مقالات

مفاتيحنا شجر زيتوننا

المفاتيح كانت دائماً وأبداً بداية حلقة البحث، والخيط الواصل الممتد لتشرَّع الأبواب أمام آفاق جديدة في بحر الحياة الواسع، وتبدأ حكاية المفتاح بدورتيها المتناقضتين، فدورة على اليمين تطيح بالأقفال وتفتح الأفق، ودورة على اليسار تُصُدُّ كل خارجٍ وداخل، ولكنها لا تخرج من مكانها أبداً فهي مزروعة في الأرض شجرة لولاها لفقد المحتل اسمه أيضاً، وكما أعطته اسمها بدورة ستأخذه منه بدورة معاكسة.

ولأن لكل شيء مفتاح كان رقم هاتف ديمستورا يتمتع بتقليب مفتاحه بين هذا وذاك من دون أن يفتح أو يقفل، أي مفتاح بلا وظيفة .

بين عفرين وديمستورا خط مقطوع

ربما بكثير من الريبة تنتفض الصورة وتلقي بظل قبحها في وجه العالم من دون أن تصل الرسالة، الصورة كانت تُرِي العالم قبحها كداخل جرح ينزف دماً، كأرض فتح فيها موسى بضربة من عصاه شقاً ينزف منها الناس كسيل دمٍ سمِّيَ في العرف الدولي نزوحاً راجو بلبل ميدان أكبس جنديريس موباتو عفرين باسوطة جبل الأحلام براد عقيبة الزيارة الشهباء وثم إلى أين؟ لا طريق إلّا إلى عفرين، هكذا تكتمل الدورة .

الهاتف يرن

كان الهاتف يرن تارة بنحيب يرمي في حلكة الليل جثة طفل في الطريق، وتارة بموسيقى سيرياتيل التي تنبئ بصمت الآخر، الهاتف يرن ومع كل نغمة رنين قصة لخثرة دموية تقف في الحلق كذبحة في المعراج بين عفرين وجبل الأحلام، خثرة بشرية اختنق بها طريق الهروب والانكسار.

نظر الكهل خلفه كانت عفرين في الأفق فراشة بأجنحة تحترق ويتصاعد من ألوانها دخان الصراخ والصمت في آن، سقط الإبن الجريح وهو يفقد دماءه التي أبت أن تفارق المشهد فتحولت لبقعة لون أضافت للوحة صوتاً خافتاً آخر، صرخ الطفل عطشاً نظرت الأم وراءها وكانت عفرين شرشفاً أبيضاً غطى الجثة الممدة على التلة الخضراء والسهل الممزق بين ضفتين.

زيتوناً كان السهل ويمد اصبعه إلى جنديريس وجومي ليختفي الصوت لبرهة ويعود صراخ الطفل عطشاً تنظر الأخت خلفها سد ميدانكي وبحيرتها كانتا تمزقان البصر.

رن الهاتف فجأة وورفع ديمستورا موبايله وردد الآخر عدة مرات ألو ألو ألو تردد الصوت في رواق الأمم ولكنه لم يصل للأسماع وظل الصوت يردد “ألو عم تسمعني” ومن ثم اختفى الصوت بينما كان يتردد في أروقة الله صوت انفجار قوي رد ديمستورا ألو ألو ولكن اختفى تماماً صوت من كان على الطرف الآخر .

فتاة تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً تغطي وجه أمها  بشالٍ عسى أن تحميها من قطرات المطر، ترفض الأم وتقول دعيني ألقي النظرة الأخيرة على عفرين، عفرين جسد لا يحتضر ومصلوب على مذبح العالم، أما قطرات المطر فقد انضمت لأخواتها الدموع التي تذرف من عين الأم، كلاهما كان مطراً، كلاهما كان دموعاً كلاهما كانا يتحدان مع دم الشهداء المُراق على جسد عفرين الرافض للاحتضار .

بعد حين حمل ديمستورا هاتفه ورن الهاتف على الطرف الآخر أجاب الجندي التركي في إدلب من أنت وماذا تريد ولم يكن من ديمستورا إلَّا الإجابة أنا استيفان ديييـ أغلق الجندي التركي الهاتف ملقياً إحدى ساقيه على ظهر الجولاني والأخرى على رأس المحيسني بينما الفصائل كانت تُعِدُ كوبَ شايٍ للجاويش التركي، بقي صوت الرنين الفارغ للهاتف في أذن ستيفان ديمستورا طويلاً وهو يذرف الدموع على الضحايا المدنيين في إدلب إذا ما احتل النظام السوري أرضه في إدلب ترافقه الطيور المعدنية للسلافيين ويضطر التركي المحتل في إدلب مع إرهابه للخروج من أرضه .

هذه قصة طويلة بدأتُها من منتصفها ولم أنتهِ في أولها وكل المحاولات للخطف خلفاً خطفتْ مخيلتي لأم الشهيد التي تركت زيتونها عرضة لليباب جسداً وهي مازالت تسقي حاكورة بيتها في القرية وتتحد بدم ابنها الشهيد تحت ظلال الزيتون روحاً وهي تحت خيمتها في الشهباء تُعِدُّ الدقائق والساعات لقرع طبول العودة والانتقام .

لا بد لهذه الأم أن تتلقى الكثير من الاتصالات والتي لن ترد عليها إلّا ببصقة في الوجوه المتخاذلة والكاذبة أممياً ومحلياً قالتها لي بإصرار: سيأتي ذلك اليوم قريباً، فنحن لم نحمل مفاتيح بيوتنا إلى منفانا كالفلسطينيين، مفاتيحنا مزروعة في عفرين، مفاتيحنا أشجار زيتوننا .

زر الذهاب إلى الأعلى