دراسات

تركيا والكرد تاريخياً ودستوريّاً(2-2)

بعد أن تصدّرَ حزبُ العدالة والتنمية، وكانت بمثابة ردة فعل على الانقلاب الأبيض، بعض الأوساط التركية أكدت على وجود تنظيم سرّي في صفوف الجيش، وتختصر مهمتها بالقضاء على مختلف مفاصل الدولة، وتسعى بالوصول إلى القيادة وإبعاد حزب العدالة والتنمية، وقد أُطلق على ذاك التنظيم اسم (أرغنكون). هذا التنظيم كان سبباً رئيسياً في التوتر الذي حدث مع انقلاب 2016.

6ـ انقلاب 2016

من خلال التراكمات والضغوطات السياسية والاجتماعية حاول حزبُ العدالة والتنمية حلّ مشكلة الكرد بإصلاحات دستورية وديمقراطية واقتصادية وتنموية، وقد حدث تقاربٌ بينها وبين حزب العمال الكردستاني بالاتفاق على تسوية سياسية تفضي بإنهاء الحرب والعمل في المجال السياسي، وتمثلت الحالة بحزب الشعوب الديمقراطي جراء هذا التقارب. كانت صناديق الاقتراع هي كلمة الفصل، وقد دخل الكرد نتيجة هذه الانتخابات البرلمانية بصفة حزبية، وليس كنواب مستقلين، وكان العمل السياسي لدى الكرد هو الإقرار بمبدأ المواطنة والاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والإثني لكل المكونات، وعدم اللجوء إلى الحظر أو الإلغاء لأي مكون، بل المساهمة في إعادة إعمار المناطق الكردستانية.

جاء هذا الانقلابُ كحالة استثنائية، كون المنطقة تمرّ بظروف غير طبيعية. وقد تصاعدت وتيرةُ المعارك بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، وإقليمياً كان لظهور داعش كقوة إرهابية في المنطقة وتورط أردوغان بدعم هذا التنظيم لزيادة التوتر في المنطقة وإبعاد زملائه عن الحزب والسلطة.

الانقلابُ لم يكن مسرحية، إنما هدفَ بالقضاء على الخصوم والمنافسين له. وهذا حال كل الانقلابات المتتالية في تركيا التي لم تساهم بالإفراج عن القضية الكردية وإعطائها حقها التاريخي والثقافي، بل عملت بتضييق الخناق على هوية الكرد التاريخية والثقافية، وأكدوا أيضاً بالاستمرار بنفس النهج والثقافة التي أكدت على اعتبار أن لفظ كلمة الكرد عملاً جنائياً.

في بداية 2017 لجأ أردوغان إلى البرلمان التركي بمجموعة إضافات على الدستور، تساهم في نقل تركيا (أردوغان) من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، حيث أقرّ البرلمان التركي على هذه التعديلات الدستورية التي أكدت بأن تخرج من سراديب السياسة الحزبية ودهاليز البرلمان إلى الشارع التركي، هذا الشارع في منتصف نيسان 2017 مقبل على الاستفتاء بالموافقة على هذه الحزمة من الدستور والتي تضم (18) مادة. ويعد من أكبر المشاريع الدستورية التي عرفتها تاريخ الجمهورية، وهو مختلف عن دستور 1961 ودستور 1982.

فحوى هذه التغييرات هي نقل تركيا من النظام الجمهوري إلى النظام الرئاسي، وقد تترتب على هذه المعركة الدستورية تداعيات وتوازنات سياسية غير محددة في البلاد، وقد تدخل تركيا معارك سياسية أخرى، منها أن تحظى الأغلبية البرلمانية بإقرار هذه التعديلات الدستورية، والأخرى قد توفر حالة من التوافق بين العدالة والتنمية والحركة القومية بما يخص مستقبل الحكم في تركيا، هذا البناء الدستوري والسياسي الجديد من خلال تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي يراد منه دستوراً يعطي النظام الرئاسي الأكثرية من الأصوات كي يتم اتخاذ القرارات بأقصى سرعة، وقد يبقى بحسب زعمهم نظام الحكم أكثر استقراراً. وبالمحصلة يبقى هذا الدستور (النظام الرئاسي) هو الحل الوحيد للاستقرار في تركيا، لكن عدم توافق الأحزاب الرئيسية على هذا الدستور قد تدخل تركيا في حالة من القلق والتوتر وفقدان الثقة كون الحركة القومية يعد من أشد المعارضين للنظام الرئاسي.

يمنح الدستور الجديد رئيس الجمهورية أردوغان ومن يأتي من بعده بصلاحيات وامتيازات مطلقة في إقرار أية حالة سياسية، وقد تتمثل بإعلان حالة الطوارئ دون الرجوع إلى البرلمان، وهذه تنعكس على الحركة السياسية الكردية بشكل سلبي يعيق حركته من العمل السياسي والتنظيمي، ومن جانب آخر تؤكد هذه المواد على إلغاء وإقصاء القوى الاجتماعية الفاعلة في تركيا، وتؤكد على إعطائه حالة من الشرعية للسلوك الاستبدادي، وقد ينسى أصحاب هذا الدستور الجديد بأن تركيا تمر في ركود اقتصادي وقلاقل وفتن في بنية المجتمع التركي، لأن النظامَ الرئاسي يقوم بضرب وتفتيت النسيج المجتمعي من خلال نشر بذور الفتنة بين الأعراق والأديان وكل المكونات.

بنفس السياق يمكن القول بأن هذه التعديلات جاءت كي تغطي على إخفاقات حزب العدالة والتنمية في الملفات الاقتصادية وتفشي الفساد والتقليل من الحريات العامة والهوة الساحقة من فقدان الثقة بين المواطن والحكومة، كل هذه الأسباب والمسببات أدت إلى انقلاب 2016 الذي قام به مجموعة من الضباط في القوات المسلحة التركية، لأن أردوغان قد أفسد الحياة السياسية وألغى دور مؤسسات المجتمع المدني، وقد تمثلت بعض مواد هذا الدستور بنقل السلطة التنفيذية من رئيس الحكومة إلى رئيس الدولة، وبموجب هذا قد أعطى لنفسه الترشح لولايتين أخريين.

يرى بعض المراقبين بأن تركيا قد تنقسم إلى مِللٍ ونِحَلٍ من خلال كلمة نعم للدستور أو لا؟

وربما هذا الانقسام السياسي والقومي قد يحوّل تركيا إلى صندوق من النار، وانطلاقاً من موقف حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل الكرد سياسياً ويعمل بنفس الوقت على إقناع الكرد بالتصويت بـ لا، لأن هذا الحزب يرى بأن التصويت بـ نعم يقلل ويحدد من حقوق الكرد أو ربما ينفي ويلغي وجودهم السياسي، لأن أغلب الوعود التي تتخذها الحكومة في إنماء المشاريع في المناطق الكردية بطيئة التنفيذ، وهذا يؤدي إلى الاعتصامات والمظاهرات المناهضة للدستور الرئاسي.

الخاتمة:

يمكن قراءة هذه الانقلابات بأنها الشرخ الواضح والمتجذر بين الساسة والجيش ومدى استقلالية المؤسسات العسكرية، هذه من ناحية ومن ناحية أخرى طغيان الفكر الأتاتوركي يعيد للبنية الفكرية أصالتها الطورانية، هذا ما جعل  الأصوات ترتفع عالية في الشارع التركي تطالب بالتغيير الجذري في الفكر والمؤسسات العسكرية.

إذا ما حاولنا قراءة الدساتير في الدولة التركية ومستحقات الكرد فيها من السلجوقيين والعثمانيين مروراً بعصر الجمهورية وحتى الآن، نجد بأن نسبة التغيير في الدستور يبدو ضبابياً وغير واضح، ولأسباب سلطوية يؤكدون على حق الكرد في المشاركة ببناء تركيا كمواطنين من الدرجة الأولى، في كثير من الأحيان  عملت الحكومات المتعاقبة على إلغاء أي بند يتعلق أو يشير إلى الوجود التاريخي أو الثقافي للكرد، هذا الإلغاء لم يأتِ من الفراغ إنما هو تأكيد على وعي السلطة بأن الكرد هم شعب له جذور تاريخية في المنطقة، وهذه الجذور والمقومات هي تأكيدات ودلالات على إعطاء الكرد صفة الأمّة.

نتيجة هذا الصراع كان وما زال الكردُ يعلنون بوجه هذه السلطات كل أشكال التمرد والعصيان والثورات منذ مئات السنين وحتى الآن، وقد مثل حزب العمال الكردستاني الحقيقة التاريخية والثقافية في ثورتها ومقاومتها ضد كل مشاريع الإلغاء والتهجير والقتل، من خلال نظرية وفلسفة (الأمة الديمقراطية) وهي دعوة صادقة وحقيقية إلى أخوة الشعوب في المنطقة، بذات السياق نجد بأن سياسات تركيا كانت وما زالت تعمل على تأكيد لغة واحدة في علاقاتها مع الكرد وهي لغة الإلغاء والإبادة، ويدرك الجميع بأن هذه اللغة لا تصلح لإخوة تجمع الشعبين الكردي والتركي.

منال العلي ـ عبد الباري أحمه.

زر الذهاب إلى الأعلى