الإضراب عن الطعام في سجون الفاشية ضد الظروف اللاإنسانية وفقد الكثير من أعضاء الحركة حياتهم تحت التعذيب الوحشي للفاشية أمثال: سعد شميل، عمر أقتاش، أحمد دمير، عائشة كوكيز، وكانت الفاشية التركية تستهدف القادة أعضاء اللجنة المركزية للحركة بهدف وأدها قبل توسعها. بذلك تشكلت قيادة صلبة داخل السجون التركية واستمرت في نضالها ضد الفاشية التركية كأي ساحة نضال أخرى خارج السجون.

هذه الروح القيادية التي تعاظمت وانتشرت وأخذت أشكالاً متعددة كانت بمثابة النجاح للقائد أوجلان الذي استطاع أن يبث الحياة وروح المبادرة والقيادة في الشعب الكردي. وأحد البراهين القاطعة على ذلك بعد اعتقال القائد أوجلان استمرت الحركة ولم تسقط بسقوط قائدها أو أسره, لا بل استمرت وتعاظمت وظلت وفيَّة لقائدها وشعبها وفي المقابل كان الشعب ملتفاً حول قائده وحركته، وذهبت كل توقعات الفاشين الأتراك وآمالهم أدراج الرياح لتتحطم على صخر الصمود والتلاحم الكردي.

لقد قال سليمان ديميريل “إن الحدث الأبرز في تاريخ تركية الحديث منذ العام 1923 هو اعتقال أوجلان”. إذاً كانت تركيا تعقد آمالها للقضاء على الحركة أسوة بباقي الثورات الكردية.

تمر الثورات عبر تاريخها بحالة مدٍّ وجذرٍ, وقد تحقق في مرحلة زمنية قصيرة إنجازات عظيمة, وقد تمر بمرحلة الانكماش والضمور لفترة زمنية, والحركة في هذه المراحل تعرضت لمحاولات التصفية, وإذا لم تكن متماسكة من الداخل كانت هي أيضاً عرضة للتبعثر والانشقاق على ذاتها، وبعد أسر القائد عاشت حركة التحرر الكردستانية أياما عصيبة بل وتعتبر من أقسى المراحل التي واجهتها الحركة في تاريخها, واستقبل الشعب الكردي خبر اعتقال القائد بمظاهرات واحتجاجات عارمة لم يشهدها العالم حيث طالت العديد من دول العالم, وأقدم العديد من الأبطال على إضرام النيران بأجسادهم احتجاجاً على المؤامرة الدولية على القائد أوجلان.

لم تستطع تركيا بأسر القائد القضاء على حركة التحرر الكردستانية  بل على العكس تماماً أصبحت إيمرالي منبراً للفكر الحر, وقدم فيه القائد العشرات من الكتب القيِّمة التي تتناول شتى القضايا الدولية وتحليلٍ عميقٍ للأزمات و الصراعات التي يشهدها العالم، وطرح رؤى للحل وُفقَ فلسفة الأمة الديمقراطية، وبذلك قدم لنا برهاناً جديداً على أن الإنسان يستطيع أن يتغلب على جميع الصِّعاب ويحول المكان الذي يتواجد فيه رغم صغره وظروفه الصعبة إلى واحةٍ للفكر الذي لا يستطيع أي قَيد أو جدار أن يَحدَّ من حريته أو يؤثر فيه.

عشرون عاماً مَضت على اعتقال القائد ولايزال القائد أوجلان مستمراً في العطاء وإيجاد مخارج وحلول لأي معضلة تواجهه, هو يريد لنا أن نكون أحراراً، وواجبٌ علينا أن نكون أوفياء.

زر الذهاب إلى الأعلى