مقالات

كُردٌ اِسْتَهْدَوا؛ مكوناتٌ ليست بالتائهة؛ التاريخ بدأ من الإلهةِ الأم إنه العقد الاجتماعي المُحَصّن

 

sihanokسيهانوك ديبو

ملخص تنفيذي

العقد الاجتماعي بدأ من المجتمع الطبيعي في العصر النيولويتي وليس من المؤدي إلى الثورة الفرنسية المنقلبة على نفسها لاحقاً وعلى عقد جان جاك روسو الاجتماعي كأساس نظري لها، كما الحالة التي ظهرت عليها من انقلاب على كرسي كان للملك وصار للرئيس. واعتبار أن التاريخ البشري يبدأ من العصر الأمومي/ مرحلة الحق الأمومي/ عصر الإلهة الأم. توصيف منصف؛ وكل محاولة مجتمعية بمفاد فعلٍ ثوريٍّ عملٌ خلّاق يستوجب الدعم والمساندة والإسناد فالمشاركة فيه، وتصويب ما يجب تصويبه وتعديل ما يجب تعديله كما حالة مسودة العقد الاجتماعي للنظام الاتحادي الديمقراطي لروج آفا- شمال سوريا. علماً من تناول هذه المسودة حتى اللحظة يمكن تصنيفهم إلى مجموعات ثلاث؛ الأولى الناقدة وهي المرحبّة بها التي تحتاجها المسودة في الأسِّ والأساس، والثانية المتشككة بها؛ طالما كانت واقعة تحت تأثير الإصلاح والمقاربة التي تنتهج الإبقاء على الدستور القديم وحقنه ببعض التعديل، والثالثة الحاقدة؛ طالما تجد نفسها خارج المعادلة كلها وباتت عاجزة عن تخطي حالة الكهولة والعطالة التي تتميز بهما؛ فيكتفون بإطلاق البارود من مدافع الإعداء على ثورة روج آفا ونموذج الحل المقدِّم من خلالها. الأخيرة لم يعد أيُّ سوريٍّ بحاجته/م ولا حاجة للمسودة ولمن يتبنوها إليهم؛ إنهم خارج السرب تماماً. أمَا الثانية فستكتفي بالمراقبة وستقرر إلى أية جهة تميل في اللحظة التي تراها المناسبة، وسيبدون الفعالية الممكنة في لحظة لن يكون العقد المقر ومن ثم المعمول به في أدنى حاجة لهم، أما الأولى فهي الأقدر على التعبير عن الواجب الوطني وأن كل فعل مجتمعي يتم الارتقاء به من خلال التفاعل مع ما ينقصه.

يصبح كلَّ عقدٍ اجتماعيٍّ دستوراً* ولا يَصِّح القول والمعنى بأن كل دستور عقداً اجتماعياً. وفي الحالة السورية تكون هذه المعادلة صحيحة الشطرين ومؤدية إلى المعنى المجتمعي وإلى المعنى السياسي للتغيير الديمقراطي بشكل كبير. بالرغم من ذلك يمكن التعريف بالعقد الاجتماعي على أنه مصطلح فلسفي متجذر في الفكر الإنساني وقصيٌّ في تموجد الفعل البشري المتنوع، وإن لم يكن متبلوراً بموضعية متخصصة أو مخصوصة، فنلاحظه قائم بآثاره في الفكر الفلسفي القديم أي حوالي 400 سنة قبل الميلاد وبشكل مباشر في الحيوات الأنسية الأولى في عهد ثقافة الآلهة الأم. و يُعتقد أن سقراط وفي فلسفته عن الحق والخير والجمال قد نحى إلى ضرورات العقد الاجتماعي كي يتحقق الجمال والخير  الحق، وأيضاً تشير النتوءات المبزوغة من جمهورية أفلاطون الفاضلة على أنها حُبلى بالبذور الأولى لفلسفة العقد الاجتماعي، كما أن له دلالات في مربع أرسطو في التقابل والتضاد بين المفاهيم والكليات كنتيجة متفاعلة للأضلاع المربعة الأربعة التي تفضي إلى المعرفة عن طريق التجربة، ومعرفة الفضيلة عند أرسطو متمثلة بأية تجربة تُحصنِّها؛ إنه عقد تصونه التجريب، والحديث عن الثورة بأنها تجريب ضد السوء وتجربة من أجل الفضيلة تحتاج إلى عقد اجتماعي يُبَيّنه ويُظهِر فعاليته.

أولا- مفهوم الحق الطبيعي باعتباره أساس العقد الاجتماعي

الظلم والتوزيع غير العادل للثروة والتقسيم الطبقي وتفتيت المجتمع إلى طبقات أعلى وأدنى؛ أي؛ كل ما نتج عن مغادرة للمجتمع الطبيعي/ الأيكولوجي وما نتج عن معاداة وفراق أو طلاق للحق الأمومي أو ثقافة الآلهة الأم، وإحلال السلطة الذكورية بدلاً منه من خلال الملكية والثروة والسلطة (ثالوث الأسى البشري)، جعل الإنسان يفتش دوما عن الحق الضائع المسمى بالعدل، وفكرة الخير أو العدل لا بد أن تكون متمرسة بمفاهيم كثيرة تحميها وتمنع الشرور والآثام المستنشئة من التسلط والاستبداد. فكانت لفكرة الحق الطبيعي أو لفكرة القانون الطبيعي أن تظهر بفحوى أن الإنسان يخلق حرا ومن ثم يُستعبَد ويتم تنظيم عملية أو عمليات الاستعباد وفق السلطة الممارسة بحق المجتمع. الإنسان كائن حر وفق القانون الطبيعي، وقرار هجرانه للمجتمع الطبيعي إلى الوضعي تحت حجة بأنها غير مؤدية لطموحاته الحرة قرار بائس يدفع أثمان باهظة من وراء هذا التهور، وهذا ما يفسر دعوته أن ينتظم بشكل أكثر اجتماعا بشكل يعبِّر عن كنه المجتمع الطبيعي والناموس الذي كان يسيّره بشكل متقن وبديع.

منذ الاجتماع البشري المنظم والأول في المجتمع الزراعي الأول وحتى يومنا هذا، شغلت فكرة الحق الطبيعي ضمن المجتمع اهتمام الباحثين والفلاسفة والمفكرين، وتعدى أن يكون مجرد اهتمام فرسموا ما أمكنوا لصورة مجتمع قائم على الفضيلة والعدل والخير. ولقد أسهمت هذه الفكرة بإحلال انتقال سلس منظم لفكرة الإنسان المتمسك بحقه الطبيعي ضمن المجتمع المشاعي الأول إلى مجتمع أكثر تجددا وأكثر منتظما يحمي هذا الحق ويصونه وفق قواعد ثابتة ورؤى متشبعة بالمفهوم الطبيعي للحق، ما يدفع العقل البشري المركون إلى أفق باهت إلى أنماط متجددة من العقل البشري سمته العامة  الاستقرار أكثر. والتوازن الحاصل يشير باستمرار إلى إمكانية نتاج اجتماعي أكثر تنظيما وأكثر محافظة على الحق كضرورة.

الإنسان الأول الذي صارع قوى الطبيعة وفق حقه الطبيعي في العيش بعد مسايرة المجهول والغامض منها، هاجر مجتمعه المشاعي لاحتياجه إلى مجتمع أكثر انتظاما، وبعد أن أكد سيطرته إجمالا على تلك القوى واجه صراعا أكثر قساوة وأكثر ضراوة وهو الصراع مع الحكام والملوك والأباطرة في ظل نشوء مفهوم الدولة والسلطة والثروة والملكية الخاصة؛ هذا الصراع هو القطبة المخفية لأصل الثورات التي تهدف إلى التغيير. ووفق السلطة المتكونة انقسم الإنسان مع أقرانه المنتقلون إلى المجتمع الطبيعي، انقسموا إلى طبقات متناقضة من السادة والعبيد، الأحرار في الطبقة العليا والمقيدين في الطبقات السفلى، نَحَتْ هذه المعادلة إلى المزيد من التمييز بفعل خاصية الدين المؤكدة بدورها إلى أقصى حالات الطبقية، وبالأخص عندما افترى الحكام للعبيد أن سلطتهم مستمدة من الإرادة الإلهية. التناقض بين الطبقات أفرغت بدورها مساحات شاسعة من التصحر الفكري والمزيد من استلاب الإرادة، بالتالي إنتاج الذهنية السلبية (القدرية أو الجبرية أو الاصلاحية). بالرغم منذ لك؛ بقيت جينة الحق الطبيعي تتماشى وتنتقل في الفكر البشري أملا في الارتقاء والتخلص من المآسي. وفي هذه الفترة بالتحديد يؤكد الكثير من المفكرين والباحثين أن الحق الطبيعي قد نال نصيبا واسعا وشرحا مستفيضا ولأول مرة على يد المفكر الهولندي ( غروسيوم 1583- 1645 ): (….أن القانون الطبيعي هو قرار عقل سليم ينير في أمر من الأمور فحكم عليه بحسب مناسبته أو مخالفته للطبيعة العاقلة، هل هو فاسد أخلاقياً أم غير فاسد، وبالتالي هل هذا العمل هو واجب أم مخلوق من قبل الله خالق هذه الطبيعة ….). خلافا لغروسيوم، هنالك رهط من المفكرين ادعوا أن مفهوم الحق الطبيعي ظهرت قبله بزمن، بل أتت كنتيجة للتفسير الاقتصادي كعامل حاسم في تغيير مراحل التاريخ والعامل الاقتصادي المدعوم من قبل الفكر العلماني الذي يفصل بين الطبيعة والحقوق والدين، نتيجة أن المعرفة الجديدة للطبيعة وتسخيرها كعائد اقتصادي مُراكِم للثروة وفيما بعد للسلطة، مما أوجب عد الاقتصاد كبعد جديد للحق الطبيعي ومفسر له في الآن الواحد، ومن وجهة النظرة الاقتصادية هذه في تفسير وإعداد الحق الطبيعي المتمثل بالثروة والملكية الخاصة كحق طبيعي؛ أن الإنسان في العهود الغابرة القديمة لم يحتاج إلى التملك كونه لم يعيش بشكل اجتماعي، الاقتصاد أبرز اصطفافا وأحوج العمليات المجتمعية للانتظام، كونه يخلق منفعة. والفهم الصائر إليه عُدّ الحق الطبيعي به كحق واجب ومكتسب بحالتها الطبيعية. وهذا التفاف للحق الطبيعي ومحاصرة للمجتمع الطبيعي بأكمله والنظر إليه بعين التشيؤ والاغتراب. والتجمعات البشرية الأكثر تعقيداً والمنتظمة بشكل أكبر وبشكل أكثر فاعلية من حالة الفرد الطبيعي إلى حالة المجتمع المنتظم، تلك التجمعات البشرية أرادات أن تتقلص مرة أخرى وبشكل مجتمعات مغلقة إلى حالة أقل كثافة وهي ما سميت فيما بعد بالحالة القومية ووفقها تبررت الطموحات القومية وبررت معها حروبها وعدائها إلى المجتمعات التي انقسمت منها.

أما السويدي ( بوفندورف 1632 – 1694) فقد رأى أن الحق الطبيعي أو القانون الطبيعي يستمد شرعيته من السلطة الممارسة بها. وهذه السلطة الموحاة من قبل الله لإجبار الناس على قبول الاستبداد والتسلط الممارس بحقهم، لقد كان مؤرخا للملكية السويدية وتبريرياً بارعاً لسلطة الملكية المطلقة آنذاك، قائلا: (…..إن الحق الطبيعي هو شرع ضروري لا يتغير استمده العقل من طبيعة الأشياء، و أن دور السلطة هو وضع القوانين التي تهدف إلى التقييد بالحق ..)

وفرانسيس باكون أيضا من ناصر الامتياز الملكي دون أن يكون من أنصار الحكم المطلق.

لم يختلف توماس سميث ما قاله باكون، فحاول تشريع السلطة والحكم المطلق وفق كتابه (الجمهورية الانكليزية الذي صدر عام 1583) فقد أشار في كتابه إلى وجوب توزيع السلطة إلى ثلاثة مناحي: بقاء الملك كرأس النظام السياسي، ووجود البرلمان الذي يحكم، والشعب الذي يدعم كليهما. ولا شك أن تصورات توماس سميث تعد من الأسس الدستورية المبكرة استمد علماء القانون من رؤاه دساتيرهم وبالأخص الرؤية المتعلقة بفصل السلطات.

مما تقدم ذكره نلحظ أن القانون الطبيعي لا يمكن حصره في بوتقة فكرية اجتماعية واحدة، بل نلحظ أن هناك تعارضا في المفهوم لشرحه والوصول إليه مجددا، إلا أنه وبرغم التعارض والاختلافات السابقة للرؤى والمناهج الفلسفية والاجتماعية والقانونية التي تناولت نظرية الحق الطبيعي يمكن شمل أهم النقاط الأساسية والمرتكزات الفكرية للمفهوم وفق ما يلي: إن الحق و الصواب أمران طبيعيان و ليسا من اختراع الإنسان وإبداعاته، فهما موجودان وليسا مُمَوجدين، وعليه فإن الحق العام والذي يمارسه ويحافظ عليه المختصون في القضاء العام قد يمارسون التفصيلات المؤدية إلى القانون العام بشكل خاطئ من خلال حكم جائر وغير عادل، وهذه النتيجة تخرج من بطون العقد الاجتماعي وتتشكل خارجه وعلى هامشه، أي أن السلطة المتكونة لا تستطيع أن تفرض قانوناً يُعَدُّ فيما بعد قانوناً طبيعياً لسبب بسيط أن الحق الطبيعي أو القانون الطبيعي يخالف القانون الوضعي مخالفة بائنة فالأخير مستَمد من السلطة وليس بالضرورة من الحق.

وبالرغم من الآراء السابقة والمختلفة في تفسير الحق الطبيعي، لا يمنع هذا الاختلاف أن يكون للقانون الطبيعي ثوابت ملحوظة في الجانب الممارساتي له، و لعله ومن أبرز هذه الثوابت:

1- إن الأساس الفكري للقانون الطبيعي كمصدر من مصادر القوة وكمفهوم ثابت يعلو القانون الوضعي البشري وتشريعاته اللاحقة.

2- الحق الطبيعي يعلو الحق الوضعي ويسبقه، و يكون الملهم للإنسان للتخلص من السلطة الجائرة ومن شر تقسيم الطبقات التي تنشأ إثره، والثورة الواجبة هنا كمفهوم انقلابي يمجد الحق الطبيعي الثابت للأنساب وتعيده إلى مراكزه الأولى التي تسلط عليها الوضعي بفعل الرغائب السلطوية.

3- إن كافة التبريرات الحاصلة والمتكونة بفعل القانون الوضعي قد أربكت الإنسانية وخلقت أنفاقاً مظلمة وجوراً بحق الإنسان الطبيعي المكتسب من الطبيعة، والتطورات الاقتصادية والثقافية والسياسية وحتى الحضارية تأتت على حساب فقر وتجويع طبقات كثيرة، فكان لا بد للإنسان وفق حقه الطبيعي أن يثور ويطالب بالثائر من ظلّامه.

4- الهروب من المجتمعات الأولية الفردية والاجتماع اللاحق طوعا في مجتمعات أكثر تعقيداً، كان الهدف منه أساساً حمل الحق الطبيعي لرسم نظام اجتماعي عالمي يمجد الحقوق الثابتة للفرد ضمن المنظومة المجتمعية العليا أي الوصول إلى حالة (الفرد الندي) ومن بعدها تضمين كامل لحقوق الجماعات ضمن هذه المنظومة.

ثانياً- ثقافة الإلهةِ الأم

الإسلام إسلامان؛ الإسلام المتشكِّل في زمن الرسول محمد والإسلام الذي تشكل بعده الموكلِ إلى الفقهاء وفتاوي الأئمة ورجالات الدين إلى جانب رهط من الخلفاء الذين المنهمكين بأمور السلطة والغزوات. والإسلام كما شأن المسيحية واليهودية والزرادشتية وغيرها أديان ومعتقدات صبَت إلى توحيد الإلَهية والناجم عنه كافة الثقافات التوحيدية؛ لم تستطع هذه الثقافة بل عجزت عن إيجاد ما يؤرق الإنسان وهو حيٌّ بما يصبو إليه من تحقيق العدالة وانتفاء الطبقية والهرمية والشامانية. فَلم تستطع ثقافة التوحيد أن تمنشع وقوع مئات الآلاف من المسلمين في موقعتين فقط (الجمل وصفيّن)، وتحولّت في أحايين كثيرة إي أيديولوجيا منغلقة على نفسها تبيد ما يخالفها وتختلف عنها.

حينما رفع الله السماء؛ أوكل مهمة عدم وقوعها إلى خليفته في الأرض (الإنسان)، وكلما أحب الإنسان خالقه الله كلما أسرع ببناء له جنة على الأرض، وَوحده من يستحق الخلود في جنة الله من ساهم في خلق جنة له ولأقرانه على الأرض. إنها ببساطة محبة الله. لكن؛ الخطيئة الكبرى التي اقترفها البشري حينما أنزل إله هابط من السماء وأسماه الدولة فكانت الطبقية والظلم والتسلط والاستبداد والتوحش، وهذه الخطيئة معالجة خاطئة للخطيئة الأساس حينما غادر المجتمع الطبيعي الكومينيالي إلى المجتمع الوضعي؛ لعنة تلاحق الإنسان وتصر المصلحين بالعودة بذهنية ثورية إلى المجتمع الإيكولوجي كما حال ثقافة الآلهة الأم، والاعتماد على الأخيرة- كما حال مسودة العقد الاجتماعي للنظام الاتحادي الديمقراطي لروج آفا- شمال سوريا- لا يتعارض مع ثقافة التوحيد وإنما تؤكده وخاصة في الجملة التي أتت بعده من حيث الاعتماد على كل الثقافات التي جاءت على يد الأنبياء والحكماء والفلاسفة. ويعتبر الأخذ بهما دليل التناغم مع الأفكار التي تزخر في تلك الثقافات؛ من حيث المستحيل الأخذ بالشيء ونقيضه في الوقت نفسه. ومن حيث أن تاريخ البشري يبدأ من ثقافة الإلهة الأم وليست من أديان التوحيد، كون التاريخ يؤدي دوراً نشوئياً وتكوينياً، ليس لأجلِ المجتمع البشريِّ وحسب، بل وفي كافة الكيانات الكونية؛ يُعَدُّ حقيقة أَجمعت عليها جميع العلوم. الزمان تكوينيّ. وقيام الزمان بالذات بدور الإبداع المنسوب إلى الآلهة يكاد يشكِّل لغزاً. وأن التاريخ والعلوم بمجملها بدأت في العهد النيوليتي وبالأخص في عهد تل حلف (6000– 4000 ق.م). ومساهماتُ الإلهة المرأة – الأم أمر محدِّدٌ في هذه المرحلة. إذ يجب استيعاب الدور التعليمي الأول والأصل للنساء – الأمهات في كافة المواضيع المعنية باكتشاف النباتات، تدجين الحيوان، صنع جِرار الفخار، آلات النسج، الطاحونة، بناء المنزل، وبيوت القداسة. فإصرار الإلهةِ الأم إينانا بعناد في معمعانِ نزاعها مع أنكي بأنها هي صاحبة الاكتشافاتِ العظمى (الماءات) المائةِ والأربعة (104)، وأنه سرقها منها؛ إنما يشير بكلِّ سطوع إلى الحقيقة المستترة تحت قولها هذا. أيْ أنّ أغلب الاكتشافات قد حصلت على يد النساء – الأمهات، وأن الرجال الإداريين قد سرقوها منهن. ولم يكتفي الإداريين (السلطة الذكورية) بالسرقة فقط وإنما إلى استعباد المرأة والحطِّ من مكانتها كما في مرحلة الجاهلية التي سبقت ظهور الإسلام، وكما في مرحلة إسلام أغلب الخلفاء والسلاطين وكما في مرحلة ظاهرة داعش؛ بمفاد أن المرأة مجرد جارية وسبية أما الحرة في نظرهم فعليها الاختباء وراء نقابها ووراء زوجها أو أبيها أو أخيها أو ابنها خَلْفاً…خَلْفاً.. في الخلف دائماً. وعكس ذلك هو المقصود من الاعتماد على ثقافة الإلهة الأم.

ثالثاً- حل القضية الكردية في الأمة الديمقراطية  

الكرد تعاملوا بمرونة؛ أحياناً كثيرة بشكل مفرط وأكثر من اللازم؛ مع الأيديولوجيات التي مرت عليهم، لم يستطيعوا التوازن بين خصوصيتهم وبين خصوصية الثقافة/ات الجديدة التي جعلتهم في آحايين كثيرة يفقدون تمايزهم والتوازن بين المعنى الأصيل لهم والشيء الحديث المفروض عليهم أمْ المقتنع به. شيء يتعلق –ربما- بالعامل النفسي الفيزيولوجي والعامل السوسيوثقافي لابن الجبل وثقافة الجبال التي تجعل من أبنائها على الدوام أكثر إخلاصاً مع الكينونات التي تظهر لهم فيتعاملون معها بشكل تجعل الكينونة المستجدة هي الأساس، ويمكن الاستدلال على ذلك في المرحلة الثانية للإمبراطورية الميدية (انتقال الإدارة إلى الفرس من الكرد) وصولاً إلى الوضع الراهن قبيل نظرية الأمة الديمقراطية بمفاد حل القضية الكردية مع حل قضايا الدمقرطة والتحول والتغيير في الشرق الأوسط، مروراً بالمرحلة الإسلامية الأولى والثانية والثالثة على يد العثمانيين ومشاركة الكرد الحاسمة في مأسسة تركيا الحديثة وسوريا الحديثة وإيران الحديثة والعراق الحديث. من حيث أن اتفاقية فرساي في عام 1918كجانب عملي من اتفاقية سايكس بيكو وضعت فلسفة سياسية مشينة من أجل صناعة حدودنا، من أجل صناعة سورية كدولة مستحدثة ما بعد مرحلة الاستعمارية، وكان الكرد فيها غير موجودين كجغرافية مستحدثة أيضا، وهنا لا بد التنويه إلى أن المشكلة التي تعرضت لها القومية الكردية متحولة بفعلها إلى قضية وطنية بامتياز، كانت بسبب تللك الممارسات الخارجية (الخرائط و الدساتير) وأيضاً بسبب الممارسات التي اعتمدتها السلطات المرتبة على ظهورها خارجيا (حتى اللحظة) والعقلية الاستئصالية التي اعتمدتها أنظمة الاستبداد بخاصية الاستعلاء القومي ودساتيره المؤدلجة والاجراءات اللاإنسانية تجاه الكرد مثل المشروع الذي أسقط الجنسية عن عشرات الآلاف من الكرد وأبقت عليها كل أنظمة الاستبداد المتلاحقة؛ وعشرات المشاريع العدائية بهدف امحاء الكرد وابادتهم الثقافية. من أجل ذلك فإن الدولة القوموية تتشكل على الدوام القوة النابذة الرافضة بفعل الاستعلاء القومي المطبق بحقهم.

فهل لنا في روج آفا أن نتحول إلى دولة قومية نمطية لا نأخذ بعين الاعتبار عناصر المجتمع في روج آفا ( كقوة نابذة مستقبلية). وفي هذا المنحى يقول أوجلان: أنّ مجتمعَ الأمةِ النَّمَطيّةِ الذي تَرمي إليه الدولةُ القومية، يُنشِئُ مواطنين مُصطَنَعين ومُزَيَّفين، مشحونين بالعنف، يَبدون متساوين (حقوقياً كما يُزعَم)، إذ عُمِلَ على مُساواتِهم ببعضِهم بعضاً بِبَترِ جميعِ أعضاءِ المجتمعِ بِمِنشارِ السلطة. هذا المواطنُ متساوٍ مع غيرِه حسبَ التعبيرِ القانونيّ، لكنه يعاني أقصى درجاتِ اللامساواةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ فرداً وكياناً جماعياً….)

و عليه فأن الأمة الديمقراطية تتحقق في ظل مؤسساتها المتشكلة غير المعتمدة على تصنيف واحد ولون واحد وعلم واحد ولغة واحدة، إنما العكس تكون الشراكة ذهنية وثقافية بعد أن كان العداء (حتى اللحظة أيضا) عداء ذهنية وعداء ثقافة، الذهنية التي فرزها المستعمر من أجل اقصاء الكرد وأكدتها سلطات الاستبداد الكومبرادورية (التي خلقتها) حالة متقدمة من ثقافة اللا انتماء بسبب سيادة ثقافة الدولة النمطية التي تفرز سيادة الانتماء إلى الوطن فقط، وبوجود هذه الذهنية ورواسب الارتشاح العدمي في الفكر النهضوي يجعل باستمرار وجود (الحاجة) التي تخلق للانتقال الى الذهنية الجديدة وتعتبر هي المحركة للنهوض المجتمعي القويم، وفي هذه الحالة فإن الصراع الايديولوجي كائن ونشط وهو على أشده، لا كما يعتقد البعض أن نهاية الأيديولوجية صريت قبل أكثر من عشرين عاما ونيّف. وبسبب عدم قيام الحداثة الرأسمالية وعلم السوسيولوجيا المستقى منها بتناول شكل الأمة الديمقراطية، بسبب هيمنتها الأيديولوجية، فالصراع بين الأيدولوجيات لا يمكن انتهائه أو الانتهاء به، خاصة في ظل انتفاء المساواة كقيمة مجتمعية يبحث عنها الانسان منذ فجر بشريته متنقلا من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع الوضعي ومن ثم يقرر العودة إلى المجتمع مرة أخرى لكن هذه المرة بشكل نوعي– أدري.

والكرد في روج آفا تعرضت قوميتهم للسطو الدلالي وبمباركة دواخلية من عناصر المجتمع السوري وفق التنميط والاستهلال للامة النمطية التي ركزت عليها أحزاب قوموية استمدت شعاراتها مثلا” كل شيء في سبيل الوطن” من مبدأ الأمة الفاشية نفسها، وهنا مربط القلق المعرفي والذي كشرت عن أنيابها ضد مفهومي الهوية السورية والمواطنة السورية بالنسبة لعموم أبناء سوريا، و الكرد منهم بشكل مخصوص. من هذا المنحى وأمور أخرى فرض على الكرد وفي مناطق وجودهم أن يكون لهم محلان: إما في الدرك السفلي كقومية مقموعة في مجتمع الأمة النمطية، وإما في القمة العليا (مثل غيرهم) في مجتمع الأمة الديمقراطية، والظروف المعيوشة ودقائق الأمور تفرض على الدوام أن يكون الكرد هم محرك التغيير الحاسم بسبب تحولهم إلى قوى نابذة من أجل التغيير. فالحل الكردي يكمن في التغيير نحو تحقيق الأمة الديمقراطية.

أي أن مبدأ سيادة الأمة الديمقراطية تقوم على نظرية العقد الاجتماعي، وخلاصتها أن المجتمع الطبيعي يسبق المجتمع الوضعي ويعلوه وعدِّ هذا المبدأ الأساس في التنظيم المجتمعي واعتماد ثقافة الإلهة الأم والتراث الإنساني في مقاربته المجتمعية، وأن الأمة الديمقراطية سابقة في وجودها على السلطة، ومن هنا نرى أوجلان دوام الاشادة عليها في مجتمع (الكلان) السابق للمجتمع الوضعي الذي نشأ عنه العقد الاجتماعي، وحقوق الأمة الديمقراطية كذلك سابقة على السلطة، وهي حقوق لصيقة بالأمة، والجماعة الحرة و الحاذقة هي التي أوجدت السلطة ( الادارة في مجتمع الادارة الذاتية الديمقراطية)، بناءً على عقد بينها وبين الشعب الذي انتظم ولا يزال في الكومونات كملبية لمسألة الانتماء، والمبشرة بعودة الهوية، والمنتظمة في المجالس الشعبية والأحياء والقرى والمدن وتنظيم المرأة وبنسبة 50% هي مسألة صميمية مرتبطة بطبيعة مفهوم الأمة الديمقراطية وأيكولوجيتها التي تستدعيها عناصرها ومن تلك العناصر حق المرأة هو كحق الحياة، وكل ذلك يمثل الرؤية السياسية الاجتماعية ومسألة التنظيم في الفيدرالية الديمقراطية كنظام مجتمعي، بموجبه تنازلت الأمة الطبيعية عن بعض حقوقها في سبيل إنشاء هذه السلطة، على أن تكون الأمة هي صاحبة السيادة باعتبارها شخصاً معنوياً له إرادة تتكون من مجموع إرادات الأفراد، وعليه، فإن الدولة وبناء على هذا العقد لا تتمتع إلا بالقدر الذي تتنازل عنه الأفراد، وبغرض حماية الحقوق والحريات التي لم يتنازلوا عنها، فهي ملزمة باحترام الحقوق والحريات السابقة على وجودها.

لولا ريا لما كان زيوس؛ لولا المرأة الحرة لما كانت ثورة روج آفا

زيوس في الميثولوجيا الإغريقية القديمة إله الصاعقة والرعد، وأكبر الآلهة الأولمبية، وهو جوبيتر عند اليونان، دفع حب أبيه وولعه بالسلطة (غرونوس) أن يوصل به الأمر إلى ابتلاع أبنائه خوفاً من أن يأخذوا منه العرش والسلطة. إلّا أن إحدى زوجاته (ريا) قامت بتهريب ابنها زيوس ومواربته في جزيرة كريت بحجة أنه قد مات من المرض، وقد كَبُر زيوس بإشراف وتربية حوريات كريت وتلقيه الفروسية وفنون الإدارة حتى بلوغه سن الرشد مُجبِراً  والده على إرجاع إخوته الذين ابتلعهم، وبعد اخضاع الأب لمطلب ابنه القوي سرعان ما اندلعت حرب ضروس وتنتهي بانتصار زيوس وإخوته على الأب، وعرفاناً للجميل فقد أجمع الأخوة على تنصيب زيوس ملكاً أبدياً وكبير الآلهة.

المرأة الحرة القائدة لثورة روج آفا بهدف التغيير الجذري وليس بغاية إصلاح وترقيع، واعتمادنا اليوم على ثقافة الإلهة الأم في عقدنا الاجتماعي لا علاقة له بثقافة التوحيد الإلهي الذي نؤمن به. ومن الخطأ والتجني وربط تلك بذلك، ومن الصحيح القول بقناعة بأن التاريخ عملية مراكمة وليس مقص بهدف التجزئة والتشويه. وأن ثقافة الإلهة الأم ثقافة حصلت وحدثت وبها ابتدأ التاريخ ولغياب ثقافتها يعد السبب الرئيس للحروب والصراعات والدمار. وهذه هي المسألة وهذا كل ما في الأمر؛ خاصة حينما يتم على يد سبع قوميات وثلاث أديان.

…………………………………………………………………………………

*الدستور: مرادفة كردية ميدية استخدمتها ولم تزل الشعوب الآرية وتتألف من  كلمتين ده ست dest (اليد) و وار war (المكان). وتعني اصطلاحاً المكان المُدار من قبل الأقوياء.

زر الذهاب إلى الأعلى