سوسيولوجيا الحرية (2)
الحلقة الثانية من سوسيولوجيا الحرية
يوسف خالدي
قوة العقل المجتمعي
إن الإقتصار على التحليل الطبقي والوصفات الإقتصادية الجاهزة ، أو تناول المواضيع من زاوية التراكم الحاصل في مجال السلطة والدولة ، لن تكون كافية لحل القضايا المتعلقة بالمجتمعات ، وهي اليوم تواجه الحروب ، والدمار الإيكولوحي والإجتماعي ، دون تهيئة الأرضية التي تمكننا من إستيعاب العلاقة بين رقي مستوى الذكاء البشري ، وبين السياق المجتمعي الخاص به . وإلى تعاط خاص مع المسألة والبحث عن الحلول الجذرية لها .
لقد أثبتت الحياة وتجارب الشعوب ، على أهمية وريادة العقل ودوره في تطور الإنسان ، وهذه المقولة لا إعتراض عليها ، ولكن أوجلان يريد لفت الأنظار إلى تلك الخاصية للعقل من حيث إرتباطه بالمجتمع ، مع إستحالة تصور تطور للعقل ، خارج سياق المجتمع .
الأمر المهم هو ليس إقرارنا بدور العقل الريادي ، وهو أمر حاصل ، وإنما الإجابة على سؤال ، متى وكيف إعترفت المجتمعات للعقل بدوره هذا ، وبأي ثمن ، وتحت أي شروط تم الإعتراف بهذه الشرعية . حتى صار رمزيا ، حيث من خلال هذه الرمزية ، والدور الريادي تم ولا يزال ، ترسيخ سيادة رأس المال العالمي ، في حين يصعب تصور موافقة أي من المجتمعات الأخلاقية على إعطاء ، هذا العقل الرمزي الذي بإسمه يتم نحر المجتمع ويترسخ الإستغلال ، كيف يمكن إعادة بناء ما دمره هذا العقل الرمزي وترميم ما إنهار . هي قضايا مصيرية وتنظر الجواب ؟.
ما قدمه إيمانوئيل والرشتاين ، من رؤى وأفكار قيمة ، حول كيفية وأسباب ظهور النظام الذي يسميه ( النظام الرأسمالي العالمي ) . تحتل مكانة بالغة الأهمية لدى أوجلان ، وكذلك المساعي التي بذلها فرناند بروديل بصدد تحليل النظام الرأسمالي العالمي ، مع الأخذ بعين الإعتبار ، مساهمات سمير أمين في هذا المجال ، حين أعاد مبدأ ظهور الرأسمالية ، إلى ضعف تقاليد الدولة في أوروبا ، وإلى تفكك الكنيسة ، وتدمير المغول للحضارة الإسلامية ، وإلى دفع الرأسمالية ، لتكون نظاما سائدا .
الرأسمالية التي كان قد تم حبسها في قفص محكم ، سنحت لها الفرصة بتوافر هذه العوامل ، كي تتقدم إلى الساحة وتبدأ بالسيطرة على أوروبا الغربية ثم على كاملها وبعدها أمريكا ، ثم العالم أجمع ، وبنجاح مطرد لا يزال حتى يومنا هذا ، بحيث أن السيد وهو المجتمع هنا أدخل القفص ، وتحول الأسد المحبوس (اللوياثان الهوبزي ) . إلى سيد للعالم وللنظام الذي كان قد بدأ ينطع برأسه ، أو كان يتنبأ بتشكله . حتى نرى اليوم هذه اللوحة الكارثية الماثلة أمام المجتمع .
التمييز بين العقل العاطفي والعقل الرمزي :
يرى أوجلان ، بأن المكانة التي بلغها العقل البشري . في ظل نظام المدنية المركزية هي سامية ورفيعة ، كما هو حال البنى المعرفية ذاتها ، لكن تبقى مسألة بلوغ العقل البشري هذا المستوى من الكفاءة والمقدرة ، على الوصول إلى عقل رمزي ، قادر على التفكير المجرد ، تطور مذهل ، لا يقل أهمية عن عامل المدنية ، كون هذا العقل هو المفتاح الذي قاد إلى المدنية ،
فإن تم إستخدامه على نحو إيجابي ، فستكون النتائج على البشرية جداً إيجابية وباعثة على التفاؤل ، بإمكانية تجاوز الأزمات ، أما إن إستخدمه بإتجاهات خاطئة وسلبية ، فالنتائج ستكون سوداوية أكثر من واقع حال الأزمات حاليا .
المبادىء التي يعمل العقل بموجبها ، أي العقل الطبيعي ( وليس العقل الرمزي ، أو التحليلي ). حيث أن الفرق بين الإثنين يكمن في مزية العقل الطبيعي ( الذكاء العاطفي ) . الذي نسبة الخطأ لديه تكاد تساوي الصفر ، قياسا بالعقل التحليلي الرمزي ، فالإنسان والنبات والحيوان يشتركون في ميزة العقل الطبيعي أو الذكاء العاطفي ، ويذهب أوجلان في رؤاه إلى أبعد من المجالات الثلاث المذكور ، إلى ضرورة شمول التعميم الجماد أيضاً . فالنبات ومن خلال الفعل ورد الفعل ، يسعى إلى التكاثر والتعدد وفق أنماط إكتسبها من تكدس للخبرات لديه ، ومن خلال خاصة التعلم في مجالات الدفاع والتناسل والتغذي ، أمر يماثله في الكون ، ولنأخذ الجاذبية مثالاً ، لكوكب لأرض ، فكل ذرة تكتسب وجودها وقوتها وفق عملية الدفع الداخلية ، وتلك الأخرى الجاذبة من الخارج في عملية ديالكتيكية مستمرة ، حيث إمكانية الهروب من التأثير للإنفلات محدودة للغاية ، إلا في مستوى سرعة الضوء.
ستبدو تلك الفلسفات التي ترى أن الكون متحرر من القيود والمبادىء ، مفتقرة إلى قوة الإقناع , ويرى أوجلان بأنه يميل إلى تبني فكرة تقول : بأن هذا الكون يتحرك وفق ذكاء خارق يعمل وفق العقل الطبيعي ، أو الذكاء العاطفي الذي يحرك الإنسان والنبات والحيوان .
فإن كنا نقر بذكاء الإنسان التحليلي ، على أنه تفوق له في هذا المضمار ، فكيف سنقبل بالتناقض مع هذا المبدأ المقر به ، مع إفتراضنا بوجود ذكاء عقلي للكون .
ولكي يتوضح الأمر أكثر يستعين أوجلان بنظرية الفوضى ، حيث يتم البحث بموجبها عن النظام داخل الفوضى والعشوائية العمياء ، فالنظام لايمكن التعرف عليه إلا من خلال الفوضى المتلازمة ، لكن هناك مشكلة مرافقة ، تتعلق ببعدي الزمان والمكان هنا ، في مجال البشر ، فالمدة الزمنية ونوعية المكان ، تحددان مدى تحمل الإنسان لمراحل الفوضى العمياء .
إن طول فترة الفوضى زمنياً ، مع إستمرارية الدمار للبيئة (المكان ). قد ينتهي بالمجتمع إلى الفناء ، والتاريخ يقدم لنا أمثلة كثيرة ، كان للفوضى تأثير رئيسي في إندثار مجتمعات بأكملها .
فبعودتنا إلى عمر البشرية والمقدر بمئات الألوف من السنين ، نجد بأن 98 بالمائة من حياة الإنسان منذ البدايات وحتى نشوء المدنية ، عاشت مراحل الفوضى ، إستمرت خلالها حياتهم ، أما المدة الزمنية التي عاشها الإنسان في ظل المدنية ، فهي لا تتجاوز الـ 2 بالمائة من تاريخ وجود الإنسان كنوع .
هناك فرق بين فترة الفوضى السابقة للمدنية في المرحلة النيولوتية ، وبين فترة الفوضى فيما بعدها ، حيث المخاطر التي تواجه البشرية تشكل تهديداً للأنواع الحية قاطبة ، فالبطالة المستفحلة ، والإندفاع صوب القوموية ، والتحولات الجنسانية والتضخم السكاني المطرد دون حدود ، يضع مرحلة الفوضى ما قبل النظام المدني ، بمستوى الرفاه مقايسة بسابقه .
عبر الإنسان مرحلته الحيوانية من خلال إكتشافه للغة الإشارة الجسدية ، إلى اللغة الرمزية ، بالتخلي عن إشارات الجسد لصالح أصوات كانت ترافقه ، في كل مرة أراد الإنسان فيها التعبير عن رغباته وإحتياجاته ، فما أراد الإنسان التعبير عنه بالجسد ، تحول فيما بعد إلى صور مخزنة في ذاكرة العقل على صيغة مفاهيم متعارف عليها بين مجموعات بعينها ، فمفهوم العين ، الذي ترسخ في العقل سيكون معروفا من العقل حال التلفظ بكلمة العين ، دون حاجة إلى مثول للعين أمام المخاطب أو إشارة باليد إليها ، بحيث تحل الكلمات والمصطلحات اللغوية المتعارف عليها بين جماعة ، أوعدة جماعات ، هي الرابط القوي الذي أدى إلى تجمع أفراد حول مصطلحات تقودهم إلى معاني موحدة ومشتركة ، هذا التطور المذهل يراه أوجلان قد تحقق بداية ، في الشرق الأوسط لدى المجموعتين الآرية والسامية .
كان للغة الرمزية تاثير عظيم على الفكر ، تعد أولى الثورات الذهنية ، التي أعلنت إنفصال الإنسان عن عالم الحيوان من جهة ، قادت إلى تزايد تجمع وإحتشاد الجماعات ، حول تلك المؤسسات اللغوية ، التي تحولت مع الزمن إلى هويات إجتماعية للمتشاركين في أنساق صوتية بعينها ، مؤسسين بذلك مجتمعات وأقوام ، أما الجانب السلبي لهذه الثورة ، فيكمن في إنقطاع الإنسان عن محيطه السابق ، حيث كان العيش في حضن الطبيعة لتصبح قوة العقل الرمزية هي الرائدة بدلاً عن لغة الجسد والأصوات المرافقة .
هذا التمايز الذي تم والثورة الذهنية المتحققة ، والإنفصال الحاصل ، مهد إلى ظهور نوازع سيطرة الإنسان على المحيط من بيئة وحيوان ، من خلال اللغة الجديدة ، التي أدت إلى سلوك للإنسان يختلف عما سبقه ، حيث كان العقل العاطفي هو الذي يقود الإنسان في الأفعال وردودها ، ومصدرها العواطف التي لا يمكن الإستغناء عنها ، في حين إن العقل التحليلي . بات يمتلك إمكانية التصرف دون إهتمام بالعواطف المرافقة للفعل ورد الفعل . وإجادة تقديم الواقع على غير مما هو عليه ، عبر الرياء والحيلة والمكر ، وكلها خصائص العقل التحليلي من خلال إتقان إستخدام اللغة الرمزية ، ستظهر آثار هذا التحول ، حين يتجه الإنسان صوب النظام والمدنية .
لا يجب أن نستشف من هذا الكلام ، ما يوحي إلى أن الفكر التحليلي هو المسؤول عن المآسي ، وإنما الغرض هو بيان أن هذا الفكر ، يهيء الظروف المناسبة للسلبيات .
إن ما حصل من تطور في أجهزة رأس المال وتكديسه والسلطة ، جرى بسبب قوة العقل التحليلي وقدرته على إظهار المراوغة والمكر والخداع ، دون أي إهتمام بالعواطف ، لأن جوهره وكينونته المقامة أصلاً على حرمان الآخرين من المأكل والمسكن … الخ . لأجل تلافي ردود الافعال من خلال هذا التلون ، حيث إستدامة السلطة لنفسها ، وممارسة العنف ضد المخالفين ، تحقق السيطرة من خلال الأرضية التي هيأ لها العقل التحليلي .
اسست الحضارة السومرية والمصرية ، بنى ذهنية عظيمة ، ويمكن تلمس أثار جميع البنى الذهنية التي تطورت بالتدرج من خلال متابعة سير الحضارتين ، عبر تاريخ المدنية المركزية لدى كلتيهما ، بدءاً من النشاطات الإجتماعية في الرياضيات والبيولوجيا ، والفلسفة ، والدين ، والفن … الخ . وأيضاً من خلال متابعتنا لتلك الحقبة اليونانية ، الرومانية ، حيث نالت نصيباً أكبر من التطور عن طريق العقل التحليلي الذي كان قد نما وتطور في بنيتها .
بلغ هذا الفكر ذروته في عصور النهضة والإصلاح والتنوير ، مع عدم نسيان عبوره مرحلىة نهضة محدودة في العصور الإسلامية أو الحضارة الإسلامية ، مع عدم إغفال مساهمات المدنيات الأخرى خلال كل تلك الحقب التاريخية ولا سيما الهند والصين .
يمكن تقييم كل تلك المراحل التي يمكن وصفها بالميتافيزيقية والمقدرة بحوالي خمسة آلاف سنة بورم كان يتضخم ، ويبدأ بالإنفصال عن جدلية الحياة ، حيث بدء تراكم رأس المال ، والسلطة في جميع البنى ، بدءاً من العمار إلى الموسيقى والآداب ، ثم الفيزياء ، إلى السوسيولوجيا ، ومن الميثولوجيا إلى الفن والدين ، ومن الفلسفة إلى العلم ، فإن نظرنا إلى كل ذلك على انه التاريخ الحامل للحروب وأسفارها من نهب وسلب وفظائع ، تشكل أرضية للمدنية فإن العقل الذي نشأ على هذه الأرضية ، هو اللاعقل ، أو العقل الغبي ، أو العاطفة الغبية ، يقابلها العقل الصحيح ، أو العاطفة الذكية التي لا تقبل في جوهرها كل هذا الغباء الذي أنتج كل تلك المآسي ، وقد كان للأيديولوجيات التي رافقت نلك المسيرة الطويلة ، وظيفة محددة هي : التستر على تلك الجرائم وإخفاء العقل الذي ورائها .
يتبع ….
.