دراسات

إلى أين تتجه الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ اليوم ومستقبلاً؟

سيهانوك ديبو

في الوقت الحالي؛ يحتفل ممثلو الشعوب في روج آفا وشماليّ سوريا بالذكرى السادسة على ثورة 19 تموز 2012. أغرب ثورة مجتمعية شهدتها سوريا وكردستان إنْ لم نقل المنطقة برمتها. الغرابة لا تتعلق بحداثة فكرها؛ إذْ طالما تشبه كل ثورة نفسها فقط. ولا بالنظرية الثورية التي استندت إليها كميراث فكري لحركة حرية كردستان؛ فدائماً حتى تنطبق فعل الثورة لا بد من وجود نظرية ثورية تشبه التراب الذي تنبت منه الثورة وتتطابق مع المستقبل الأنسب الذي يلزم أن يحل عليها. ولا بالشكل التنظيمي الجديد المطروح من قبل هذه الثورة؛ فكل ثورة لا تطرح الصيغة التنظيمية المجتمعية التي تنطلق من ماهية الفجوات والهوات التي أحدثتها نظام الاستبداد الثائر عليه وتقدِّم بديلها لا يمكن وصفها سوى بالاضطراب أو العصيان في أحسن أحواله. ولا بتجاوزها للتحديات التي ظهرت أمامها ولم تزل؛ وإلّا ما المعنى من اندلاعها أساساً؟. إنما: بإظهارها الكبير لقوى الدفع والجذب التي تتحلى بها مجتمعنا؛ فكل مجتمع يصبح وجوب حدوث الثورة فيه أمراً حتمياً حينما تصل قوى الدفع الثائرة (المظلومين) وقوى الجذب المحافظة (الظالمين والمحافظين على تعدد مشاربهم وانتماءاتهم) إلى حالة لا يمكن أن يحدث معها الوئام أو التسلط. ومن جهة غرائبية أخرى بإظهارها العجز الكبير عند فئة الكتّاب الذين رصدوا المكتسبات التي تحققت من باب الأخطاء والنواقص. وبحجم التشويش الكبير الذي ظهر إبّان كل قفزة خطتها مكانيزما الثورة ولم تزل. وبحجم الاتفاق الكبير بين قوى وجهات من المفترض أن لا تلتقي؛ لكنها التقت بكرهها وحقدها واصرارها على تصغير هذه الثورة. بخاصة إذا ما أدركنا أنه في بعد الفراغ تنعدم الجهات أو تتلاقى في مركز الفراغ: الفراغ له مركز هو نقطة إفراغ الجهات بغية إبادة الثقافات المتنوعة وتسييد نمطية التجانس في الإنكار، وحيال الثورة/ ات تتلاقى قوى الفراغ والعدم في تطابق مثير وملفت للنظر؛ لأنها تمتلك الوجهة نفسها والمطلب نفسه المتمثل بإنهاء هذه الثورة. نفهم أكثر هنا: لماذا وقفت الأغلبية المطلقة من حكومات أوربا وسلطاتها الدينية وحتى شعوبها بالعداء للثورة الفرنسية 1789، الثورة التي احتاجت لعشرة أعوام لاحقة كي يستقم أمرها. نميل هنا إلى الرأي القائل بأنه لم يستقم: فلم يكن نابليون إلّا اللويس السابع عشر؛ مع التفريق والتفارق من أن قيم الجمهورية بقيت حتى اللحظة تدور حول فكرة الثورة الروسوية في وجوب وجود (العقد الاجتماعي).

ثورة 19 تموز أنتجت بعد حوالي 18 شهراً شكل إدارة مدنية ديمقراطية ممثلة لإرادة شعوب روج آفا وشمالي سوريا هي صيغة الإدارة الذاتية الديمقراطية. هذه الإدارة نالت حظها الأوفر من الواقعية من خلال عدة عوامل قامت بتحصينها أبرزها تأسيس قوة الأمن المجتمعي بمختلف مسمياتها. ومثلت هذه الإدارة الذاتية إلى درجة كبيرة معادلة الحل للأزمة السورية بطرفيها المتعلق بمحاربة الإرهاب وحماية جميع المكونات أو صيغة التغيير الديمقراطي البديل للنظام المركزي الاستبدادي. ولأن الانطلاقة كانت صحيحة –فيما يتعلق بالمكان والزمان وبقدرة القوة الثائرة أن تصنع لنفسها خطاً متمايزاً (الخط الثالث)- فإن الوجهة التي تخطو نحوها صحيحة. خطت الإدارة الذاتية خطوتها المتميزة هذه في ظل سحب الثقة الدولية (الشرعية من السلطة في دمشق) بأغلبية مطلقة لبلدان العالم؛ منتقلة هذه الثقة إلى الجانب المضاد للسلطة السورية/ النظام السوري أي المعارضة المتمثلة بالائتلاف. ويمكن تسمية هذه النقلة بالاصطفاف الخبيث؛ غير الطبيعي؛ غير الحميد. ولأن الباحث عن السلطة يصدق كل وسيلة تخدمه؛ حتى لو كانت مدمرة؛ منها وسائل الإعلام الصفراء بأن تجعله أن يصدق نفسه بأنه الممثل الشرعي الوحيد لشعب سوريا وذلك من خلال الأضواء المسلطة على هؤلاء الذين صدّقوا السراب ماءً. فإن مثل هذا الباحث يختلف عن الباحث عن الحقيقة ويخالفه بالضرورة في التوجه والفكرة. وأهمها حقيقة أن الأزمة السورية تلزم حلها ديمقراطياً. فلم تكن الإدارة الذاتية بعلاقة مع هؤلاء وفي الوقت نفسه والنظام؛ إنما بعلاقة تامة مع أن تمثل تطلعات شعب سوريا وأن يتحقق التغيير الديمقراطي المتمثل في حل جميع القضايا السورية بأدوات سوريّة؛ على رأس هذه القضايا القضية الكردية في سوريا.

الحديث عن الوجهة الطبيعية للإدارة الذاتية الديمقراطية أفضل بكثير من الرد على بعض المواقع الموبوءة (المحسوبة على النظام والمحسوبة على تلك المعارضة التي ينالها التلاشي في الوقت نفسه) كمصادر للحرب الخاصة على المكتسبات المتحققة بفضل دماء آلاف شهداء وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم قوات سوريا الديمقراطية. وعلى بعض الأصوات الحاقدة من المكتسبات التاريخية التي حدثت على يد الإدارة الذاتية بالرغم من كل النواقص والعيوب ووقائع الفساد، وعلى بعض الأصوات البعيدة –ليس بالمعنى الجغرافي فقط- إنما بالمعنى المُعَبِّر لحقيقة الابتعاد عن كل فعل ثوري؛ المرتبط بدوره؛ والناجم بالأساس عن عدم الثقة بالنفس وعن جرح قديم بأن الكرد ليسو سوى بالأدوات بيد الخارج. هم اليوم أصحاب نموذج ديمقراطي مدني علماني لا علاقة له بالانفصال إنما بالاتحاد والتجميع، ولا علاقة لهم بمن قسّم البلدان وسوريا بشكل خاص إلى طبقات قومية واحدة فوق وأخرى مهمشّة إنما بعلاقة تامة بأن سوريا شعوب تتكامل؛ فسوريا حان وقتها أن تتوسع. والحديث عن وجهة الإدارة الذاتية الديمقراطية أفضل الردود على كل من لا يرى بأن التغيير الديمقراطي السوري يحدث من الداخل ويتقوى من خلال أبعاده الوطنية السورية. فلا تغيير يحدث من الخارج، وإن حدث؛ يجب أن ينتظر ذلك الواهم تلك اللحظة التي يطرد فيها خارجاً. الأمثلة كثيرة هنا ومستفيضة في الشرق الأوسط وسوريا بشكل خاص.

القوى والأحزاب السياسية والقوة العسكرية الوحيدة المتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية؛ هذه القوى مجتمعة تمثل الإدارة الذاتية ومع تلاقيها مع القوى والأحزاب الديمقراطية الوطنية السورية في مناطق سوريّة أخرى تشَكِّل سويّاً الطرف الحقيقي المفاوض للسلطة السورية. فلا عودة؛ وقطعاً على كل احتمالية تفيد بإعادة انتاج مشهد 2011 النظام المركزي الاستبدادي في سوريا. سوريا 2018 وما بعدها لن تكون سوى مدارة عن طريق نظام سياسي لا مركزي ديمقراطي؛ مثال الإدارة الذاتية الديمقراطية. ولكن التفاوض الحقيقي حتى يصير أو اتفاقاً بحجم نتيجة التفاوض الواقعي لا بد من تهيئة للعملية التفاوضية برمتها. في مقدمتها إنجاز العمل الوطني المتمثل بانهاء الاحتلالات التركية للمناطق السورية؛ عفرين واعزاز والباب وجرابلس. وانهاء الوجود الإرهابي الأخير في سوريا المتمثل بسيطرة جبهة النصرة (التركية) على مناطق واسعة من إدلب. بالإمكان أن تكون الإدارة الذاتية الديمقراطية طرفاً أساسياً في هذه التحريرات وأيضاً في الانهاء الأخير للإرهاب وهي الأكثر خبرة في مواجهة الإرهاب وفي توجيه ضربات قاضية للإرهاب كما في مثال تحرير الرقة بدعم من التحالف الدولي العربي. وهي التي تحارب الإرهاب من أجل سوريا ديمقراطية لكل السوريين.

الإدارة الذاتية الديمقراطية تنحو كل خطوة تعزز مكانها الطبيعي كطرف فاعل لحل الأزمة السورية، وتناضل كي تكون نموذجاً متوافقاً عليه متفقاً إليه في عموم سوريا. فسوريا أكبر بكثير من أن تتقوقع في مركز. الأنظمة المركزية لا تجلب سوى الخراب وفي خراب دمشق الأخير المثال الأكبر. وأنقرة اليوم أكثر الأطراف ترجيحاً بأن ينلها ما نالت سوريا. تركيا دولة هشّة وبالأخص منذ اعلانها مركزية رئاسية (سلطانية). السلطانية التي خسرت أمام الإدارة الذاتية الديمقراطية بالرغم من امتلاك هذه السلطانية أوراقاً كثيرة احترقت معظمها أمام نيران الثورة في روج آفا وشمالي وشرقي سوريا؛ بقيت منها بعضاً في التي تتهجم اليوم على الإدارة الذاتية وتروّج لأضاليل وتصوّرات عقلهم الباطن ورغباته المنقوصة. لقد باتت الإدارة الذاتية حقيقة سياسية مجتمعية فحقيقة الحل الديمقراطي؛ وباتت الظروف مناسبة في معظمها لتعلن ثورتها الداخلية على معاقل الفساد والإفساد. فمن بمقدوره أن يجابه الإرهاب وانتصر. ومن بمقدوره طرح البديل الديمقراطي ويفلح. ومن بمقدوره أن أفشل كل مخططات الثورة المضادة بكل تموضعاتها؛ لن يقف عاجزاً أمام هذه الظاهرة المتفشية في كل العالم/ ظاهرة الفساد، واستئصال واقعاتها اليوم في روج آفا وشمال سوريا.

  المجتمع الديمقراطي المتشكل من خلال مفهوم الأمة الديمقراطية بصيغة الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ تعتبر هذه الصيغة وبعد مرور أصعب السنوات منذ تاريخ تشكيل سوريا الحديثة حلاً ناجعاً للكرد كتكوين أساسي في المجتمع السوري، وكحل لكل سوريا بأزمتها ولمستقبلها الواحد الاتحادي، ومن غير أن نكون مبالغين فإن  فاعلية الإدارة الذاتية الديمقراطية تعيد للشرق الأوسط الديمقراطي كله جهته التي افتقدها، وتُبْعُد عنه تبعيته للجهة التي تقابله.

زر الذهاب إلى الأعلى