مقالات

رحلة قصيرة لكردي

إنه يوم استثنائي في حياته؛ استيقظ من النوم ليس كالمعتاد، كل شيء فيه نشيط، حركته، مشيته، إنه صباحٌ جميل، وكأنَّ الزمنَ أعاده إلى ما قبل أربعين عاماً لعنفوان شبابه.

لقد سمع أمس رفاقَهُ وهم يلعبون (الدَّاما) على رصيف الشارع المقابل لبيته يتحدثون عن أمنية كانت محبوسة في الصدور ولكنها لم تَغِبْ عن وجدان كل كردي.

خرجَ من البيت مسرعاً، لا شيء يستطيع أن يُثَبِّطَ عزيمته وعنفوانه؛ لا السبعين عاماً من عمره ولا أدوية الضغط ونقص التروية.

كانت مسبحته الكهرمان تتراقص مع تمتماته (وحدة الصف الكردي!!!؟؟) بين أصابعه السمراء الخشنة التي تحكي كل واحدة منها فصل من فصول الحرمان والجراح.

قطارُ الذكريات القديمة صفَّرَتْ في ذاكرته البعيدة، وهبَّت عليه رياح الأوجاع والآلام التي مرَّ بها وسبَّبتها له التفرقة والتشتت والمواقف المتضاربة والمتناقضة.

تضاربت واصطدمت مشاعرُ الفرحِ في هذا اليوم؛ بمشاعر الإذلال والامتهان الذي كانت تمارسها عليه الدولة آنذاك من حرمان اللغة والثقافة والغناء والتسمية؛ ناهيك عن الخوض في السياسة أو الاقتراب منها.

شيئاً فشيئاً توضَّحت ملامح اللوحة التي ارتسمت في عقله الباطن حين كان رجال القرية يتكومون ليلاً على مذياعٍ صغيرٍ بالكاد كان يُسمعُ صوته وحين ينتهون من سماع المذياع يتطوع صاحبه قائلاً: الحيطان لها آذان. إياكم والخوض في مثل هذا السياق أمام النسوة أو الأطفال؛ لأن هذا قد يفتح علينا بوابات الجحيم، وتُقلعُ الأظافر أو تُخلعُ الأكتاف، ومن يدري لربما كلفك الخوض في هذا الحديث عضواً من أعضاء ذكوريتك أو على أقل تقدير اقتلاع جزءاً كاملاً من شواربك.

تراءى له وتماثل أمام عينيه ما حصل مع أبيه من أجل لفافة تبغٍ مُهرَّبة حين ألقاه الشرطي على الأرض وطحنه تحت أقدامه على بيادر القرية ودَاسَهُ بكل ما أوتي من قوة دون أن يتجرأ أحد من الرجال أن يقترب منه.

تتزاحم حكايات الزمن البعيد في حنجرته وتغُصُّ بها، فيردد في نفسه؛ نحن كنا أصفاراً على ورقة بيضاء لا قيمة لنا، وكان أدنى موظف في الدولة يستمتع بإهانتنا وتحقيرنا. إلَّا أن زمن اليوم ليس زمن الأمس فالزمن تغيَّر والواقع تبدَّل ويجب على كل الكرد الاتعاظ من التاريخ القديم والتعلم منه؛ فها هي مسألة حقوقنا وقضيتنا اجتاحت المدن والبلدان وتجاوزت البحار والمحيطات ولم تعد تتحكم بها رجال المخابرات وتُقدِّمُها في ملفات مزيفة للعالم لتضليله مرة أخرى، وصرنا رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بفضل التضحيات التي قدمناها على مذبح حقوقنا المشروعة الإلهية؛ فلماذا إذاً نتباطأ في واجب لا يجوز التفريط فيه (واجب وحدة الصف والموقف والرؤية) مادام هذا الواجب سيكون ساطوراً يقطع أيدي اللاعبين على وتر تفرقتنا وتشتتنا ويكون بلسماً يلتئم به جراحنا التي كنا وما زلنا نعاني منها. نعم إن ما يقوله قلبي ينطبق على ما يقوله عقلي. تذكرَ حكاية الملك الذي دعا أبناءه ثم كسر أمامهم العَصَوات فُرادى فكان له ذلك، وما إن ضمَّهم في حزمة واحدة استحال عليه الأمر.

استفاق من شروده وإذ به يتكأ على لوحة تحمل صوراً لخمسة شهداء؛ فتبسَّمَ في وجههم وقال: اطمئنوا إن الحريصين على دمائكم كثرٌ والأمنية الكبرى قاب قوسين أو أدنى.

زر الذهاب إلى الأعلى