دراسات

عن الوهم وعن الحقيقة

سيهانوك ديبو

بحسب الثيوصوفيا (علم المعرفة الإلهية) فإن الإنسان، مكوَّنٌ من سبعة أجسامٍ  قد تكون مبادئ أو مستويات طاقة أو مَرْكباتٍ أو حُجُبٍ أو دوافع، والإنسان بجزئيتيه الفردية ومن ثم الشخصية تكوِّن هذه الأجسام على نحو منتظم ومتداخل ووفق ما يلي:

أولاً- الفردية: التي تتشكل بدورها من ثلاثة مكامن متداخلة هي الأجسام الثلاثة الأولى؛ الكليّة الواحدة القادرة تؤدي إلى أخراها:

1- الآتما (الروح).

2- الجسم الإشراقي (الطاقة الأنسية الطبيعية).

3- الجسم العِلِّي العقلي الأعلى (السببي).

ثانياً- الشخصية: التي تعتبر ناتج مجموع ما يكتسبه أو يريد أن يكتسبه من خارج نطاق الفردية ومن العمل الناجم عن احتكاك الفرد- الشخص مع مجموعة الخارجي (أفراد- أيديولوجيات- قيم محلية وخارجية … وغيرها) الإيجابي (السلم) أو النافر السلبي (الحرب)؛ مؤلفة الأجسام الأربعة الأخرى المؤلَّفة بدورها من:

4-الجسم الرغائبي (العقلي الأدنى).

5-الجسم النجمي (النوراني).

6-الجسم الأثيري (البرانا، طاقة الحياة).

7-الجسم الفيزيقي (المادي الجِرْمي).

ضمن هذه التفاعلات المعقدة سواء كانت مرئية أو مغيّبة أو الطارئة؛ تخلق شخصية الإنسان التي تتقدم لتأخذ مكانها الطبيعي وتحكم على الظواهر التي يشترك بها أو التي تحدث دون إرادته بأنها سلبية أو إيجابية، وتبقى الشخصية أسيرة الحقيقة التي يبحث عنها، مع وجود كَمٍّ كبير من العوائق التي تعترض مسيرها. وحينما تتوقف الشخصية عن الحِراك تبدأ بِلُوكِ ما أنتجته وحينها يظهر الوهم وتظهر بعض الحقائق –رغم وضوحها- عند بعض الشخصيات بأنها وهم. كما حال الشخصية السورية السياسوية أو كَسَبَةِ الاجتماع السياسي الظاهرة في طرفي النظام والمعارضة التي اجتمعت به في جنيف، إذْ لم تشهد سوريا مجتمعاً سياسياً، ولم تشهد شخصيات دبلوماسية –على الأقل- عند مجتمعي جنيف السوري؛ حتى اللحظة. والوهم السوري يتضح عند اصرار هؤلاء بأن سوريا يجب أن تكون:

  • نمطية فإنما هذا هو (وَهْمٌ ضد التاريخ)
  • ومن يرى بأنها يجب أن تكون بنظام مركزي أو لامركزية مُجَمِّلة/ كما على شكلها الإداري فإن ذلك يعني (وهم ضد الطبيعة)
  • أمّا الذي يرى بأن سوريا يجب أن تكون مُدارة من قبل بعض شخصيات من مناطق سوريّة محددة فإن ذلك ليس سوى (وهم ضد الاجتماع الوطني وضد الجغرافية).

ولأن الواهم يرى أن كل حقيقة لا تعجبه وهم؛ مثلما هو البارز في الآونة الأخيرة سواء من كَسَبَةِ المعارضة السورية أو من قبل مستبدي النظام حينما اتفقوا على رفض الحل الفيدرالي ووسموها بأنها الوهم؛ فتظهر مناعة فجائية لدى واهمي النظام ومن يشبهه وتكون بمثابة ردة الفعل الضديّة من أي وجود جديد يجعل وجود (الفكرة الاستبدادية برمته) في خطر.

ما الذي يدفع اتباع الوهم؟

الوهم هو الوسيلة التي تتخذها الشخصيةُ، سواء بشكل أدري أو جبري أو بشكل لا أدري، إيماناً منها أن تحافظ على شخصيتها الوهمية بدورها. ولقد تناول الكثير من الفلاسفة هذه المسألة التي إذا ما تركت دون علاج إلى عوامل تدمير للفردية وللشخصية وللمجتمع وبحسب دور ووظيفة هذه الشخصية. وقد رآها أفلاطون من خلال أسطورة الكهف الذي أوردَه في كتاب الجمهورية الفاضلة أنْ يقرِّبَ نظريته في المعرفة: لنتصور أناسًا مقيدين منذ نعومة أظافرهم في كهف مظلم، بحيث تمنعهم تلك القيود من الالتفات إلى الوراء أو الصعود خارج الكهف، وفي الكهف هناك ما يشبه النافذةَ التي يَظهَر منها نورٌ ينبعثُ من شمس مقابلة للكهف، وبين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أناس يحمِلون أشياءً عديدة. حينما تضرب أشعةُ النور على تلك الأشياء تنعكس ظلالُها على الجدار الداخلي للكهف. هكذا لا يرى المحبوسون داخلَ الكهف من الأشياء الموجودة خارجَ الكهف إلاَّ ظلالَها. وإذا حصلَ أنْ خرجَ أحدُهم من الكهف بعدما فكَّ قيودَه وأدركَ أنَّ الأشياء خارجَ الكهف مختلفةٌ عن الأشياء التي في داخله، ثم قرَّرَ بعد ذلك العودةَ إلى داخل الكهف لإخبار الموجودين فيه بحقيقة ما شاهده في الخارج ولتنبيههم إلى الأوهام التي يعيشونها فإنهم لن يُصدِّقوه أبدًا، بل ربما يحاولون قتْلَه. يرمز الكهفُ إلى العالَم المحسوس. وترمز القيودُ إلى الجسم المادي الذي يقيِّد النفسَ. أما العالَم خارجَ الكهف فيرمز إلى عالم المُثُل (الأفكار) الذي عاشت أنفسُنا فيه قبل حياتها الأرضية والذي ستعود أنفسُنا إلى الحياة فيه من جديد بعد انفصالها عن البدن. ويرمز الناسُ المارُّون خارجَ الكهف إلى الحقائق المطْلقة الموجودة في عالم المُثُل. أما الظلال التي تنعكس داخلَ الكهف فترمز إلى أشياء العالَم المحسوس. ويرمزُ السجينُ الذي يتمكَّن من التحرُّر من قيوده إلى الفيلسوف. إننا مقيدون بجسمنا المادي المحسوس، ولهذا لا نستطيع أنْ ندركَ إلاَّ ما هو محسوس. هذا المحسوسُ لا يمثِّل إلاَّ ظلالَ الحقيقة، لكننا مع ذلك نتعامل معه على أنه هو الحقيقة. هذا هو الوهم، كما يتناول ذلك أيضاً الكاتب محمد عبد الجليل في مقالة عن هذه المسألة.

والوهم، بحسب نيتشه، هو كل ما خلقه الإنسان من حجج تنتج عن رغبة لاشعورية في البقاء حتى لو لم تكن تستحق ذلك، وفي هذه الحالات تظهر الأوهام على أنها الحقائق وتبدو الحقيقة في نظرهم على أنها وهم، ويرى نيتشه بأن مصدر الأوهام يكمن في الفكر أولاً، حيث يلجأ إلى اختلاق الأضاليل التي تناسب وجوده وإلى إخفاء الحقيقة التي يظن أنها تشكل خطراً على وجودِه فيخفيها تحت غلاف المنطق الجزئي أو النمطي، واللغةُ ثانيًا، لأنها وسيلة وأداة الفكر، وهي نعوتٌ واستعاراتٌ صنعها الفكر، ويرى نيتشه بأن الواهم لا يمكنه التخلص من وهمه، لأنه يبقى حريصاً على وجوده المضمون والمضموم في مثل هذا الوهم.

أما الوهم، بحسب أوجلان، فهي كينونات غامضة ومبهمة لم تحدث إلّا لصاحبها أو معتقدها، إنه الشخص المستعد لفعل أي شيء يعادي الحقيقة، ويرى الفيلسوف أوجلان بأن الوهم يتعدى الفردية الواهمة والشخصية الواهمة إلى أنظمة ونمطيات كاملة واهمة، فحينما تصر أمة نمطية على أن تكون على حساب صهر ثقافات وقوميات وأعراق أصيلة فإنها أمة واهمة تسحقها حججها التي تتآكل بفعل عوامل الحقيقة، ونسق الحقيقة في الأمم الواهمة تشتد بفعل التضليل والإبادة التي يمارس ضدها، وأن المجتمعات المنظمة هي المجتمعات الحقيقية التي تستحق العيش دون وهم، وعلى عكسها تماماً فإن المجتمعات الواهمة هي المجتمعات غير المنظمة والتي لا تعير أية أهمية للتدريب ومثل هذه المجتمعات تصدق الأوهام على أنها حقيقة وتساعد في الوقت نفسه أن تُصدق الأمم النمطية الواهمة وهمها، وفي هذه الحالة يجب العمل لتحقيق الفرد الندي والشخصية الثورية عبر أداة الذهنية التي تقف في وجه أوهام النمطيين وتنتصر عليهم أو تقبل بانتصارها، وأن حقيقة الأمة الديمقراطية تلقى معارضة كبيرة من وهم الأمم النمطية التي تبدأ بارتكاب المجازر والدمار لأنها ترى فنائها بل ووهمها في الحقيقة التي تبددها.

الجماعات الواهمة أو المتخيّلة السورية تعادي حقيقة وضرورة حل الفيدرالية الديمقراطية في سوريا، وترفضها وتنعتها بالواهمة كما حال النظام الاستبدادي وكما حال المعارضة الاستبدادية التي لم تختلف عن النظام إلّا اليسير، وكليهما اليوم وفي الفترات القادمة سيظهرونها على أنه الشر والخطر على العروبة التي في الحقيقة هم الذين أساؤوا إليها وشوهوا كل جميل فيها، كما أنه في الحقيقة فإن الفيدرالية الديمقراطية هي التي تعبر عن الكلية لمجموع الجماعات القومية والتجمعات الدينية وغيرهما، وأنها الخيار الأمثل للنجاة. وإذا كانت اللغة والفكر والنفس (الرغبات) هي مصادر للوهم وأدواته في الوقت نفسه؛ فإننا اليوم نرى بأن عموم أو أغلب الإعلام الناطق باللغة العربية يصنع وهماً ويصف حقيقة الفيدرالية بأنه التقسيم والتبعثر، علماً بأنه الإعلام نفسه الذي أدى هذه الكوارث وحول حركات الربيع العربي وانتفاضة الشعوب في الشرق الأوسط إلى خريف … خريف.

زر الذهاب إلى الأعلى