مقالات

المركزيّة صانعة الحروب

صلاح الدين مسلم

الحرب هي اللغة الوحيدة التي أنتجت هذا الحوار اللا معرفيّ بين التيارات الدولتيّة المتصارعة التي لا تعرف لغة الفكر والحياة والإنسانيّة، إنها لغة الفكر القومويّ الذي تمخّض عنه ذاك المسخ الذي ظلّوا ينطقون بترّهاته في فصول الحقد والكراهيّة، لغة المطبّلين للدولة من الطبقات المجنّدة لها، والتي تسوّق مفهومها، وتؤدلجها على أنّها العلاج السحريّ لكلّ هموم المواطن، وأنّ المجتمعات لا تستطيع العيش دون دولة.

ومريدو الدولة يروّجون الحقد الأعمى لدى الأغلبيّة التي ترى أنّها صاحبة الأحقّيّة في قيادة الدولة بما أنّها لتسيّر الأكثريّة وتفرض منهاجها على الجميع، فمثلاً نرى المكون العربيّ السنّي في سوريا يرى في نفسه الأحقيّة في رسم خطوط الدولة ورسم الإستراتيجيّة العامّة لها، فبالتالي ترى تلك الطبقات المثقّفة التي احتكرت الفكر في نفسها، وجعلت الثقافة والفنّ والتعليم والتاريخ حكراً عليها، ومن خلال العِلم يرون أنّهم قادرون على تحريم الحلال وإحلال الحرام، لذلك آثرت أن تطبّل لفكرة سيادة الأغلبيّة، فبدلاً من أن تعيش في المجتمع العربيّ السنّي فحسب، أرادت أن تكون طبقة على كامل الأراضي السوريّة مع ضمّ كلّ المكونات والأثنيّات الأخرى في طيّاتها، وصهرها في فكر الأغلبيّة التي تستطيع أن تفرض أيديولوجيّتها على الجميع دون استثناء، وبالتالي يظهر مفهوم القولبة، ومع أنّ المجتمع العربيّ السنّي لن يستفيد من تلك الطبقات ومن أولئك الوصوليين، إذْ سيظلّ الديكتاتور دكتاتوراً وإن كان من لحمه ودمه، لكنّه ينقاد إلى أطروحات ذاك المتثاقف – ليس المثقّف – ليكون أداة طيّعة في يده، يخدمه بعد أن سُلبت منه ذاكرته المجتمعيّة الأخلاقيّة السياسيّة، فصار ينظر إلى الكرديّ؛ وكأنّه يقتطع جزءاً من جسده عندما يطالب بإدارة نفسه بنفسه، وكذلك ينظر إلى المسيحيّ أو السريانيّ أو التركمانيّ… نفس تلك النظرة، فقد يكون ذاك الحاقد غير زائرٍ لروج آفا قبل هذه الحرب الطائشة قط على سبيل المثال، وقد لا يعرف عن تلك المنطقة شيئاً، لكن بمجرّد الارتباط بالمركز الدمشقيّ الذي يقتات على الأطراف فلَهُوَ مَبعث سروره الذي لا سرور بعده، فهو لم ينفصل عن المركز الذي بات جزءاً من سطوته الذهنيّة.

كانت ومازالت الحرب التي افتعلتها الدول القوميّة في الشرق الأوسط لغةَ الانحطاط الأخلاقيّ الذي يعدّ الشعار الرئيس لهذه الحرب الفوضويّة، فسيول الدماء تجري، والتهجير والقصف، والتشريد، واللااستقرار، فهي الدولة التي تُبنى أبداً على الجماجم والدماء، والقتل والتدمير، ومازالت المعاناة وشبح كل سواد يخيّم في الأفق، لكن مازال هناك دعاة للمركزيّة، دعاة للدولة، فكيف سيتخلّص هذا المواطن الذي تمنحه حرّيّته فيرفضها؟! بحجّة الوهم الذي عشّش في داخله ألا وهو أنّه لا يوجد هنالك أي شيء في العالم اسمه إدارة ذاتيّة لا مركزيّة، لا توجد اتّحاديّة بين الشعوب، فيجب أن يكون هناك إناء يجمع كلّ شيء في طياته، ولا تعريف لذلك إلّا الدولة، الدولة فحسب، والقومويّة هي المركزيّة فحسب، هي التمحور حول نقطة معيّنة، هو الدوران حول الكعبة التي تهدي الناس جميعاً، وهكذا يتحوّل الدين إلى المركز، إلى النقطة المركزيّة في الدائرة، وكأنّ الأطراف لا حول لها ولا قوّة.

زر الذهاب إلى الأعلى