مقالات

في الآستانا9: تشريع جرائم. والبحث عن المزيد من الاحتلالات

في عامين إلّا عشرة أيام؛ انعقدت تسع آستانات سوريّة. لا يمكن القول بأن لحظة سلام سوريّة واحدة تحققت؛ وتتبع لهذه الآستانات. إذا ما كانت ذاكرة العالم السياسية قد تعوّدت على انعقاد أغلب المؤتمرات وحيك الصيغ ونسج الاتفاقيات العالمية والمناطقية على أرض سويسرا؛ فإنه من العصي الوصول إلى نقطة فهم أو مغزى من انعقاد لمؤتمر يخص (حل) أزمة ما ومستعصية كما الأزمة السورية انعقدت في الآستانا. بعض الأمور يجب أن لا تحدث؛ وإن تحدث تصبح هي المشكلة الأساسية. منذ انعقاد الآستانا1 بتاريخ 27 مايو أيار 2015 وحتى التاسعة التي انتهت؛ إنما كانت بمثابة تشريع ثلاثية سوداء من فعل (ضامني) الآستانا: الموت السوري؛ التغيير الديموغرافي لمن فَلُتَ من الموت؛ التقسيم في سوريا واقتطاع مناطقها جزءً تلو الجزء. لكن تركيا هي جانب المعضلة السورية الأكبر؛ ومن أراضيها تم تصدير أكبر عدد للجماعات الإرهابية إلى سوريا من بعد لملمةٍ تركيّةٍ موّفقة لكل إرهابي ومن جميع أصقاع العالم؛ على مرأى كل العالم، لكن روسيا تتضح اليوم أكثر من أي يوم آخر بأنها منفتحة على كل جهة في العالم حتى على أكثرها ظلامية كما حال أنقرة اليوم؛ طالما تدر إليها الربح. وحين حدوث الربح الأعظمي؛ لا يهم موسكو مثل أية عاصمة أخرى؛ مستوى الدمار المتحصل في محلّات أخرى في هذا العالم المُثقل بالمآسي؛ كما حال الشرق الأوسط والمأساة السورية أحد أكبر هذه المآسي؛ في زمن المعاصي الدولتية ونظم الهيمنة العالمية. لكن إيران باتت اليوم مصدر القلق بالنسبة للمنطقة والعالم طالما في مخيلتها هلال (شيعي)؛ هو في الحقيقة هلال فارسي؛ مثله في ذلك هلال تركيا السني الذي هو التهام المنطقة طمعاً في حدوث استطالة عثمانية جديدة. تابلو حال (الضامنين) في آستانا.

ربما تكون الآستانا9 لها العلاقة بكل شيء سوى سوريا. أمّا حاضروها؛ إنْ في وفد النظام أو في وفد ما تسمى بالمعارضة السورية ذات الصناعة الاستخباراتية التركية؛ فهم شهود زور في زمن المحنة السورية. حينما يخرج من الآستانا السورية الجديد بند من بيانها الختامي ويشير إلى أفضل القرارات الدولية ذات الصلة بحل الأزمة السورية 2254 وتأخذ نصيب الاسترشاد من بيانها؛ فيعني ما يعنيه بأنه محاولة حثيثة لطمر جنيف في مستنقع الآستانا. ونحر القرارات الدولية التي خرجت منه؛ القرار تلو القرار. آستانا سوريا يعني نسف جنيف سوريا وبإشراف موسكو. لكنها في الحقيقة نسف سوريا بأكملها ومن الوريد إلى الوريد؛ إنْ استطاعوا . ومحو كل منطقة آمنة في سوريا. وتبقى عفرين من بعد أن كانت أكثر المناطق آمنة ومستقرة في سوريا وتعرّض لها ضامني آستانا ووجهوا لها سكين الدمار؛ وبإشراف هؤلاء يحدث أكبر جريمة في التاريخ المعاصر: من بعد احتلال تركيا لعفرين يتم اليوم اقتلاع سكانها الأصليون وتوطين غيرهم؛ بماركة الآستانا9. وعلى مرأى العالم أكمله مرة أخرى. رعاة آستانا مسؤولين بشكل أساسي عمّا حدث لعفرين. رعاة آستانا لم يحاربوا داعش؛ إنما يفاوضونه؛ آخر الأمثلة اليوم تحدث في مناطق من جنوب دمشق. رعاة آستانا لا نية لديهم في إنهاء جبهة النصرة؛ على العكس تماماً هم منحوا جبهة النصرة وداعش أيضاً أكبر الفرص كي لا تنتهي. بالأساس من المستحيل أن تنتهي جبهة النصرة التي باتت مجمّعة اليوم بإتقان شديد وموزعة بشكل محبوك في البيئة المدنية من إدلب. لهم مسميات عديدة. لكن بصبغة النصرة وجماعات على علاقة وطيدة معهم. لن تنتهي النصرة وداعش من الصعوبة أن ينتهيان في الزمن المأمول طالما رعاة آستانا الثلاثة ورائهم وخلفهم وبجانبهم؛ تحت مهزلة مصطلح غربي الفرات.

لا حل قريب للأزمة السورية. لا سوريا تكون وإنما تختفي إذا ما استمر هؤلاء الضامنين فيما يقومون به وتنفيذ مخططات التوسعة التركية والاستطالة الإيرانية والتموقع الروسي في سوريا إلى ما حين. ومن الضرورة هنا لسرد الحلقات الأولى في مسلسل التدخل الإقليمي والخارجي إلى سوريا. أولى الحلقات بدأت تركيّة ولمدة طويلة. أعقبها تدخل إيراني ومن ثم روسي. أي أن عزل سوريا من تركيا أولى الخطوات المحورية التي يلحقها انفراجات كبيرة ومن الممكن الحديث وقتها عن الحل السوري. وإن خطوة العزل التركية وخروجها من جميع المناطق التي احتلتها؛ يلحقه عزل سوريا من إيران. فالتدخل التركي هو الجاذب لأي تدخل إيراني. الجذب والنبذ التركي الإيراني- العثماني الصفوي قديم يَقْرَب ستة قرون ماضية على الأقل. لكنْ يبقى سقوط أردوغان من هذا الصيف في لعبة الانتخابات البرلمانية الرئاسية التركية أقصر الطرق وأعظمها في القطع على شلالات الدم الموجهة على المنطقة برمتها؛ وربما؛ ونقول ربما؛ تصبح احتمالية المواجهة المباشرة بين اللاعبين (المقامرين) الكبار الدوليين على سوريا في أدنى مستوى. إلّا أن صوت طبول الحرب لها الأثمان أيضاً، ومن يقرعها باتوا في مسافة متقدمة. وأن هذه المنطقة لا يصلح معها إصلاح أو ترقيع؛ إنما فقط التغيير والتحول والانعطاف.

إذا كان الطغاة يروون في خارج بلدانهم فرصة القفز أو الهروب من أزماتهم الداخلية؛ كما حال أردوغان بالضبط، فإن الشعوب وحدها التي تستطيع انهاء أزماتها وإنهاء طغاتها؛ كما الذي ينتظر أردوغان بالضبط؛ مرة أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى