مقالات

الميثاق الملي.. أوهام أردوغان باستعادتها

آلان سليفي

لا يُخفى على أحدٍ الآن، أنّ أردوغان يسعى لتحقيق حُلم عُثماني زائل منذ قرن من الزمن، “الرئيس التركي” يستعين بأي شيء من خياله الواسع ليُوهم العالم بأنّ تحركاته الاستعمارية لها أساس تاريخي.

حيث أشار أردوغان في أكثر من مناسبة أنّ سبب تدخلاته في سوريا والعراق هو حق مشروع اكتسبه بفضل “الميثاق الملي التركي”، ففي نهاية حرب العالمية الأولى 1918، تكبّدت الجيوش العثمانية الهزيمة أمام قوات الحلفاء، وأُجبروا على توقيع “هدنة مودروس” مع أعدائِهم، ومن ثم غزت اليونان مدينة إزمير التركية في 1919، ليلقي مصطفى كمال أتاتورك خطاباً أنّ وحدة تركيا على المحك، وأنّ الحكومة التركية في إسطنبول ضعيفة وعاجزة في الدفاع عن مصالح الشعب التركي.

بعد سلسلة مؤتمرات ولقاءات، أقرَّ البرلمان العثماني بـ”الميثاق الملي” عام 1920 على اعتباره وثيقة “ترسيم حدود جديدة لتركيا” بعد سقوط السلطنة العثمانية، ويتكوّن هذا الميثاق من ستة مبادئ وهي: مستقبل مناطق الدولة العثمانية التي احتلّها الحلفاء، ذات الأغلبية العربية في زمن توقيع اتفاقية “مودروس”، والذي سوف يُحدّد عن طريق الاستفتاء، أما المناطق التي لم تتعرّض للاحتلال “عند توقيع الاتفاقية” والتي تسكنها غالبية تركية مسلمة، فهي تعتبر وطناً للأمة التركية كـ”وضعية قارس، أرداخان، باطوم أيضاً سوف تُحدد من خلال الاستفتاء، ولكن “وضعية تراقيا الغربية” ستُحدّد من خلال سكانها.

كما يجب ضمان أمن إسطنبول وبحر مرمرة وسيتم الإشراف على التجارة الحرة والانتقالات في المضايق من قبل تركيا والبلدان الفاعلة، أما حقوق الأقليات سوف تضمن حال ضمان حقوق الأقليات المسلمة في البلدان المجاورة في هذه البنود، اعترف الميثاق الملي بخسارة الأتراك للولايات العربية، لكنه استثنى شمال العراق، والتي كانت عاصمتها “الموصل”، وشمال سوريا والتي كانت عاصمتها “حلب”، حيث اعتبر الميثاق تلك المناطق جزءاً من الدولة التركية الجديدة لتُثير الخريطة المنبثقة غضب الحلفاء، وبعد إعلان الميثاق بأقل من شهرين احتلّ الحلفاء العاصمة العثمانية “إسطنبول”، ونتيجة تلك الأحداث المتلاحقة، وقّعت الحكومة العثمانية في إسطنبول معاهدة “سيفر مع الحلفاء عام 1920″، حيث رسمت تلك المعاهدة حدود جديدة لتركيا تُخالف التي أقرّ بها الميثاق الملي، بالإضافة إلى تقسيم الأقاليم العربية والكردية في سوريا والعراق بين فرنسا وبريطانيا، مما أغضب مصطفى كمال أتاتورك واتّهم الحكومة العثمانية بالخيانة، ليُشكل حكومة جديدة في أنقرة وينتصر في حرب الاستقلال مع اليونان، ليكسب اعترافاً دولياً، دعا إلى مفاوضات السلام في مدينة “لوزان السويسرية عام 1922”.

أعلن أتاتورك إلغاء السلطنة العثمانية، مؤكداً أنّ وفد أنقرة برئاسة “عصمت أنيونو”، هو الممثل الوحيد للأتراك في لوزان في الجولة الأولى.

ربط عصمت توقيعه على “الاتفاقيّة” بالموافقة على “بنود الميثاق الملي” الأمر الذي قوبل بالرفض من قِبل الحلفاء في عام 1923، مما أيقن مصطفى أنّ التشبث بشروط الميثاق سوف يودي بإشعال حرب لا طاقة للأتراك بها، ليفضل التمسك بما حققه من مكاسب، ويأمر عصمت بالتوقيع على المعاهدة بأي ثمن، وهكذا لم يبقِ الحلفاء للأتراك من مواد “الميثاق الملي” سوى الفُتات، لأنّهم أدركوا سياسات التتريك المُمنهجة التي اتبعتها الحكومة العثمانية في شمال العراق وسوريا، وفي المناطق ذات الأغلبية اليونانية مثل “تراقيا”.

ومن هنا نرى أنّ الميثاق أصبح مجرد حبر على ورق، لا يمكننا الاستناد عليه لمنح أي حق جديد لتركيا، ونرى خداع القادة الأتراك رغم توقيعهم على الاتفاقية بأنفسهم، بحيث حاولوا بعد تأسيس الجمهورية التركية استعادة ما فقدوه، ففي عام 1939 احتلّ أتاتورك لواء إسكندرون السورية بعد تسويات سياسية مع الفرنسيين، وما يزال اللواء محتلاً حتى الآن تحت اسم يمسح هويته الأصلية واستبدالها بهوية أخرى وهي “هاتاي” التركية، وفي عام 1974 احتلّ الجيش التركي شمال قبرص وأسس بما يُعرف بجمهورية قبرص التركية، غير المعترف بها دولياً.

هنا نجد أردوغان بأنّه مخادع كبير من خلال تلويحه باستعادة الميثاق الملي، الذي يُعتبر امتداداً لِمَ قام به أسلافه لتحقيق الهدف ذاته، فاليوم تمتلك تركيا قواعد عسكرية كبيرة في شمال العراق، بينما تنفذ بصورة متكررة هجماتها على الشمال السوري لاحتلال أكبر قدر من الأراضي تمهيداً لسلخه تماماً عند رسم القوى الكبرى للخارطة السورية المستقبلية.

وفي بحر إيجة، لا يتوقف الجيش التركي عن التحرّش بالقواعد العسكرية اليونانية فوق الجزر الإيجية، أما قبرص تتزايد عمليات التتريك للشمال القبرصي، بهدف طمس هويتها كما في الشمال السوري

بالنهاية، لا شك ثراء هذه المناطق بموارد الطاقة التي تفتقدها تركيا بشدّة هو ما يدفعها للتلويح بالميثاق الملي كوثيقة شريعة في حربها ضد المدنيين، كما تشتت الجنود في جبهات قتال عدّة يبشر بنهاية كارثية للدولة التركية وتدمير جيشه، وبالتالي يُقضى على حكم أردوغان ومرتزقته إلى الأبد.

نقلاً عن ليفانت اللندنية

زر الذهاب إلى الأعلى