تقارير

الحياة الريفية في روج آفا بين البدائية والحداثة

139235_2012_04_18_21_50_37تحقيق : مصطفى عبدو

  قليلاً ما يفكر أحدٌ في الفلاح  وحياته, وماذا جرى له من تحولاتٍ بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ربما لأن الجميع أصبح مشغوفاً بالعيش في المدينة, وحتى لو كانت أصولهم قروية إلا أن علاقتهم بالقرية وبأهلها اقتصرت على زياراتٍ عارضة أو موسمية لحضور فرحٍ أو تعزيةٍ أو عيد, وسرعان ما يعودون إلى مدينتهم وهم يحمدون الله على النعمة التي هم فيها, وينسون القرية ومن فيها. ويخطئ من يظن أنك لكي ترى الفلاح فلابد أن تذهب إلى القرية, فالقرية وإن كانت هي الموطن الأصلي للفلاح, إلا أنها أصبحت بيئةً طاردةً له إلى المدينة, فأصبح الفلاح يظهر في كل مكان وبكثافة حاملاً معه كل موروثه القروي.

علاقة أبناء روج آفا بالأرض

كان سابقاً الارتباط بالأرض قَيّمة, بل كانت طينة الأرض نفسها قَيّمة ورائحتها قَيّمة, بحيث أن التفريط في أي شيءٍ من ذلك يساوى التفريط في الشرف والكرامة, وكان الفلاح يمتنع عن  بيع أرضه مهما كانت الأسباب, ويجدها عيباً يستحق الخجل, ومن أجبرته ظروفه على البيع كان يتوارى عن الناس.

أما الآن لم تعد للأرض نفس القيمة والقدسية عند الفلاح, فبيعها لم يعد عيباً كما كان!! وتجريفها والبناء فوقها أصبح شيئاً مستحباً بل مرغوباً بشدةٍ لديه. وربما يرجع ذلك لأن الأرض لم تعد تستر الفلاح أو تسد احتياجاته, فقد تفتت الملكية الزراعية بعد أن تم  توارثها جيلٌ بعد جيل, وبعد أن ارتبطت مهنة الفلاحة بالشقاء والفقر والحاجة والوضع الاجتماعي الأدنى, ولهذا وجدنا الفلاح يكره أن يورث مهنته لأبنائه, لذلك  فهو يسعى بكل ما يملك لتعليمهم حتى يلتحقوا بوظائف حكومية أو غير حكومية, أو احتراف صنعة من الصنائع تبعدهم عن مهنة الفلاحة والزراعة, وهو لا يرضى لأحد أبنائه بالبقاء معه في الأرض إلا مضطراً, وكأن الفلاحة أصبحت مهنة اضطرارية يلجأ إليها من فشلٍ في التعليم وفشلٍ في التجارة وفشلٍ في أن يتعلم صنعة معينة. وعلى الرغم من قِدَمِ الزراعة والفلاحة في منطقتنا وبلدنا, إلا أن تطور هذه المهنة قد توقف. فما زالت هي هي نفس الأساليب المتبعة ونفس الوسائل, وما زالت سلعة الفلاح تشترى بأسعارٍ زهيدةٍ. كل هذا يكمن وراء ضعف انتماء الفلاح لأرضه وضعف تمسكه بها, ورغبته في هجرها.

تآكل الأسرة  القروية الممتدة

كانت الأسرة الممتدة من خصائص المجتمع القروي, وهى الأسرة التي تضم ثلاث أجيال يعيشون في بيتِ العائلة الكبير: الجد والجدة, الأبناء والبنات, ثم الأحفاد.

ومع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية قل عدد الأسر الكبيرة, وتزايد عدد الأسر الصغيرة (الأب والأم والأبناء فقط) الذين يعيشون في شقةٍ صغيرةٍ أو بيتٍ صغير. وقد تظل الأسرة الصغيرة على اتصالٍ يوميٍ بالأسرة الكبيرة, ولكنه في الغالب اتصالٌ وظيفيٌ وليس اتصالاً عضوياً. وقد أثر هذا على علاقة الأبناء والأحفاد بجيل الأجداد, فلم تعد كلمة (كبير العائلة) لها نفس المكانة كما كان في الماضي, حين كان الكبير يملك الأرض والبيت ومن فيهما وهو صاحب الكلمة المسموعة, وأصبحت الروح الفردية أكثر شيوعاً فكل شخصٍ يحاولُ أن يدير حياته كما يريد ويرى, والجيل القديم يقاوم هذه النزعة الفردية ويحاول قدر استطاعته الإبقاء على الحالة السابقة والتي كانت سائدة في عهدهم, وقد أدى هذا  التناقض إلى صراعٍ بين الأجيال و يبدو هذا الأمر جليا أكثر في هذه الأيام.

فلم يعد لكبير العائلة نفس التقدير, بل كثيراً ما يتعرض للسخرية والاستهزاء بشكلٍ مباشرٍ أو غيرَ مباشر.

الهجرة إلى المدينة

أصبح أحد أحلام الفلاح والقروي الهجرة إلى المدينة حيث أحلام الثروة والحياة المدنية الحديثة, وحين ذهب إلى المدينة نقل إليها خصائص الحياة الزراعية, وبنى العشوائيات من البيوت, وأضفى ذوقه الريفي على المساحة التي يشغلها, ونقل أخلاقيات المجتمع القروي الزراعي إلى المدينة كعدم تقدير أهمية المواعيد, وعدم تحري الدقة, وضعف الاهتمام ببروتوكولات العلاقات الاجتماعية, حيث يصعب عليه ترك ما تعود عليه.

 هجرة القرويين إلى الخارج

المعروف عن الفلاح ارتباطه الشديد بأرضه وقريته, وقد ظل على هذا الحال قروناً طويلةً على الرغم مما كان يمر به من مشكلات فقرٍ واحتياج, ولكن مؤخراً حدث تغيرٌ ملحوظٌ لديه (الفلاح) حيث أصبح السفر إلى الخارج حلماً يداعب خياله, وبدأ يسعى إليه بكل ما أوتى من قوة, وإن حدث و نجح في السفر فإنه يقضى سنواتً طويلةً هناك, ويأتي لزيارة أهله لمدة شهرٍ أو شهرين كل عام أو عامين, وتصبح علاقته بزوجته وبأولاده علاقة موسمية مؤقتة (علاقة تمويل أكثر منها علاقة أسرية متينة). ويفسر البعض إقبال القرويين على السفر بهذا الشغف إلى ما تعرضوا له من إغراءات استهلاكية عن طريق وسائل الإعلام التي نقلت له أنماطاً من الحياة الرغيدة والمرفهة في مجتمعات أخرى لم يألفها من قبل, وفتحت شهيته للتطلع إلى مثل هذه الأنماط المعيشية ما دام ذلك ممكناً وباستطاعته.

وحتى إن عاد القروي من سفره نراه يحاول إعلاء جداره على جدار جاره المقيم بجانبه, ويتباهى بما حققه من ثروة ( أو تتباهى أسرته), ويثير ذلك روح المنافسة أو الحقد لدى من لم يسافر, ونتيجة هذا تخلق حالةٌ من عدم التوازن الاجتماعي ربما تصل إلى نوع من الطبقية تدفع المقيم إلى السفر ايضاً, و إلى تحقيق الثروة بأية طريقةٍ لكي يلحق بمستوى من هاجروا قبله.

وفي الجانب الثقافي والديني لا يخفى على أحد بأن من سافروا قد عادوا بقيم البلاد التي سافروا إليها وثقافتها, وحاولوا نقلها إلى مجتمعهم الريفي فحدث تغيرٌ نوعيٌ في التركيبة الدينية والثقافية في الريف والقرية.

النمط المعماري لقرى روج آفا

اختفت الكثير من الأنماط المعمارية المميزة للقرية  في روج آفا (البيوت المبنية من الطين والتي تحوي غرفاً صغيرة وحظيرةً للحيوانات ومكاناً للطيور ), وحل محلها مبان ذات طوابق متعددة وليس لها أي نمطٍ مميز, ولذلك أصبح شكل القرية عشوائياً يحوى بعض البيوت القديمة الطينية مع الكثير من الكتل الأسمنتية الخالية من البساطة والجمال, وبجانب هذا بعض البيوت الفارهة على نمط المدينة, وكل هذا يشكل مسخاً لا ينتمي إلى القرية أو إلى المدينة, وربما هذا المسخ المعماري يقابله مسخاً ثقافيا وأخلاقياً في نفوس الناس, فلاهم ينتمون إلى قيم القرية ولا هم استوعبوا قيم المدينة.

الإنتاج الغذائي في الريف الكردي

كان الفلاح فيما مضى ينتج غذاءه من أرضه ومن حظيرة مواشيه, وكانت زوجته تقوم على تربية الدواجن التي تغطي احتياجات البيت من اللحوم والبيض وغيرها. وأشياء منتجة محلياً (القمح ومشتقاته والعدس ووو ), أما الآن فهو يشترى الخبز من الفرن, و عزفت زوجته عن “التنور” وعزفت عن تربية الدواجن, وعزف هو عن تربية المواشي, وأصبح الفلاح مطالبٌ بشراءِ الكثيرِ مما يأكله.

ولم يعد في الكثير من البيوت فرناً تقليدياً (تفك)  كما كان من قبل واستبدل ذلك بالغاز, وبسبب ذلك تم الاستغناء عن القش و(التبك), بل أصبح يبادر القروي إلى  حرقها في الحقول غيرَ مبالٍ بما يتخلف عنها من تلوث يؤذي القرية  بمن فيها وحتى المدن المجاورة لها.

أخلاقيات القرية

تغيرت كثيرا أخلاقيات القرية فتقلصت روح العائلة الواحدة واتسعت مساحة الفردية, وانسحبت الكثير من قيم المروءة والشهامة والنجدة وحلت محلها قيم أنانية ونفعية, فأصبح الفلاح يتقبل أشياء وسلوكيات من أبنائه وبناته لم يكن يتقبلها من قبل, إلى جانب ذلك اختفت الأزياء الريفية وظهر خليطٌ من الأزياء المدنية المختلطة ببعض اللمسات الريفية. ولم يعد احترام الكبير قائماً, واهتزت صورة الزوج فلم يعد يحظى بنفس التقدير العالي كما كان, وأصبحت المرأة قادرة على أن تعنفه وتلومه وأحيانا تضربه, ولم يعد المراهقون والشباب يطيعون أوامر الآباء والأمهات بل أصبحوا مصرين على خياراتهم ورؤاهم الشخصية بشكلٍ أكثر وضوحاً وجرأةً.

العقائد والديانات في قرانا الكردية

كان يغلب على أهل القرى نوع من التدين البسيط, حيث كان المسجد يتوسط القرية ويشكل مركزاً جغرافياً وروحياً لأهلها, والناس يبدؤون يومهم بصلاة الفجر وينهونه بصلاة العشاء, وتسري في حياتهم روحٌ دينيةٌ مبسطة وبسيطة, وأحياناً يغلب عليها الطابع الصوفي المشبع بالرضا والتسليم والمتمثل في انتشار الموالد والعزائم وزيارة إلى الشيوخ. ولم يخلو التدين القروي من بعض المعتقدات الأسطورية والمبالغة في تأثير الجن والسحر والحسد في حياتهم.

لقد تغيرت مفاهيم وطقوس دينية كثيرة, وتوارت الطقوس والمظاهر الصوفية الآن.

مجتمع القرية والحداثة

  لقد أحدثت التكنولوجيا بكل تنويعاتها ( التليفزيون والدش والموبايل  والانترنيت) تغيرات نوعية في حياة  المجتمع الريفي, فالفلاح يجلس أمام التليفزيون لوقتٍ متأخرٍ فلا يتمكن من الاستيقاظ مبكراً كما كان, وقد انفتح عقله على عوالم جديدة يراها أمام عينه فترفع من مستوى طموحه وربما مستوى استهلاكه, وقد أدى هذا إلى تقلص حالة الرضا التي كان يتصف بها الفلاح والتي كانت سمةٌ مميزةٌ له.

 فلم يعد الآن راضيا أو قانعاً بحياته الريفية. وغيرت هذه الحداثة من قيم الفلاح حيث اتسعت مساحة رؤيته للعالم, وهذا  ما أحدث شرخاً هائلاً بداخله, حيث يرى هذا العالم الواسع الذي يعده بالثروة والمتعة. وفى ذات الوقت حين يغلق الشاشة يصحو على واقعه الفقير المؤلم.

وحين تزور قرية من قرى روج آفا وسوريا تتفاجأ باختفاء القرع (كوندر) و غيره من المؤن التي كانت تعلو السطوح بشكلها المميز, وقد حل محلها أعدادٌ هائلةٌ من أطباق الفضائيات, وهذا يعنى الانتقال من الإنتاج والتخزين إلى السهر والرفاهية.

الطقوس الاجتماعية في قرى روج آفا

مرَّ زمنٌ طويلٌ على قرانا الكردية والتي اتسمت دوماً بالبساطة في طقوس الأفراح والمآتم, أما في السنوات الأخيرة فثمة سباقٌ في ذلك.

وأصبحت المآتم فرصة للتباهي وإظهار القدرة المادية والمكانة الاجتماعية, ويأتي الناس من كل حدبٍ وصوبٍ لإظهار المكانة الاجتماعية للمتوفى وأسرته.

وقد يقول قائلٌ بأن هذه التغييرات هي من صميم التطور والتغيير في الحياة, فليس معقولاً أن تسير الحياة في المجتمع القروي أو المدني على وتيرةٍ واحدةٍ دون تغيير, هذا صحيح فالحياة بطبيعتها متغيرة, ولكننا دائماً ننظر إلى التغيير إذا كان في الاتجاه الإيجابي البنّاء, هل هو في اتجاه النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ..؟  أم أن التغيير ضد كل هذا؟

يبدو أن التغيير في حياة فلاحينا وقرويينا  قد حدث في ظروفٍ سياسيةٍ غير مواتية  جعلت هذا التغيير يأخذ شكلاً استهلاكياً, وهذا ما يدعو للقلق ويحفز للمراجعة والتصحيح والإصلاح  وما يجب الوقوف عنده بتمعن وإيجاد السبل الكفيلة لمعالجته.

الحيوية عادت إلى قرى روج آفا

غالباً ما تكون الحياة الريفية في أنظار الناس مليئةً بالوحدة والعزلة بالنسبة إلى المسنين والأطفال وحتى النساء، لأن معظم الرجال والشباب يسافرون إلى الخارج للعمل من أجل كسب رزق الأسرة. ولكن الحالة في القرى الريفية في روج آفا تختلف عن ذلك اختلافاً كبيراً الآن، فمع تواجد الكومونات فيها أضيف إلى حياة القروي الكثير من الحيوية والنشاط.

زيارة إلى قرية في روج آفا

زرت مؤخراً أسرةً ريفيةً في إحدى قرى مقاطعة الجزيرة، وما إن دخلت دارها الواسعة حتى أعجبتني ترتيبات هذا المنزل الفلاحي، باحةٌ مليئةٌ بجميع أنواع الورود والخضروات, وفي هذا الدار يجتمع بعض القرويين للهو وتبادل الأحاديث بفرحٍ وغبطة. استقبلني صاحب الدار بحماس وبسبب أنه رجل متحمس يريد مساعدة الآخرين، ومساحة منزله واسعة ومناسبة. هكذا، أصبح بيته مكاناً خاصاً يحب القرويون التوجه إليه كل يوم لتبادل الأحاديث والآراء والأخبار المختلفة ومناقشة بعض الأمور المتعلقة بحياة القرويين.

يقول السيد إبراهيم  صاحب البيت إن الكومونات القروية ساعدت على تنشيط حياة القرويين وتوعيتهم, ورفع مستواهم الثقافي والسياسي والاجتماعي, وتعزيز الوحدة والتعاون والألفة بين جميع القرويين, وقد اختلفت أحوال القرويين كثيراً عما كان في السابق.

ويضيف السيد إبراهيم أن بناء الكومونات القروية في أرياف روج آفا يعتبر عملاً مفيداً في دفع بناء الأرياف, وبفضلها بدأ القرويون يهتمون بمختلف المجالات والمهارات بعيداً عن الإحساس بالعزلة والملل, واللجوء إلى العمل الجماعي في تدبير شؤون القرية.

خاتمة

 أن الاهتمامَ بالقريةِ لابد وأن يستحوذَ على اهتمام المسؤولين في الإدارة الذاتية الديمقراطية, والقطاع الزراعي  بعد اليوم لما يمثله هذا القطاع من أهمية في بناء الاقتصاد الوطني، والقرى في روج آفا ظلت محرومةً ولعقودٍ طويلةٍ من كافة الحقوق، كالحق في المياه النظيفة والصرف الصحي والرعاية الصحية والتعليم والطرق المعبدة، فأغلب قرانا تفتقد لكافة البنى التحتية من مياه شرب وصرف صحي وخدمات صحية وغيرها من أساسيات الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى