مقالات

محرقة الكِباش في سوريا

يقول أوجلان في كتابه (دفاعاً عن شعب) التي انتهى من تقديمها إلى محكمة حقوق الإنسان الأوربية في نيسان 2004: (إذن، والحال هذه، لا يتوافق وضع ولادة الدولة في أساس التاريخ، كضرورة لا بد منها، مع الظواهر الواقعة. التعريف الأصح للدولة هو اعتبارها أداة إدارية وقمعية، وأداة للاستيلاء على إمكانيات فائض الإنتاج بالأرجح. وهي حينما تفعل ذلك، إنما تستخدم مسائل الإدارة العامة والأمن العام كأداة تمويه وترقية وتعزيز. وبما أنه من السهولة بمكان تأمين الإدارة العامة – المصالح المشتركة للمجتمع – والأمن العام عبر المجلس الديمقراطي؛ فإن التثبيت الهام الذي يواجهنا هنا هو النظر إلى مسألة استغلال هذه الفرصة بعين الاستيلاء والثورة المضادة، أكثر منه ضرورة لا غنى عنها. بالمقابل، فتعريف القوة الفارضة نفسها بالتذرع بأعمال الأمن والمصالح المشتركة للمدينة – والتي يمكن تلبيتها عبر الديمقراطية – بأنها قوة متزمتة ومستبدة ومستأسدة؛ إنما هو تعريف واقعي. حتى في راهننا، لا يذهب الساسة وقوى الأمن – الفائضون عن الحاجة – أبعد من اكتساب الخصائص الاستبدادية، نظراً لبطالتهم. من الجوهري تقييم هذه القوة بالعبء الزائد عن الحاجة، والمتربع على القيمة الزائدة. والمجريات الحاصلة في بداياتها ليست مختلفة كثيراً عن ذلك من حيث المضمون…

ونخص بالذكر تعريفَ السلام الذي يتطلب مثيلَ الجهود الدؤوبة العظمى لميشيل فوكو، والذي لا يمكنه اكتسابه تعبيراً مجتمعياً مقبولاً إلا بهذا المنوال. وأيةُ إضفاءاتٍ أخرى للمعنى عليه، فلن تتولد عن تعبيرٍ أبعدَ من أنْ يَكُون فخاً منصوباً باسم كلِّ الجماعات والشعوب، واستمراراً لحالةِ الحرب بأشكالٍ مغايرة مستورة ومخفية. وإذا ما عَرَّفناه مرةً أخرى، فالسلام لا يعني زوالَ حالةِ الحرب كلياً، ولا حالةَ استتبابِ الأمن والاستقرار وغيابِ الحرب تحت ظلِّ تَفَوُّقِ طرفٍ واحد. ثمة أطرافٌ عديدة في السلام. وتَفَوُّقُ طرفٍ واحد ليست موضوعَ حديث فيه، ويجب ألا يَكُون. كما ينبغي إسكاتَ صوتِ السلاح على أساسِ رغبةِ المجتمع، وبموجب آليته الأخلاقية والسياسية الذاتية المؤسساتية. هذه الشروط الثلاثة هي أرضيةُ السلام المبدئي. ولن يُعَبِّرَ السلام الحقيقي عن أيِّ معنى، ما لَم يستند إلى هذه الشروط المبدئية).

ما يلزم سوريا هو المطلب المجتمعي ذاته الذي يلزم الشرق الأوسط برمته. مطلب السلام والاستقرار. كما أن السلام عصيٌّ أن يحل فيما لو لم يتم انفتاح ذاتي على مجمل القضايا التي تعانيها الشرق الأوسط؛ سوريا بشكل كبير، على أن يكون هذا الانفتاح بشكل كبير أيضاً متعلق بالنسبة للأطراف المحلية؛ أطراف الحرب. فإنها نفسها أطراف للسلام. لكن سوريا باتت العقدة. وعلاوة على أنها ذلك فقد باتت بأكبر (مشجب جغرافي) لأعقد القضايا الإقليمية والدولية التي لم تعد تقبل التأجيل. والصراعين الإقليمي والدولي في سوريا المختلط والصراع المحلي عليها ومنها باتت بحلبة للحرب، وأنها بالضبط الحرب العالمية الثالثة بالشكل الذي تشبه نفسها هذه الحرب، وتشبه بالآن ذاته الوسائل والآليات وأيضاً النتائج التي تنتظرها. وإنه ليبدو الحديث هنا من هذه الفترة عن الحل للأزمة السورية مجرد الحديث؛ وفي أحسن أحواله. إذْ لا حل قريب ولا في الوقت المتوسط بأنه يدنو، وقد نسفت التدخلات الإقليمية بشكل خاص الاحتلالات التركية لمناطق في شمال سوريا كل امكانية حل سوري؛ بخاصة بعد احتلال تركيا لعفرين وارتكابها الجرائم الحربية؛ الجرائم ضد الإنسانية الواحدة تلو الأخرى. العدوان التركي في 20 يناير كانون الثاني المنصرم. حتى احتلالها ورفع العلم التركي في مركز المدينة؛ وما بينهما من جرائم؛ تفيد بنود توصيف الجرائم في وثائق روما والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن بأنها هي الجرائم: استخدام غاز الكلورين. تدمير البنية التحتية. هدم الآثار. المبالغة في استخدام فائض القوة بغية ترويع المدنيين. تهجيرهم. واليوم ترتكب تركيا جريمة حرب أخرى في إحداث تغيير ديموغرافي بهدف التطهير العرقي لشعب عفرين. لا نغالي حينما نقول بأن من عفرين بدأت المرحلة الأشد خطورة في سوريا والمنطقة. فقد حدثت احتلالات تركيّة سبقت احتلالها لعفرين ولم تنعكس بالشكل الذي حدث فيما يقابله من عفرين. في عفرين تم تسديد ضربة ثلاثية؛ بالتسلسل: تركية، روسية، إيرانية إلى مجتمع يدر نفسه بنفسه بشكل ديمقراطي مدني وأفشل كل المحاولات أن يتحول إلى حاضنة للإرهاب، من خلال أكبر قوة رمزية ضد الإرهاب: وحدات حماية الشعب والمرأة التي برزت كقوة منظمة لحماية المجتمعية واستقرارها وسلمها ضد الإرهاب والاستبداد، وكانت ولم تزل هذه القوة ذات النصيب الأبرز في تحرير مدن أنّت تحت وطأة الإرهاب الداعشي كما في الرقة وكوباني ومنبج، وكما في اليوم في حملة عاصفة الجزيرة التي بدأت العام الماضي وتوقفت بعد العدوان التركي ومرتزقته على عفرين وبدعم روسي كبير؛ لم يكن ليحدث هذا العدوان والاحتلال لو لم تعطي موسكو الضوء الأخضر مخالفة جميع الاتفاقيات التي صارت ما بينها والإدارة الذاتية الديمقراطية في روج آفا وشمال سوريا؛ يضاف إليها الاتفاقيات العسكرية ما بين موسكو ووحدات حماية الشعب آخرها فيما يتعلق بشرقي الفرات. لكن موسكو قدمّت النموذج الأسوأ للعلاقات من خلال الإخلال المتعمّد لتلك الاتفاقيات التي باتت ممزقة برصاص الاحتلال التركي. وحينما نقول بأن تركيا -بشكل خاص من رعاة الآستانات الثمانية- باتت كمن يزرع البارود في كل الشرق الأوسط؛ فنعنيه مثالاً وبشكل أكثر دلالة في الجمع الرهيب لكل الإرهابيين في سوريا إن لم نقل في العالم؛ وحشدهم في إدلب. تركيا جمعت كافة الإرهابيين وأولتهم بالرعاية الكافية على أرضها لتحطيم الحراك الثوري السوري من بعد زجهم إلى سوريا. وهنا فقد رأت تركيا في المسخ الذي يسمى بالائتلاف آلة تجميل لهؤلاء. تبنتهم الائتلاف؛ وتبّنى هؤلاء الائتلاف. كل الإرهابيين موجودين اليوم في إدلب؛ إلى جانب شعب إدلب ومدنييها. وما سيحصل بعد محرقة الكباش في سوريا؛ لا ينتظر إدلب إلّا المحرقة.

لمحرقة الكباش في سوريا عناوين وتفاصيل وأوقات. وأمّا انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني؛ كان من المفترض أن يكون بتاريخ 12 أيار؛ لكن تم تقديمه  أربعة أيام. سمة الشرق الأوسط كانت في التأجيل؛ اليوم بات كل شيء ينله التقديم. الجميع يشتري الوقت. الجميع يباغت. الجميع في الحرب. تعددت التفسيرات حيال هذا الانسحاب؛ لكن يبقى التفسير الذي يفيد نفسه بشكل كبير بأنه بمثابة البحث عن الاتفاق الجديد؛ فصاحب البيت الأبيض لا يرى ربحاً في هذا الاتفاق؛ ولا يقتنع بأن يكون هو الطرف الأساسي في هذا الاتفاق وأن تكون الأطراف الأخرى هي من تستفيد. وخاصة موسكو ومن ثم أوربا. الأخيرة لن تجد نفسها في نهاية الأمر سوى في صف واشنطن. والمواقف الرسمية التي صدرت إبان إعلان قرار الانسحاب يشي بشكل كبير إلى أن سياسة توزيع الأدوار ضمن الفريق الواحد أو الفرق المجتمعة؛ معمول بها. لا يهم أن تكون هذه المواقف مختلفة أو تأتي بشكل مخالف؛ تأتي منسجمة في المشهد الكلي للوحة الواحدة. والصورة الواحدة. ويأتي موقف اسرائيل الداعم للانسحاب، كما تأتي ثلاثة هجومات قامت بها في شهر واحد على مواقع إيرانية في سوريا؛ ضمن هذه اللوحة. روسيا وحتى النظام يجدون أنفسهم في تحالف جديد بمنأى عن التحالف القديم وإيران الذي بات التحالف معه بالقديم. تحالف آستانا المدمر بات كله في معرض الاستعصاء ومن العصي عليه أن يجد نفسه بالمستمر. تشير الاحتمالات المرجحة كما حالها في مثيلاتها البراغماتية؛ بأن موسكو وأنقرة والنظام إلى درجة كبيرة أنْ ترى بأن طهران باتت بالحمل الثقيل في السفينة السورية المتصدعة أساساً، وبشكل كبير للتحالف الأكثر تناقضاً ما بين الثلاثي أنقرة وموسكو وطهران. النظام السوري الذي يرى بأنه استعاد بعض من عافيته؛ لكن حتى استعاد هذا؛ كان على حساب خسرانه في النفخ في قربة القوموية. ونحن نعيش في زمن المزاودة القومية والشحن القومي؛ والخطاب الشعوبي الهالك. وفيما لو اندلعت حرباً ما؛ من نوع ما؛ ما بين اسرائيل وإيران، لتجد متحالفي الأمس إلى جانب الخصم. هذه مشيئة من لا يرى في السياسة وفي الدول بأنها ليست سوى بالمصالح وليست بالجمعيات الخيرية؛ أقسى أنواع التحريف والزيف وممارسة منطق الدوغما والبراغماتية المحضة. هكذا تتآكل الدول وتنهار. وتتسطح البلدان وتتعطب العواصم طالما تحتكم إلى هذه الأفكار المشطوبة. من المهم الذكر هنا بأن احتمالية هذه الحرب تبقى بالقائمة في حال لم تتحقق دواعي هذه الحرب وأهدافها؛ لكن وفي الوقت نفسه يبدو بأن المشهد الاقتصادي الإيراني المتهافت ليس من الضرورة أن يّذكرنا بمشهد سقوط طهران الشاهنشاه 1979 بما شهدته من انكماشات اقتصادية حادة.

تركيا من إيران

الدولة المارقة بالأساس هي تركيا. وإذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يرى في أن طهران خدعت العالم وبشكل أكبر الدول الخمسة زائداً واحد الموقعة لاتفاقية النووي الإيراني قبل ثلاث سنوات. فإن تركيا هي المخادعة الكبرى. وهي التي ساهمت بالالتفاف على القرار الأممي بفرض العقوبات على إيران. وقضية المتهم فالشاهد رضا ضراب في ذلك مثال واضح. لكن القضاء الأمريكي في هذه القضية ينتظر أن يفتح الباب السياسي الأمريكي. وقتها تركيا تجد نفسها مُدانة بحوالي 600 مليار دولار أمريكي. وهذا ما يجعل من العملة التركية واقتصادها بشكل عام أن لا يقل انهياراً عما يحدث في الجار اللدود إيران. جارين عدوين يتحركان سوية أو يوعز لهما بالحركة المتشابهة. ثورة إيران 1979 بعلاقة مع الانقلاب العسكري التركي في العام 1980. وقس ذلك على ما حدث في كلا البلدين من متواليات وأحداث. بالأساس كان للقوة التنويرية الناهضة في أوربا العصر الحديث أن تحجم كلا من الامبراطورتين الصفوية والعثمانية؛ لكن قامت ومن باب توزيع الأدوار بمساعدتهما كلاً على حدا. وتركيا اليوم وفق نظامها الاستبدادي لا شك بأنها تتلمس عنقها هذه المرة أيضاً بعد خطوة الانسحاب الأمريكي من النووي الإيراني الذي لن يكتب له الولادة. وتركيا ترى أن مياه التغيير يصل إلى ذقنها، وتجري بشكل سريع من تحت أقدامها؛ بخاصة إذا ما أدركنا بأن الشعوب في تركيا كلها ترفض سياسات أردوغان إنْ الداخلية أو الخارجية أو الإقليمية كما حدث في احتلال عفرين. أوربا الهرمة؛ بالرغم من أن خطواتها بطيئة لكن إقدامها على خطوة رفض قيام حزب العدالة والتنمية بممارسة الدعاية الانتخابية في أوربا له مدلولات كثيرة أهمها أنها ترفض هذا النظام. لكنها تبقى خطوات بطيئة. ولكن ليس من السهولة لتركيا أن تجد من يملئ الفراغ الذي يتركه من فض الشراكة مع إيران. تبعيات خطوة الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي باتت بمثابة اقتلاع ظفر كبير من أظفار تركيا. وتركيا أردوغان أمامها ما ينتظرها أضعاف ما هو الموجّه اليوم على إيران. وخروج تركيا من عفرين هو المحتمل الأكيد. لا بل أن انكفاء تركيا من سوريا هو الهدف الدولي والإقليمي إذا ما أُريد لسوريا أن تبقى وأن يكتب لها النجاة في ظل هذه العواصف التي تضرب العاصمة تلو الأخرى. وفي ذلك فإن مشروع الإدارات الذاتية الديمقراطية؛ مضمون وصيغة الاتحادية الديمقراطية وكل صيغة فيدرالية؛ يبقى من خلاله الحل وبه يتشكل الأمن والاستقرار في سوريا وفي إيران وفي تركيا وفي كل منطقة في الشرق الأوسط تريد أن تتعافى تحت سهام الدولتية القومية المركزية. يصبح اليوم وفي المستقبل القريب بشكل كبير آفلاً لا محل له من المجتمعية الشرق أوسطية. يطول بعض الشيء؛ لكنه بات أشبه بالمصير.

زر الذهاب إلى الأعلى