مقالات

ما بعد داعش: التحرير الثاني الذي يلزم

فوضى التصاريح يجتاح المشهد السوري الحالي إنْ في جانب كيفية احداث اختراق الأزمة السورية التي تدخل بعد حين عامها الثامن أو بالمتعلق بإنهاء الدولة داعش. الأخيرة أول من تمردت ونسفت الحدود. حدود سايكس بيكو؛ فأقامت لها دولة عبر أجزاء من العراق وسوريا. سوى أن هذا النسف أفاد جميع المتدخلين إلى اللحظة في سوريا.

وأفاد النظام الاستبدادي أكثر إلى درجة تهكّمه بالحراك الثوري السوري المُحِقِّ  على أنه المؤامرة، وجعل سبابة التهديد تتمدد إلى ما شاء وفق قاعدة إما النظام المركزي أو الإرهاب. أما الأولى أي لماذا لا يحدث الاختراق فإنه يرجع إلى أنه من الصعب إرضاء كافة المتدخلين في الأزمة السورية؛ الإقليمي منه والدولي؛ ومن الاستحالة صناعة حل على مقاس الجميع. وهذا بحد ذاته ينبأ إلى ضرورة الانحسار لأكبر قدر من المتدخلين، أمّا بلوغ الانحسار فإنه يتّبع إلى أحجام المشاكل والأزمات الداخلية التي يعاني منها الدول المتدخلة؛ كما في ذلك شأن إيران وتركيا. بالأساس لا يمكن لشركاء الخطوة الأولى أن يكونوا هم الشركاء في الخطوة الثانية. ويشهد المثال السوري على عديد من تحالفات تهشّمت وأخرى ينلها التصدع.

سوى أن الجميع؛ أغلبهم؛ متفق على أن داعش يجب أن ينتهي. على الرغم من أن هكذا وجوب يتخلله رؤى تصل إلى درجة التناقض. فقوات سوريا الديمقراطية الجهة الأكثر تضرراً من داعش؛ قدمت وحدها ما يناهز عشرة آلاف شهيدة وشهيد. وأن خطورة داعش على مكونات شمال سوريا وكامل شرقي الفرات كمناطق مسؤول عن أمنها وسلامها قسد؛ تجعل مهمتها صعبة في ضوء التحوّل القسري الذي يصيب داعش من مرحلة (الدولة) إلى مرحلة الذئاب المنفردة أو الخلايا النائمة. سيّما أن شعوب المنطقة؛ بالأخص في سوريا والعراق؛ تدرك ما يعنيه تماهي التنظيمات الإرهابية مع رمال الصحراء. فليست واقعة البغدادي سوى الثانية من بعد واقعة الزرقاوي، وواقعة الجولاني أمير خلافة النصرة التي تحرص أنقرة ألّا تنتهي.

معضلة كبيرة تظهر اليوم متمثّل بمصير أسرى داعش. أشخاص مسجلين خطر. فتفسير رفض حكوماتهم استقبال هؤلاء؛ من بنغلاديش إلى واشنطن إلى 48 جنسية ينتمي إليها مقاتلي داعش. يؤكد ذلك بأنها غير مستعدة على ترويض هؤلاء الوحوش والعمل في استعادة أنسيتهم، وأنهم غير مستعدين بعد لاستقبالهم بما يلزمهم من تجهيز نفسي واجتماعي؛ بما يلزم بدوره من امكانيات مادية ومالية ضخمة. الملفت للنظر هنا بأن رئيس تركيا أردوغان الوحيد الذي خالف ذلك في استعداده لاستقبال 800 داعشي دفعة واحدة؛ ليس لأنه مروّض الوحوش، بل بسبب الأجندة التي ينتمي إليها. فيحتاجهم على طول الخط. بالأساس يوجد اللحظة حوالي 15000 مقاتل في إدلب وعفرين من جبهة النصرة والتركمنستاني وحرّاس الدين. ومجاميع مسلحة أخرى مرتبطة بهم، والكل مرتبط بالقاعدة، وكلها تحتكم إلى غرفة واحدة بإشراف استخبارات أنقرة.

سوريا بشعوبها أو بتكويناتها المتعددة. شعوب الإقليم أو منطقة الشرقين الأوسط والأدنى. الشعوب في العالم. الأخذ بعين الاعتبار لمثل هذا التدرج غير الكيفي؛ كلها من لحظة إنهاء (الدولة داعش) أمام خطرين كبيرين؛ قنبلتين موقوتتين. قنبلة أسرى داعش اللذين صرّح بهم مسؤولي الإدارة الذاتية الديمقراطية منذ حوالي العام على وجوب تسليمهم إلى محل جنسياتهم/ ن بسبب الامكانيات المحدودة التي تملكها هذه الإدارة في عامها الخامس؛ قياساً بالحروب وبالحصار المفروض عليها وفي الوقت الذي يسبقه كالتزام من هذه الإدارة بمرئيات القانون الدولي المتعلق على ضرورة تضافر الإدارتين المحلية والعالمية في الحد من أخطار الأمن والسلام العالمي. لكن؛ حراك مسؤولي الإدارة في ذلك لم يأتي بالنتيجة المأمولة. أما القنبلة الثانية: هل الدول المتدخلة في سوريا -مستعدة- لحدوث فوضى كبيرة في شرق الفرات؛ حال انسحاب سريع لواشنطن وعموم التحالف من هذه المنطقة؟ وهل هي على جهوزية من أي موقف ارتجالي لا يراعي الإدارة الذاتية المُتأسسة منذ خمس سنين من قبل مكونات شمال سوريا وشرق الفرات؛ ما يعني أن فرص التصادم بين القوى المتدخلة تكون كبيرة لأنها وصلت أساساً إلى حد التداخل؟ وفي ذلك أيضاً نجد بأن أنقرة (القنبلة العثمانية) في سباق محموم لفرض نفسها كقوة وحيدة تكون بديلة لقوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا ضد الإرهاب؛ سوى أن أجندة أنقرة الفاضحة والمخالفة تجعل مطلبها محل رفض الجميع؛ وقبلهم كلهم قوى الإدارة الذاتية السياسية وقواتها العسكرية.

ما هو التحرير الثاني الذي يلزم بعد نهاية داعش الفيزيقي أو إبّان تحوله من الدولة إلى مرحلة الذئاب المنفردة؛ في ظل وجود الشروخ والشقوق التي تساعد وتهيء نموّ محتمل لداعش أو أي اسم جديد لتنظيم ارهابي جديد يسيئ مرة ثانية إلى حقيقة الإسلام؟

1- يبدو أن 48 دولة لن تقرر سريعاً كي تتحمل مسؤولية استعادة (دواعشها). من الأفضل في هذه الحالة أن تقرر سوياً كما قررت سابقاً في محاربة التنظيم الإرهابي، وفي هذه الحالة –قرار صادر من مجلس الأمن- بناء محكمة دولية في مناطق الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرق الفرات. وظيفتها محاكمة هؤلاء، واستشفاف السؤال الأهم: لماذا يصبح أوربيٌّ ما داعشياً؟ على سبيل المثال. معرفة الأسباب والدوافع هنا يستدل من خلالها إلى الحلول المواتية. أما الأحكام التي تصدر بحقهم فيجب أن تكون مراعٍ فيها قوانين الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ وبشكل خاص، البند المتعلق بحق الحياة كحق مقدس وبالتالي يمنع عقوبة الإعدام في مناطق الإدارة الذاتية.

2- أنْ يطرأ تحول على مهمة التحالف الدولي؛ بعد توسيعه؛ من بعد تحقيقه نجاحاً ملحوظاً في انهاء داعش الفيزيقي إلى مرحلة تجفيف مصادر دعم داعش بمختلف أشكاله: المادي والمالي والفكري والمعنوي. وهذا بحد ذاته يلزم من خطوة موازية مكمّلة له في أن يتم ترسيخ مهمة قوات سوريا الديمقراطية كقوة دفاعية وكقوة تحقيق الأمن والاستقرار والسلام لجميع مكونات المنطقة؛ وأن تكون وفق ذلك كقوة حماية الحدود جنباً إلى جنب التحالف الدولي العربي. علماً بأن هذه القوات- قسد منْ أعلنت عدة مرات آخرها في اجتماع لجميع مكوناتها العسكرية بأنها جزء من جيش سوريا ما بعد الأزمة أو حين حدوث الاتفاق ما بين السلطة في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية برعاية ودعم من موسكو وواشنطن والأمم المتحدة.

3- داعش موجود في إدلب وفي عفرين أيضاً، وبمناطق أخرى. باسمه الصريح. أو بأسماء تحمل الأجندة نفسها. التوسيع الذي يطرأ على التحالف الدولي ينسجم مع حجم التدويل الذي مني به الملف السوري، ومع القرارات الدولية التي صدرت لحل هذه الأزمة أهمها القرار الأممي 2254. وبأن من عند انهاء كامل التنظيمات الإرهابية يمكن فقط وتتسهل المهمة بأبعادها المحلي السوري والإقليمي والدولي لحل الأزمة السورية. غير ذلك لا يمكن الوصول إلى الحل المستدام. أو المتجزئ من الحلول والاهتراء الذي يصيبه. كما الحال في 9 جنيفات و11 استانات. والانسداد الحاصل فيما تسمى باللجنة الدستورية. إذْ ما يلزمنا كسوريين نتيجة الوصول من خلالها إلى منظر انحسار كل التدخلات في سوريا.

4- ديمقراطية المناهج التعليمية ضمان منع أي ظهور لأي تنظيمات متطرفة أو ارهابية. إن كانت قومية أو دينية أو طائفية. في هذا فإن مناهج الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ على الرغم من اتهامها من قبل بعض الجهات بأنها أيديولوجية؛ سوى أنها أخلاقية. ومناولتها للجانب الديني يؤكد ذلك. من حيث أن طلاب المرحلة الابتدائية يتم تدريسهم أصول الأخلاق والحضارة؛ بما يتماشى وأعمارهم. ولا يتم تدريس كل دين على حدا إنما في المرحلة الاعدادية سيتم تدريس مادة (معتقدات الشعوب) التي تؤكد جوهر الأديان السماوية والدين الزرادشتي الذي سبق الأديان وكتب لها الاستمرار حتى اليوم. وهنا من المؤكد بأن كل طالب مسلم –مثالاً- ظل وحده يدرس مادة الديانة الاسلامية حينما يخرج الطالب المسيحي واليزيدي؛ إنما يؤدي إلى استفهامات ليس بوسع المعلم امتلاك سوى إجابات لن يدركها الطالب في حال لو كان المعلم بحد ذاته مدركاً لها. فإن ديمقراطية المناهج لا يمكن عزلها عن ديمقراطية الدستور. دستور سوريا الذي سيأتي لن يرتكز على أي دين كي يكون بالمصدر الرئيسي له. فالبشرية تسبق الأديان، وسبقت آلاف السنين فكرة القومية والدولة القومية. والأديان كلها أتت ما بعد وجود الأمم. ومثل هذا يمكن أن يمثل كنه التصالح مع الأديان كمعتقدات للشعوب فلا تحمل هدف امحاء ثقافات الآخرين المختلفين. وربما يصنّف ذلك ضمن دائرة الاجتهاد بدلاً من الجهاد. وضمن تعزيز القيم الديمقراطية الموجودة حتى في الأديان وبالتالي القطع على ظهور جديد مستجد لواقعة غلوّ ديني كما في واقعة داعش التي تلفظ أنفاسها الأخيرة في بلدة الباغوز.

5- لا توجد بنى فوقية وبنية تحتية في ظاهرة المجتمعات البشرية؛ أحد أخطاء ماركس وربما أحد مقاربات الأنظمة التي استندت إلى الفكر الماركسي في حكم شعوبها، سوى أن كلاهما معاً يتحمل وزر هذه النظرة على الأقل في مجتمعات الشرق الأوسط. فكل البنى في المجتمعات هي تحتية حينما يتم إدراك الوجود الدّال إليها بما يتحمل من دلالاتِ التنوع. وعليه فإن إعادة انتاج الظاهرة الاقتصادية السورية والظاهرة السياسية وظاهرة المجتمع الأخلاقي السياسي بريادة المرأة المدركة لمهامها التغييرية التنويرية يؤكد بأننا أمام عصر جديد لا تستوي فيه التنميطات. لأنها أفخخ الأزمات وأصل ظهور الوقائع المدمِّرة. فالحال الشرقي والمشرقي بشكل خاص يستقيم مع عصر الأمم الديمقراطية.

خلاصة:

 لأن الدولة داعش لم تُخلق من الفراغ، بل وجدت لنفسها حاضنة اجتماعية و سياسية تأخذ بها ويؤخذ منها وقد ظهرت هذه الحاضنة في تموجدات كثيرة أهمها فعل الحشد البشري في مصفوفات تطرف الفكر الديني  وشقيِّن من تحولاته الكمية الكبيرة وفي الكيفية الناتئة والمسلوبة سلبية إلى وجود جغرافي أكثر وضوحاً. ما يعني بأن معركة القضاء على داعش أو أي اسم آخر يحمل الجينات الفكراجتماعية نفسها؛ يلزمه الوقت والقوة والمجهود المتألف من عديد المجهودات ومن جهات مختلفة. أما تجربة وحدات حماية الشعب والمرأة وعموم قسد فإنها حملت سبع سنين مريرة؛ لكن العبرة في تعبير الفكر الذي أدى إلى ظهور قسد وقبلها في انتاج ظاهرة الإدارة الذاتية الديمقراطية كظاهرة تتوسع على مختلف القوميات والأديان وعموم الثقافات المتعايشة؛ وبالتالي القطع على الذي عجز عنه زمر تحدثت باسم واحدة من الثقافات وأرادت دفن غيرها. كلها فشلت وكلها تفشل. فلا بديل عن العيش المشترك المحصّن بالعقد الاجتماعي. والعقد الاجتماعي السوري أكثر ما تكوّن سوريا التي تتوسع على جميع مكوناتها. من دون استعلاء ومن دون تهميش ومن دون تقسيم. يمكن القول بأن معركة الديمقراطية هي التي تلزم هذه اللحظات أكثر من أي وقت مضى في مرحلة ما بعد داعش.

زر الذهاب إلى الأعلى