مقالات

مَنْ يمتلك سوريا وطنا وليس كأداة لتكريس الاحتلال والاستيطان!؟

إن مفهوم الوطن بات كلمة شاذة لا يتم تداولها في سياقها المبدئي والتاريخي كأحد أهم القيم التي تجمع شعوباً أو أدياناً أو أقواماً باستطاعتها العيش كأمة واحدة انطلاقا من غناها الأخلاقي وتنوعها الثقافي لتتحول لأحد أهم أسباب غناها الحضاري ورقيها المجتمعي.

قليل جداً من يشعر بمعنى الوطن كجغرافيا تحتضن الجميع. وإن كان ذلك المعنى دفيناً في كوامن النفوس ككل غريزة من غرائزها؛ فما الضير في أمة استطاعت تنظيم نفسها أو تعمل على تكوين نفسها عن طريق المنظمات والاتحادات الاجتماعية المدنية التي تستند على الادارات الذاتية المحلية بآليات ديمقراطية لتصل إلى مستوى الأمة والمجتمع القادر على تنظيم كل شرائحه ومكوناته الاجتماعية والثقافية وحتى المذهبية والدينية والعرقية والعشائرية عن طريق المنظمات والاتحادات الديمقراطية، ذلك المجتمع الذي وصل إلى مستوى إدارة نفسه بنفسه بشكلٍ مستقل عن الدولة التي طالما كانت أحد أهم الأسباب في تنافر المجتمع واغترابه عن حقيقته الوطنية والتاريخية ليستطيع الدفاع عن نفسه ضد الهيمنة المركزية والسلطات الدكتاتورية بكل الوسائل الديمقراطية السلمية أولاً وبالوسائل غير السلمية إذا اقتضى الأمر ذلك. لتتحول هذه الأمة إلى بوصلة يهتدى أو يستهدفها الجميع سواء أكان هذا الهدي أو الاستهداف: غازياً أو مستغيثاً، لاجئاً أو مستعمراً، مهجراً أو محتلاً. ليجدوا أنفسهم في رحاب أمة تحسن احتضان المستغيث وتجابه الغازي وتستقبل اللاجئ وترفض الاستيطان تكرم المهجرين وتقاوم المحتلين.

إن هذه الثنائيات المتضادة أو الاصطلاحات المتنافرة هي مفاهيم تبرز حينما يتهدد الوطن أو الأمة بتعبير أوسع خطر التفكك والتشرذم والتشظي ولذلك بات من الضرورة إدراك المعنى الكامل والغرض الذي يكمن خلف هذه المفاهيم الاصطلاحية والهدف منها.

الامة الديمقراطية والدولة ومنحنى الأزمة الراهنة

في واقع مؤلم عمّ فيه الفوضى السياسية وتفرّد مطلق في إدارة البلاد عاشت شعوب سوريا عموماً حياتها وهم يعانون من الإنكار والإقصاء ومع بداية الحراك السوري عام 2011رأت هذه الشعوب ومعهم الكرد بأن أسباب الخلاص من (واقع مُزرٍ) قد حان الوقت لإنهائه. لكن سرعان ما فُقد الأمل مع تحول هذا الحراك نحو مسارات هدَّامة باتت هي الأسوأ من المراحل التي سبقت ولادة الأمل المذكور وأصبحت بحاجة لمعجزة لإنقاذ سوريا وطنناً وشعباً ليتحول المآل والسبيل لذلك الى حل حقيقي وجذري يعيد سوريا الى مسارها الحضاري وغناها المجتمعي والثقافي فمشروع الإدارة الذاتية التي أعلنته شعوب شمال وشرق سوريا في عام 2014 جاء بمثابة مشروع إنقاذ وطني حقيقي لكل الشعوب التي حاصرها التطرّف والإرهاب من جهة ومن جهة أخرى سياسات القمع والإنكار الممارسة من قبل الدولة والنظام الحاكم، حيث عملت الإدارة الذاتية على إنهاء الخلافات والصِّدامات التي حاول البعض إثارتها من جديد كما سابق عهدها من خلال ما احتوت من إحياء حقيقي للمبادئ والقيم اللازمة للعيش المشترك والإدارة المشتركة في وطن موحد وتحرير للهوية المصادرة عبر مشروع الأمة الديمقراطية وأخوّة الشعوب الذي تم ترجمته عملياً في الإدارة الذاتية الديمقراطية عبر التعددية والمشاركة وحرية المرأة مقابل ما كان ولا يزال  يحدث من صراع على الحكم والسلطة في مناطق سوريا الأخرى.

الوطن كإطار متكامل لمجابهة التسلط وبسط النفوذ

بعد أن دخلت الإدارة الذاتية كمشروع حل سياسي  رافقته الحملات التشويهية والهجمات العنيفة على هذا المشروع من كل اطراف الصراع السوري التي تسعى الى السلطة وبسط النفوذ، لتتحول هذه الإدارة لهدف مشترك للمتخاصمين والمتناحرين سواء داخلياً أو خارجياً ومن المعلوم أن الصراع على سوريا لم يعد صراعاً داخلياً وإنما هو صراع دولي واقليمي بأدوات داخلية هدفها تحقيق مصالح ومنافع هذ الدول والمحاور بغية بسط نفوذها ونشر أيدولوجياتها كجزء من مخططاتها الرامية الى تقسيم سوريا طائفياً واثنياً وقومياً بتوافق وانسجام تام بين أطراف الصراع سواء الإقليمية كإيران وتركيا أو أقطاب دولية كأمريكا وروسيا وليتم إسقاط صفاتها ونواياها الاحتلالية على الأطراف السورية الأخرى التي رفضت هذه المخططات وقاومتها منذ بداية الازمة السورية  فتارة يصفون مكونات الإدارة الذاتية المتمثلة بشمال وشرق سوريا بأنها تهدد وحدة سوريا وهم في الحقيقة يقومون فعلياً بتقسيم سوريا وتفتيها كاحتلال تركيا لجرابلس والباب و عزاز وعفرين وكري سبي  وسري كانيه وإجراء تغيير ديمغرافي ممنهج فيها تمهيداً لضمها إلى تركيا وكذلك إيران التي استحوذت على مناطق نفوذ واسعة في سوريا عبر تهجير سكان الداخل كالغوطة وداريا والمعضمية وحلب وحمص…. ومؤخراً في ادلب.

ومن المفارقات الأخرى أن هؤلاء الغزاة والمحتلين يصفون مكونات شمال وشرق سوريا بأنها خطر على مستقبل سوريا؟, لكن فعلياً كانت الإدارة الذاتية  تمثل خطراً على مشاريعهم ومخططاتهم فلم يعد خافياً على أحد ومع تداخل مناطق نفوذ هذه الدول والمحاور وخاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب من سوريا وعدوله عن الانسحاب الكامل نوايا أطراف الصراع السوري وأطماعهم  على حساب دم الشعب السوري ووحدة أراضيه ولتتخطى هذه المصالح خارج حدود سوريا عبر عقد الصفقات ونقل الصراع والفوضى الى كافة دول الشرق الأوسط وخاصة العربية منها كليبيا ومصر والعراق واليمن وغيرها من الدول لتتحول الأطراف السورية المتصارعة (المعارضة والنظام ) الى أدوات تابعة الى محاور إقليمية هي الأخرى تابعة لأقطاب الهيمنة العالمية كروسيا وامريكا.

حب الوطن كشعوب مقاومة للاحتلال وذهنيات التقسيم

من نواميس الخليقة  حب الوطن للمحافظة على البقاء والوجود فكلُّ ما يشعر الذات او النفس  بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها فالإنسان منذ طفولته يحب عائلته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم ليصبح هذا البيت وطنه المصغر الذي سينطلق منه إلى وطنه الأكبر فمع تقدمه في العمر واتساع أفق مدركاته  يتسع بقدر ذلك دائرة وطنه فمنذ اللحظة الأولى من دخوله ميدان الحياة واحتكاكه الاجتماعي يبدأ بمعرفة الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلغته وثقافته ووجدانه وأخلاقه كقيم مشتركة تجمعهم جغرافيا وتراب وطن واحد لتتحول هذه الصورة والقيم المثلى إلى حافز للنضال والدفاع والتضحية والفداء في سبيل هذا الوطن وهذه الخاصية هي التي يتفرد بها الشعوب الحرة التي تمتلك الإرادة الوطنية النقية وهي وحدها القادرة على مجابهة ومقاومة المخططات الاحتلالية وصفقات الهيمنات المركزية وتجار الحروب. يقول القائد عبد الله اوجلان (إن تحديدُ المعنى الجوهريِّ للسياسةِ بأنها “فنُّ الحرية”، قد يُعَبِّرُ عن المَرامِ بنحوٍ أفضل. أما الحريةُ بِحَدِّ ذاتها، فتعني الدُنُوَّ من الحقيقة. لا ريب أنه لدى استخدامِ مصطلحاتِ السياسةِ والحريةِ والحقيقة، فإنّ عنصرَ البحثِ الأساسيَّ لدينا هو المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسيُّ.) ومن هنا يمكننا القول إن من يمتلك الحقيقة هو الشعب والمجتمع المقاوم الرافض للتبعية العمياء التي انتجتها أطراف الأزمة والصراع في سوريا سواء أكان النظام المتمثل بسلطة الدولة المنقادة الفاقدة للإرادة السياسية أو ما تسمى بالمعارضة ومجاميعها المتطرفة المرتهنة لإرادات خارجية دخيلة. وكلاهم أي النظام والمعارضة تعمل بانسجام تام على تقسيم سوريا عبر التهجير القسري والتغيير الديمغرافي وبناء المستوطنات لشرعنة وتكريس الاحتلال عبر صفقات قذرة بعيدة عن قيم وأخلاق المجتمع.

 ومن هنا بات السبيل الوحيد لمجابهة هذه المأساة والنزف الوطني هو بتبني قيم ومبادئ الأمة الديمقراطية كأساس ومنطلق حقيقي للتحول والتغيير الديمقراطي لتكون البنية والأرضية التي يمكنها بناء الهيكلية المؤسساتية والتنظيمية لمشروع الحل الحقيقي للإشكالية والمعضلة السورية المستفحلة والمتفاقمة وهذا ما تحققَ عملياَ في شمال وشرق سوريا، وما الهجمات التركية المستمرة على هذه التجربة الفتية وتوافقها الأخير مع رموز النظام هو دليل لما يشكله الإرادة الوطنية لمكونات الإدارة الذاتية من خطر على مخططاتهم الاجرامية بحق الشعوب السورية فتسعى جاهدة للقضاء عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى