ثقافة

عفرين؛ الحضارة والتاريخ الذي لا ينطفئ (2)

في العدد السابق سلطنا الضوء على قلعة (نبي هوري) ذاك الموقع الأثري الهام التابع لمدينة عفرين والتي تضم العديد من المواقع الأثرية؛ وسنتوسع في الحديث عن موقع أثري آخر في عفرين، ألا وهو مدينة (عين دارا) الأثرية:

عين دارة مدينة أثرية تقع غربي قرية (عين دارا) الحالية بمسافة /1/ كم، وعلى مسافة /5/ كم جنوب مدينة عفرين، وتشرف على هضابها الخضراء، وتحيط بها سهول خصبة من ثلاث جهات، ويحدها نهر عفرين من الغرب على بُعد بضع مئات من الأمتار، كما يخترق الموقع جدول ماء نبع عين دارا، الذي يأخذ مجراه من بحيرتها الصغيرة، ليصب في نهر عفرين غربي التل.

تتكون المدينة حالياَ من آثار ومعبد أكثر من رائع يضم تماثيل مختلفة تمثل حيوانات مجنحة وتماثيل لـ (أبو الهول) ونقوش وآثار كثيرة وقد عُثر في الموقع على لوحة بازلتية تمثل الإلهة عشتار.

يتألف هذا الموقع الأثري الهام من قسمين: جنوبي صغير وقديم، وشمالي كبير؛ بالنسبة للقسم الجنوبي فهو مرتفع صغير من الأرض، تبلغ مساحته نحو “دونم واحد”، يقول الأثريون عنه: بأنه عبارة عن قرية زراعية من العصر الحجري الحديث، سَكَنَها الإنسان منذ حوالي عشرة آلاف عام، إلا أنه لم تجرِ فيه أعمال تنقيب واسعة، سوى عملية سبر بسيطة أظهرت بعض الأدوات الصوَّانية، وأحجار بناء تعود للعصر الحجري الحديث.

بينما القسم الشمالي يتألف من جزأين؛ شمالي وهو أرض منبسطة بمساحة /4600/ متراً مربعاَ ويطلق عليه المدينة التحتانية، وجنوبي وهو في تل عين دارا المعروف وتبلغ مساحة سطحه/7500/ متراَ مربعاَ، ويسميه الأثريون بالمدينة الفوقانية؛ وأبرز ما يميز هذا الجزء عن غيره، هو معبده الأثري المشهور في الجهة الشمالية، أما عن تاريخ استقرار الإنسان في القسم الشمالي من تل عين دارا بجزأيه الشمالي والجنوبي، فإنه يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد.

أما عن طبقات التل المعروفة والمكتشفة في المدينة الفوقانية ست طبقات:

الطبقة الأولى: وهي الأعلى وقد خربت بفعل زراعة سطح التل، ونقل حجارة مبانيها إلى القُرى المجاورة فتعذر التعرف عليها مفصلة، إنما اكتشفت بعض الأواني الفخارية التي ساعدت على تأريخ الطبقة بعد عام  1072م.

الطبقة الثانية: تلي الأولى مباشرة؛ يحيط بالمدينة سور دفاعي منيع، تلتصق داخل السور البيوت والمنشآت العامة وتفصل بينها أزقة ضيقة، وعُثر على نقود ذهبية لقياصرة بيزنطة، ساعدت هذه النقود واللقى الأخرى في تأريخ هذه الطبقة من 969-1072م، إبان حكم الأسرة المقدونية.

الطبقة الثالثة: وتؤرخ في الحقبة من 969-640 م.

الطبقة الرابعة: أُرِّخَت في 64-330 ق.م، لم يكتشف فيها إلا على بقايا معمارية غير متجانسة ومبعثرة، ويختلف أسلوب البناء فيها عن أسلوب بناء الطبقات الأحدث والأعلى، حيث أن هذه الطبقة بسماكة متر واحد بينها وبين الطبقة الثالثة؛ مما يدل على هجر الموقع طيلة العصر الروماني.

الطبقة الخامسة: تؤرخ هذه الطبقة في330-530  ق.م، عثر على بقاياها، من جدران وأرضيات طينية وأعمدة خشبية فوق أطلال المعبد.

الطبقة السادسة: وقد عثر على بقاياها حول المعبد، وهي بقايا معمارية هزيلة تعرضت للدمار وأهم ما فيها كسر فخارية يونانية ذات زخارف هندسية وختم أسطواني من الطراز الآشوري، وكلها تساعد على تأريخ هذه الطبقة من  530-740قبل الميلاد.

معبد عين دارا أهم أثر في التل؛ وأهم آبدة معمارية من عصرها، يتألف مخططها من حفرة أساس، دُكت وأقيمت فوقها مصطبة 38-32))متر، وهي أبعاد المعبد الذي يتجه نحو الجنوب الشرقي، تتقدمه باحة مبلطة بالحجارة الكلسية والبازلتية المنحوتة، وفيها بئر مع حوض للوضوء، وبين الباحة ومدخل المعبد درج عظيم، زُينت درجاته بالضفائر، المدخل عميق؛ وعلى جانبيه شرفتان ويلي المدخل قاعة أمامية مستطيلة زُينت جدرانها من الداخل بالمنحوتات المزينة بالضفائر وصور رب الجبل؛ تؤدي هذه القاعة إلى المصلى بواسطة مدخل عميق فيه عتبة.

أما المصلى فمربع الشكل تقريباَ، جعلت في صدره منصة مكسوة بأشكال مزدوجة لأسود وأبي الهول وزُينت واجهتها بأشكال رب الجبل؛ ويمثل معبد عين دارا الحلقة الأهم في سلسلة معابد بلاد الشام والجزيرة.

وتختلف الآراء حول بناء هذا المعبد، حيث تربطه بعض المصادر بالفترة الآرامية وآخرون يرجحون بدايات حيثية وهورية للمعبد وأن المعبد مقام على طراز هيلاني، وهو نمط بناء هوري- ميتاني، وقد ساد هذا الشكل من البناء بين الفترة/700-1200/  ق.م، وقد برهنت حفريات عين دارا على الصلة الحضارية الوثيقة التي ربطت مناطق شمال سوريا بالحضارة الحيثية.

وتحدثت إحدى المراجع عن العصور والفترات التي مرت على هذا المعبد الأثري منذ تاريخ بنائه، والذي بدا بالعصر الآرامي المتأخر، ومرّ بالعصر الأخميني (البارسي)، العصر اليوناني- السلوقي، الفترة الرومانية البيزنطية، العصر الأموي- العباسي، والعصر المملوكي.

وتقول بعض المعلومات أنه في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد أحيطت هذه المدينة بأسوار دفاعية وبأبراج، وكان للمدينة أربعة أبواب في جهاتها الأربعة ولا يزال بقايا أسوارها موجوداَ في الناحية الغربية من المدينة، إلا أنه لم يجر تنقيب في هذا الجزء إلا في مكان الباب الشمالي، وبعض أماكن السور الغربي.

تم التنقيب في موقع عين دارا، لأول مرة في عام 1954 وتوالت الاكتشافات خلال عدة مواسم عمل، فاكتشف هذا المعبد الهام في أواخر الستينات؛ وقد عثر المنقبون في المعبد على كسرات لكتابات هيروغليفية حيثية من الألف الأول قبل الميلاد؛ كما عثر في حفريات المعبد على لوحة للإلهة عشتار بالحجم الطبيعي؛ فتماثيل الأسود المنحوتة من البازلت والموجودة في مدخل المعبد وعلى البوابة وفي كل محيط المعبد تقريباَ، لا يدع مجالاَ للشك بأنها على نمط بناء الشعوب الجبلية في هذه البقعة من شمال سوريا.

وفي ظل الهجوم التركي على مدينة عفرين قام الجيش التركي بقصف هذا المعبد الأثري الهام ذي البناء المميز، والذي يعود عمره إلى (10) آلاف عام، حيث يشكل ثروة وطنية فريدة من نوعها؛ نتيجة هذا القصف لحقت بالمعبد أضرار كبيرة، وقدّر خبير في الآثار بأن الموقع تضرر بنسبة تتراوح بين 40 و50  في المئة بعد الكشف الأولي عليه، ويمتد الضرر من مدخل المعبد إلى أجزائه الداخلية، وحُطمت هياكل المعبد والتماثيل المنحوتة الممثلة للحيوانات الأسطورية ومنحوتات أخرى، وحسب مسؤولة في الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)؛ بأن أضراراَ جسيمة لحقت بالأقسام الوسطى وتلك الواقعة في جنوب شرق المبنى، فحتى المواقع الأثرية والتاريخية لم تسلم من القصف التركي الهمجي على مدينة عفرين الخضراء؛ فالدولة الطورانية تحاول تدمير تاريخ الإنسانية عبر تدمير المواقع الأثرية التي يعود عمرها إلى آلاف السنين، وعلى الرغم من ذلك، ومهما حاولت إخماد الحضارة والتاريخ الكردي لن تصل تركيا إلى هدفها ومبتغاها، وستبقى حُطام تلك المواقع التاريخية شامخة في وجه إرهابهم.

إعداد: دلناز دلي 

زر الذهاب إلى الأعلى