مانشيتمقالات

السمات الثورية في سيرة القائد الفيلسوف أوجلان

المهندس محمد عيسى ــ

يمكن لأي متتبع للسيرة النضالية لحياة القائد أوجلان وللتجربة السياسية لحركة حزبه ومدرسته الفكرية أن يميز فيها بين طورين.

الطور الأول، يتمثل بالمرحلة التي بدأت مع انطلاقته في مطلع ثمانينات القرن الماضي وامتدت حتى تاريخ تنفيذ المكيدة الدولية بحقه في 15شباط من العام 1999 والتي نجحت بتحقيق جريمة اعتقاله، وفي هذا الطور نجح أوجلان ونجحت قيمه النضالية، وتبوأ عملية إطلاق وتجذير حركة تحرر الشعب الكردي التي اكتسبت تحت قيادته صدىً واسعاً وعمقاً شعبيا متزايداً وكذلك تأييداً من قبل حركات التحرر الوطني والديمقراطي الاجتماعي وقوى اليسار في المحيط الإقليمي والعالمي.

ولا يخفى على أنه في رأس الدروس الأوجلانية التي فسرت نجاح التجربة النضالية في الوصول إلى عواطف الجماهير، في هذا الطور؛ كان “الاستنتاج” الراسخ الذي رسخته التجربة “والذي يفيد” بأن السياسة ليست فن السيطرة على الجماهير أو فن خداعها كما هو سائد عند الكثيرين؛ بل هي فن العناية بالإنسان والمجتمع، وعامل النجاح فيها هو بالنتيجة يكمن في طريقة زج هذه المجتمعات وتفعيل دورها في صناعة مستقبلها.

ولا يخفى أيضاً أن واحدة من أهم عِبَر هذه المرحلة هي تعلم فن الاستفادة من الأخطاء، وتطور الذائقة النقدية، والمراجعة في كل شيء.

إلى ذلك، يمكن القول: إن السمة الرئيسية لمرحلة العمل السياسي الأوجلاني تلك؛ هي سمة نضالية وسياسية بحتة ركزت على أولوية تثوير المجتمع وجر الجماهير إلى ساحة السياسة، وأظهرت ألمعية خاصة في ذلك؛ انطلاقاً من الترجمة الحية للقاعدة الماركسية التقليدية التي تقول بأهمية نشر فكر الثورة وقيمها في أذهان أوسع الجماهير، ولأنها بانتشارها تتحول إلى قوة مادية وإلى سلاح فعَّال بيد قوى الثورة، وبما يؤكد أن طابع الحركة بمجمله كان متأثراً أو محسوباً على الأيديولوجية الماركسية شأن جميع حركات التحرر الوطني والاجتماعي في ذلك الوقت.

أما الطور الثاني؛ فهو طور الفلسفة وظهور الأبعاد الرسولية… إنها المرحلة التي تواقتت مع حدثين (الأول): انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز مأزق الماركسية والتحدي الذي صار يواجه الدارسين المشغولين بتقديم إجابات حول مسار حركة التاريخ، واللغط الذي خيم حول مقولة نهاية التاريخ.

(والحدث الثاني)؛ حدث الاعتقال والسطو على حرية القائد المتفكر منذ نعومة أظفاره بقضايا الإنسان والوجود وحياة المجتمعات وتطورها، وبواقع المرأة وطرق البحث عن السلام والعدل ولزوم البيئة النظيفة.

وبالجري وفق مسطرة القياس التي تقول: إن الموسيقي هو في الأصل من جُبِلَ على حب الاستماع للموسيقى والشاعر هو من يحب صوت الكلمات، فإن نزعة التساؤل والتفكر والنقد في شخصية أوجلان الطفل بالإضافة إلى اصطفافه إلى جانب الموقف الأخلاقي في جميع محاكماته؛ قد جعلت منه مشروعا لصناعة الفلسفة وحاملاً لأعباء رسولية متعددة، وعبر العناية المبكرة بالمسيرة الإبراهيمية كديانة توحيدية تتقاطع عندها كل الديانات التوحيدية “من الموسوية إلى العيسوية فالمحمدية” تكون الأولويات الأخلاقية في الفلسفة الأوجلانية التي ستبصر النور لاحقاً قد وجدت جذورها الغريزية والمعرفية، وبعد تطور التجربة واتساعها لتشمل  الفلسفة الزرادشتية التي أخذت حيزاً كبيراً من الاهتمام والمتابعة يأتي الدور على أهم مصادر التأثير والمتمثل بتاريخ الفكر الاشتراكي وعلى آليات انتقاله من الطوباوية  إلى العلمية المستندة إلى فلسفة المادية الجدلية.

وبناء على ما تقدم؛ يمكن الجزم بأن العناصر المعرفية المتصلة بمد جذور البنية الإبداعية اللازمة لتكوين الشخصية الرسولية، مضافاً إلى فيض التجربة النضالية والأخلاقية، قد ساهم ببلورة الفلسفة الأوجلانية الساعية إلى تكريس نفسها عبر اتباع منهج المراجعة والنقد للصيغ القائمة، أو من خلال إنتاج تنظيرات جديدة في حقول المعرفة المختلفة، وفي معرض الاستعراض لضروب المراجعة والتنظير الجديد؛ يمكن الإشارة “في مجال العلوم الاقتصادية” إلى الجهد المبذول في نقد التجربة الاشتراكية التي تحولت من مشروع لتحقيق العدالة وبناء مجتمع الكفاية والعدل إلى نموذج رأسمالية الدولة الاحتكارية المناقضة للغاية التي جاءت من أجلها. أما ماهي البدائل، وما مستوى البعد الإبداعي فيه وكم هو تنظير يحمل رسائل إنسانية وتاريخية؛ نلمس كل ذلك وغيره على سبيل المثال وليس الحصر في التنظير حول اقتصاد المجتمع التشاركي كنظام اقتصاد بديل ينهي المآزق الاجتماعية والأخلاقية التي تنجم عن النظم القائمة، وعلى نفس الخُطى مثلاً؛ نجد في إطار العلوم الاجتماعية والسياسية إدانة لمفاهيم الدولة والطبقة والأمة بمعنى الأمة القومية والتي شكلت منظومات ومفاهيم من مفرزات الحداثة الرأسمالية، وليكون البديل والمخرج في نظرية الأمة الديمقراطية المستندة على أخوة الشعوب الحرة.

وعلى نفس المنوال لم تتوقف المساعي الأوجلانية عن بذل جهود المراجعة وتقديم النقد والتحليل وإنتاج البدائل في حقول الحياة المختلفة والتي كان من أهمها أيضاً ما يتصل بواقع المرأة، وبالدروب والمخارج التي من شأنها بناء مجتمعات إنسانية تشاركية، أخلاقية، وحرة.

وكان علم المرأة أو علم الجنولوجيا، كطريق دال على إخراج المجتمعات من اعتلالاتها المتعلقة بسيطرة الذكورية الطبقية الدولتية المتخلفة وغير الأخلاقية، ومن خلال هذا المسار لابد أن تكون نساء الأرض جميعاً في موقع مَن جاءه الغيث، بعد طول انتظار، ولابد أن فيه رسالة لا محدودة في إطارها وعمقها، ودليل عمل رسولي الطابع والسمات.

فلهذه الدواعي وغيرها الكثير؛ يمكن القول إن الأوجلانية نشاط إنساني إبداعي جاء بمثابة نعمة لصالح العقل، تتعدى هذه النعمة في وظيفتها حقل السياسة المألوف، وتتجاوز في نداءاتها ملامسة هموم شعب بعينه أو مجموعة عرقية أو دينية أو مناطقية أو سواها؛ بل هي ترقى إلى أن تصبح مجال اهتمام البشرية الحالمة بخلاصها وتحررها من الظلم والتعسف والتمييز، وتصبح تركتها الإبداعية حتى الآن بمثابة لعنة التاريخ والعقل لخصومها وللطغاة القومجيين الجهلة الذين أمعنوا في دوام اعتقال مبدعها ورمزها.

زر الذهاب إلى الأعلى