ثقافة

من مهاباد إلى عفرين الحدث كما كان متوقعاً -2-

لم يكن الشعب الكردي يحلم يوماً ببناء دولة ذات سيادة بحدودٍ مسورة، بقدر ما كان صنديداً في الدفاع عن ترابه وتواقاً للحرية والعيش بسلام إلى جانب جيرانه من الشعوب الأخرى التي تشاطرت معه الحياة، والأمر سيان إلى يومنا هذا. نموذج كوباني شرارة مقاومة روج آفا وشمال سوريا مثال حي في حاضرنا، وما مقاومة العصر في عفرين اليوم سوى حلقة كبرى من حلقات الحلم الكردي.

في عام 1945 نزح أكثر من 5000 كردياً غالبيتهم  كانوا من الأطفال والنساء والمقاتلين البيشمركة من جنوب كردستان صوب شرق كردستان بعد انهيار ثورة البارزاني، فبعد هزيمته الأولى في عام 1935، نفيّ الملا مصطفى البارزاني إلى مدينة السليمانية من قبل السلطات العراقية والانكليزية،  لكن البارزاني ومع بدايات 1942 استطاع الفرار من هناك، وبدأ الحرب بين الشعب الكردي والسلطات العراقية المدعومة من قبل الحكومة الانكليزية والتي عينت الملك فيصل ملكاً على العراق، بطبيعة الحال لم يستطع القوات الكردية بقيادة البارزاني أن تستمر أكثر في الحرب التي لم تكن متوازنة قط من ناحية العدة والعتاد، لذا أضطر المقاتلين إلى ترك جبهات القتال والانسحاب من منطقة شمال هولير مع ارتفاع وتيرة القتال بين عامي 1943-1945 والذهاب بتجاه نواحي (شنو، نقاده، مرجَوَر) التابعة لمنطقة أورميّهِ. في تلك الأثناء كان الوفد الكردي في مدينة باكو يستعد للذهاب إلى تبليس “تبريز”. نائب جيفر باقروف يخبر قاضي محمد بـ:” ضرورة العودة إلى إيران بأسرع وقت، لأن مصطفى البارزاني قطع الحدود ووصل إيران، وكما نعلم بأن الانكليز قد أرسلوه، عليكم أوقفوا المحادثات وعودوا لمتابعة الأوضاع…”. من جانبه يّرد قاضي محمد  على المسؤولين السوفييت عن مجيء البارزاني ومن معه قائلاً:” إن كردستان ملك لجميع الأكراد..”.

 وهنا من الجدير بالذكر إن للكرد القادمين من جنوب كردستان دورٌ كبير في المجال العسكري خاصة في حماية حدود الجمهورية.

عاد القاضي محمد مسرعاً مع وفده إلى مهاباد، وعلى إثر ذلك يعقدون اجتماعاً حول محادثاتهم وجولتهم في باكو، ويقيمون نتائج جولتهم في مناطق شرق كردستان وإيران، وبعد نقاشات عميقة يتحدث قاضي محمد قائلاً:” لا مجال أمامنا لكي نكسب الدعم السوفييتي، يجب إن نُغيّر من تنظيمنا “كومله” إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني ….”.

 بالطبع تم الموافقة على ما قدمه قاضي محمد في ذاك الاجتماع الذي عقد في حديقة عزيز أغا وبحضور جمهورٍ كبير جاءوا ليعبروا عن مساندتهم وتضامنهم. من جانبه تحدث قاضي محمد إلى الجموع المحتشدة ، وبادر الجموع أيضاً إلى الهتاف قائلين:” نحن معك يابيشوى”.

لماذا خيار جمهورية كردستان؟

عندما يتم الحديث عن جمهورية مهاباد يبادر إلى الذهن، هل كان نظام الجمهورية خيار تلك المرحلة واستمرارية للنضال الذي بدء مع انتفاضة “سمكو شكاكي” والتي زرعت آمالاً كبيرة في أذهان وقلوب الملايين؟.

 يقول مناف كريم  وزير التعليم في جمهورية مهاباد: ” إن الاعلان عن جمهورية كردستان في الحقيقة كانت رد على الممارسات المستفزة والتجاوزات التي كانت تقوم بها جمهورية أذربيجان التي أصبحت دولة ضمن الاتحاد السوفييتي، وقيامها  بتعديات خارج حدودها حيث اعتبرت الحكومة الاذربيجانية شرق كردستان جزء من أذربيجان وعلى هذا الاساس بدأت بالتواصل مع الايالات في شرق كردستان والمجاورة لها لضمها إلى الدولة الاذربيجانية، وأرسلوا إلينا الدستور الاذربيجاني مرفقاً  بقرار “إنذار” يدعون فيه إلى إدارة كردستان كجزء من  دولة اذربيجان،  بالطبع عقد اجتماعاً بقيادة قاضي محمد بصدد هذه المسألة وبعد نقاش وتحليل لمجريات الاحداث  تفضل قاضي محمد بالحديث قائلاً:” من أجل الوقوف بوجه هذه التعديات وافشال هذا المخطط وتدخلات السوفييت، علينا أيضاً أن نقوم بترشيح وزرائنا، ونعلن عن دولتنا. وبالفعل تم الاعلان عن الجمهورية ، وبنفس اليوم تم الاعلان عن تشكيل الوزارة واعلن عن اسماء الوزراء، أغلبهم كانوا من مهاباد، ولعل أحد أسباب الاسراع بإعلان الجمهورية  هو عدم اتاحة الفرصة للحكومة الائتلافية الاذربيجانية”.

و يتابع كريمي في حديثه عن الوقائع التي حدثت في تللك الفترة:”  بالطبع في تلك الظروف الصعبة والامكانات المحدودة جداً كنا نواجه تحديات كبرى وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والتعليمية، وتوفير الخدمات الحياتية للشعب، بالطبع كانت هناك هيئة رئاسية ” المجلس استشاري الوطني”  والذي ضم العديد من الاغاوات والاقطاعيين والشخصيات  الأخرى المعروفة،  بالطبع كانت مهمة هذا المجلس بغالبيته يتركز على القضايا العشائرية والقروية، ومن جانبٍ أخر كانت هناك هيئة الاقليم  والتي كانت مهمتها الوقوف على قضايا وشؤون المدن، لكن القرار والسلطة كانت بيّد اللجنة المركزية  التي كانت تحت رئاسة بيشوى قاضي محمد وعلى عكس جمهورية إذربيجان فقد كانت جمهورية كردستان لها وزير الخارجية ووزير الدفاع” الحرب”، وهذا دليل على إنها كانت جمهورية مستقلة، أما بالنسبة لتبريز فقد كانت مرتبطة بالسوفييت على كافة الصعد، والأمر الأخر الذي يجب الاشارة به هو عدم وجود قوات حفظ النظام لإخافة الناس، لكن الحكومة في تبريز كانت حكومة شيوعية على غرار الحكومات السوفيتية السابقة، والتي كانت سبباً في عدم  القبول والرضى الشعبي عن هذه الحكومة،  ونتذكر نتائج تلك السياسات في تبريز ومهاباد بعد أيام من سقوط الحكومتين.

الصعيد الثقافي في جمهورية كردستان:   

  كانت هناك خطوات جدية على الصعيد الثقافي، خاصة وإن وزير الثقافة في جمهورية مهاباد كان ميرزا محمود ولي زادا، والذي ابتعد عن الميدان السياسي بعد سقوط الجمهورية، بالطبع كان ولي زادا شخصية أكاديمية في الثقافة والأدب، وهو من صمم شعار علم الجمهورية، ولحّن النشيد الوطني للجمهورية” أي رقيب”، وكان فناناً وعضو في أوركسترا الجمهورية.

إلى جانب النقلة النوعية الثقافية في الجمهورية ، كانت للمرأة دوراً بارزاً وعبرت فيها عن هويتها وكيانها، ولأول مرة  تتشكل الاتحاد النسائي الكردستاني في مجتمع غُلَب عليه الطابع الديني العشائري المنغلق، برئاسة مينا قاضي زوجة قاضي محمد رئيس الجمهورية،

 حيث كانت هناك ممثلات واعضاء عن كافة المكونات والأحياء في الاتحاد النسائي أمثال( كلثوم سلطانيان، ذيبا ايوبيان وكوبراعزيمي، خجيج مجدي)، كذلك كانت إلى جانب مينا قاضي، أحدى أهم رواد الحركة النسائية الكردستانية زكيا خان، أيضاً  والسيدة عصمت قاضي التي كانت لها باع في السياسية، وقد نالت غالبية الأصوات في أن تكون نائبة قاضي محمد بعد استشهاده.

بالطبع شكلة تلك المرحلة قاعدة لمرحلة جديدة بالنسبة لنضال المرأة الكردية على كافة الاصعدة.

 تبريز و مهاباد

 في تلك السنوات التي أعلنت فيها عن الحكومة الائتلافية(الملية) في اذربيجان كان هناك وفد من الكرد في تبريز، من جهة لم تكن هناك مساندة من الانكليز القوى التي كانت تسيطر على الشرق الأوسط ، ومن جهة أغمض الروس اعينهم وكانت مصالحهم هي الأولوية بالنسبة لعلاقاتهم مع شعوب وحكومات الشرق الأوسط والمنطقة عموماً، لكنهم كانوا يرغبون في مشاركة الكرد وتمثيلهم ولو شكلياً في تبريز، وأعربوا شفهياً عن رغبتهم في أن يكون الكرد جزء من هذه الحكومة، بالطبع كان الكرد والأذريين كالقمح بين حجر الرحى الصلب السوفييتي والإنكليزي، ناهيك عن الضغوط التي كانت تمارسها الدولتان، فقد كانت البنود التي تضمنتها دستور الحكومة التي اسستها السوفييت و بتوافق مع الإنكليز مجحفة بحق الطرف الكردي، الملا قادر المدرسي والذي يقول في هذا الصدد:” لم نكن نستطيع أن نعلن عن موقفنا أو موالاتنا لأي طرف بشكلٍ علني، فلوا أمدحنا بالانكليز مرةٍ في اعلامنا كان علينا أن نمدح السوفييت أيضاً لذا كان علينا أن نمسك العصا من منتصفه وأن لا نظهر عدائنا لأيٍ من الدولتين الكبيرتين،… تلك كانت سياستنا”.   بالطبع اليوم في روج هلات وروج آفا يستمر قضية آمال بيشوى قاضي محمد، في مثل هذه المراحل التاريخية التي يظهر فيها للعلن إصرار الكرد وبمحض إرادتهم على الحرية والديمقراطية، كما تتوضح نوايا الأنظمة المستعمرة والمحتلة، وتكشف النقاب عن  توحد طغيانهم وهواجسهم في وجه الشعب الكردي، ومحاولتهم كسر الإرادة الكردية وتدمير كل المكاسب التي حققها الشعب الكردي في الحرية والديمقراطية والتعايش الأخوي المشترك بين كل المكونات، بالطبع التاريخ يعيد نفسه فالعثمانية الجديدة ليست إلا تتمة للعثمانية السوداء والتي تاجرت بشعوب وتراب عموم المنطقة التي كانت ترزح جهلاً وفقراً تحت وطأة غبنها وغريزتها الجشعة.

دلبرين فارس

زر الذهاب إلى الأعلى