ثقافة

كنوز البلد

الكنز هو مجموعة من المواد والأشياء الثمينة تكون عادة مخبأة أو مدفونة في مكان ما.

وكلمة الكنز في اللغة الكردية تعني (xizne) وفي اللغة العربية تعني (تجمع في شيء)، والكلمتان (الكردية والعربية) متطابقتان من حيث المفهوم والمعنى.

ويعرَّفُ الكنز في علم الآثار على أنه اكتشاف لقطعتين أثريتين على الأقل في مكان واحد.

هذه المكتشفات التي تعبر عن الإرث الثقافي والحضاري للأمم الغابرة الضاربة القِدَم في التاريخ تُعتَبَر كنوزاً ليست لقيمتها المادية؛ بل للمدلولات التي تدل عليها وبما نستدل عن طريقها على هذا الإرث المادي والمعنوي والحضاري منذ تاريخ وجود الإنسان وعلاقة الحضارات بعضها ببعض بعد إجراء الدراسات عليها.

ففي البلدان الغربية المتحضرة يُسخّرون الكثير من العقول والأموال لذلك، ويهتمون كثيراً لهذه القضايا ويستميتون في الحصول عليها ويشكلون فِرَقاً من الاختصاصيين للبحث والتنقيب عن هذه الكنوز الأثرية الدفينة التي تدل على تلك الحضارات والتي لا نعرف عنها شيئاً إلا عن طريق ما تركته لنا يد الإنسان في ذلك الوقت فيُسخّرون الكثير من الطاقات في سبيل ذلك.

غالباً عندما نرى أو نقرأ كلمة الكنز يخطر في بالنا شيء ثمين ونفيس وغالِ الثمن من (وجهة النظر المادية) ولكن هذه المفردات لا قيمة لها عند العقول النيِّرة إذ إن العلم والمعرفة بالأشياء تأتي في أعلى درجات الإنسانية المتحضرة عن طريق قراءة الماضي والحاضر والمستقبل، وبه نستدل على ثقافة وحضارات أمم مدفونة تحت التراب وفي مكان ما من هذه الأرض التي نعيش عليها، وهذا المكان إما أن يكون نتوءاً بارزاً عن سطح الأرض أو تلاً من هذه التلال المتناثرة والتي تزخر بها روج آفا وشمال سوريا.

حيث تشير الدراسات التنقيبية أن هذه التلال تخفي في باطنها حضارات أقوام مضت تعود إلى آلاف السنين، وتشير أيضاً إلى أن تلك الحضارات مرتبطة بعضها ببعض منذ ذلك الوقت إلى وقتنا الحاضر بل أن بعض الدراسات تشير إلى أن في تلك الحقبة كانت الحضارة تتفوق على حضارتنا في القرن الواحد والعشرين رغم التكنولوجيا الحديثة التي تتمتع بها هذا العصر، وكل ذلك مدفون ومخبأ في باطن هذه التلال المبعثرة على أرض روج آفا ففي جوف كل تلة حكاية ثقافة وحضارة تختصرها تلك الرموز المنقوشة على الخواتم واللُّقى والرُقم؛ وتشير الدراسات إلى أن ما تم اكتشافه من لقى وسويات أثرية في التلال التي تعمل بها البعثات الأثرية الأجنبية يشكل جزءاً بسيطاً مما تزخر به روج آفا والشمال السوري من كنوز أثرية نفيسة، الأمر الذي يستوجب تكثيف العمل.

فمن هنا كان لا بد لنا من إلقاء الضوء على هذه التلال ضمن سلسلة من الحلقات في صحيفة الاتحاد الديمقراطي وبما تتاح لنا من الفُرَصِ التي ترتبط  بتسارع الأحداث في منطقتنا الملتهبة بالحروب الظالمة على مناطق روج آفا.

من هذه التلال التي أردنا أن نسلط الضوء عليها اليوم هو(تل عربيد)؛هذا التل الذي بحق لم نكن نعلم ما يخفي بداخله من كنوز حضارية وإرث ثقافي لولا هذه الدراسات التي قامت بها فِرَقُ التنقيبِ والبعثات الأوربية (البولونية).

تل عربيد ذلك التل الشامخ شموخ الشمس؛ المترامي الأطراف يحكي آلاف القصص والحكايات بصمت الكبرياء.

في علم الآثار مصطلحات عديدة كـ (اللُقى- السويات – الرُّقيم)

ولا بد لنا من توضيح معاني هذه المفردات ودلالاتها للتسهيل على القارئ فهم هذه الدراسة

اللُقى: آثار حجرية من الفخار كــ الجِرار والكِسَر الفخارية

السوِيَّات: تشمل عدة طبقات أرضية أو فترات الاستيطان

الرُّقيم: ألواح مسمارية تعود إلى الفترة الأكادية

إن عدد المواقع والتلال تفوق الـ (1200) وكلمة الموقع تشمل التل والموقع وليس بالضرورة أن يكون التل موقعاً؛ لذا استخدم مصطلح الموقع على تل عربيد في هذه الدراسة.

يقع تل عربيد الأثري في الجنوب الغربي من قامشلو بمسافة ما يقارب الثلاثين كيلو متراً بمحاذاة الطريق الدولي من جهة اليسار وأنت تتجه إلى الحسكة من قامشلو.

يعد موقع تل عربيد الأثري في روج آفا الذي يعود تاريخ التقنيات الأثرية فيه إلى العام 1936 وهو أحد المواقع الذي عمل فيه عالم الآثار(ماكس مالوان) واتضح من المكتشفات أن هذا الموقع كان مدينة هامة في الفترة بين أواخر الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد ثم اتبع تلك التنقيبات

من قبل البعثات البولونية بعد أربع سنين من العمل عليه عن طريق الأقمار الصناعية والمسح الجيولوجي والضوئي.

يقول محمد بغدي مدير الآثار والمتاحف السورية سابقاً:

بدأ التنقيب في الموقع عام 1996 مجدداً وخلال عشرة مواسم من التنقيب المتتالي تمكنت البعثة من وضع التسلسل التاريخي للاستيطان في الموقع حيث أاكتُشفت في الجهة الشرقية من التل وعلى بعد 600 متر مستوطنة تعود إلى فترة حضارة (تل حلف)

بينما تعود أقدم الفترات التاريخية المكتشفة في الموقع إلى فترة (نينوى)

وتشتهر هذه الفترة بالفخار المحزوز بشكل دقيق وأكدت نتائج العمل التنقيبي أن الموقع كان مستوطنة ضخمة في تلك الفترة وصلت مساحتها إلى حوالي عشرة هكتارات وتم العثور فيها على مجموعة نادرة من الأواني الصغيرة وأشكال من أثاث المنازل ودُمى بأشكال إنسانية ومع نهاية الفترة الخابورية توقف الاستيطان البشري ضمن الجزء الرئيسي من الموقع لينتقل مركز الاستيطان في الفترة الميتانية إلى تلة ثانوية واقعة إلى الغرب من التل الكبير حيث استخدم التل الرئيس كمقبرة اكتشفت فيها العديد من اللقى الأثرية منها(اكتشفت هذه البعثة المشتركة مدفناً ملكياً يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد وعُثِرَ بداخله على هيكل عظمي لمرأة يرجح أن تكون أميرة إذ وُجِد بجانب الهيكل كنز كبير عبارة عن 360 قطعة أثرية ذهبية وثلاثة عقود من الخرز تلبس في العنق) وكلها تعود إلى الفترة الميتانية وبعد هذه المرحلة هُجِّر الموقع وتوقف الاستيطان فيه.

أما في الجزء الشمالي من الموقع فعثر فيه على مقبرة تعود إلى فترة الحضارة الهلنستية عثر فيها على لقى جنائزية مصنوعة من المعادن وجزء من مبنى في الجهة الجنوبية من الموقع تم العثور فيه على العديد من المنشآت المعمارية التي تعود إلى تلك الحضارة منها منشأة ضخمة مبنية من اللِبِن وظيفتها غير معروفة عثر في إحدى غرف هذه المنشأة على 300 طبعة، وفي الزاوية الشمالية الشرقية من الموقع كشف عن جزء من بناء محفوظ بشكل جيد يعود إلى فترة نينوى المتأخرة وهي عبارة عن مجموعة أبنية سكنية ومنشأة معقدة التكوين منتشرة على جانبي شارع ضيق، وتم اكتشاف منصة ضخمة بأبعاد (12×20) متراً مبنية من قطع اللِبِن في الجهة الجنوبية من الموقع تعود إلى نفس الفترة.

تشير الدراسات أيضاً إلى أن الاستيطان بدأ مجدداً في موقع تل عربيد خلال فترة السلالات الباكرة الثالثة أي حوالي العام 2550 قبل الميلاد وتركز الاستيطان في هذه الفترة عند قمة التل حيث اكتشف جزئ من بناء ضخم مؤلف من سبع غرف ذات وظيفة إدارية محفوظة بشكل جيد والجدران الخارجية للبناء مسنودة بدعامات وتحت المبنى العام كشف عن بناء قديم جداً محفوظ بشكل جيد يعود إلى فترة السلالات الثالثة الباكرة وفي الجهة الشرقية من قمة التل كشف عن مبان مؤلفة من عدة غرف تعود إلى نفس الفترة كما كشف عن مخلفات استيطانية فقيرة وبكميات ضئيلة تعود إلى الفترة الأكادية وما بعد الأكادية في الجزء الشمالي  الغربي لقمة الموقع ومنتصف الجزء الشرقي من التل مما يدل على وجود ازدحام سكني في مستوطنة تل عربيد في تلك الفترة.

وفي نهاية الألف الثاني قبل الميلاد بدأت في الموقع فترة الحضارة الخابورية التي دلت عليها السويات الأثرية المكتشفة وفي الوقت الحاضر يصعب تحديد مدى حجم المستوطنة حيث دُمِّر القسم الأعظم من السويات الأثرية التي تعود إلى تلك الفترة في قمة التل بسبب حفرة تعود إلى فترة أحدث ولم تكتشف سوى أجزاء بسيطة من البيوت وبعض القبور المقببة، وعلى ما يبدو فإن الاستيطان استمر في الموقع ولكن بشكل صغير وثانوي حتى نهاية الفترة الرومانية ثم توقف بعد ذلك بشكل نهائي.

يذكر أن البعثة البولونية السورية عثرت خلال أعمالها التنقيبية في العام 1996 على أجزاء من أبنية دائرية الشكل (تولوس) تم العثور بداخل هذه الأبنية على مجموعة من اللقى الفخارية العائدة إلى حضارة تل حلف وشملت نتائج أعمال هذه البعثة التعرف على أجزاء من منشأة معمارية احتوت على عدة قبور تعود إلى فترة نينوى إضافة إلى مدفن احتوى على هيكل عظمي وعدد من اللقى الجنائزية تعود إلى الفترة الخابورية.

أما البعثة البولونية فجاءت دراستها على الشكل التالي:

منذ عام 1996، تم القيام بحفريات في موقع تل عربيد ونتائجها أدت إلى استنتاج لا شك فيه أن الفترة الأكثر ازدهارا في أربيد القديمة كانت في الألف الثالث قبل الميلاد لعثورنا على أطلال مدينة واسعة يرجع تاريخها إلى فترة (نينيفيت 5) تغطي تقريبا كامل الموقع.

تتألف هذه المدينة من الأحياء المحلية، ومناطق النشاط المنزلي والمناطق التي يفترض أن تكون ذات طابع رسمي ومقدس؛ وتم العثور على آثار تسوية (نينيفيت 5) في كل خندق تقريبا.

أيضا في الفترة إد الثالث، كان معظم الموقع منطقة استقرار كثيفة؛ وهناك هيكل ضخم مع الدعامات، المسمى “المبنى العام”، ويعود إلى تلك الفترة؛ وتقع في الأعلى جداً من التل الرئيسي، وهو ما يجعلنا نقول: يجب أن يكون المسؤول ويفترض أن يكون الإدارية والوظيفية.

بعد فترة إد الثالث تقلصت المساحة المستقرة بشكل كبير وبقايا الفترة الأكادية هي الأكثر هدوءً والحفاظ عليها، إلا في عدد قليل من الأماكن في الموقع، وهي على أية حال تشمل مبان ذات جودة عالية ووفرة من السفن الكاملة.

تم إثبات آثار احتلال العصر البرونزي المتأخر (فترة ميتانيان). وقد تم الكشف عن بعض المنازل ومقبرتين غنيتين جداً من هذه الفترة، مما يشير إلى أن نخبة مزدهرة بشكل جيد سكنت موقع تل عربيد في تلك الفترة.

بعد فترة ميتانيان كان هناك انقطاع في الاحتلال (الاستيطان) حتى العصر الحديدي مع بعض المستوطنة البابلية الجديدة، ومن هذه الفترة تم العثور على عدد قليل من الهياكل ذات الطابع المحلي، ورافقها بعض الاكتشافات الصغيرة مثل الأختام (أسطوانة وختم)، وتأتي آخر آثار الاستيطان على موقع تل عربيد من الفترة الهلنستية على الرغم من أنه كان من نوع المزرعة، فإنه يمثل فترة من الاستقرار والرفاه، كما يمكن الحكم عليها من بقايا المعمارية الصلبة، والمقابر الغنية والمكتشفات الصغيرة الثمينة، وحتى الآن لم نشهد المستوطنات الهلنستية إلا في مكانين على الموقع.

يتم عرض النتائج حسب القطاع في النظام الطبقي من الأحدث إلى الطبقات الأولى.

التسلسل الزمني:

تاريخ تأسيس الموقع غير مؤكد وهناك بعض الآثار الهزيلة من الاحتلال (الاستيطان) تل حلف في الغالب خارج الخط الرئيسي، ولكن أقرب آثار الاستقرار أنشئت من العصر البرونزي المبكر، وقد احتل الموقع طوال العصر البرونزي، وهو يوفر تسلسلاً سيراميكياً لكل ما يقرب من إبا منذ فترة نينيفيت 5 (أي أوائل الجزيرة I-إي)، من خلال فترات عصر السلالة الأولى (إج 3) والأكادية (إج 4)، وعلى الرغم من أن الاحتلال من فترة ما بعد الأكادية تم إثباته ما زلنا لا نعرف الكثير عن طابع الانتقال إلى العصر البرونزي الأوسط.

تسلسل السيراميك متاح أيضا للألفية الثانية قبل الميلاد، ويمثل ماجستير في إدارة الأعمال في الغالب من قبل فترة الخابور ويُرى بقايا (مب إي) ولكن تم أيضاً اكتشاف بعض ريليتس من مب إنا أيضاً.

الانتقال إلى العصر البرونزي المتأخر ليس واضحاً جداً، ولكن آثار تسوية فترة ميتانيان واضحة، وبعد(لبا) كان هناك انقطاع في الاحتلال حتى العصر الجديد البابلي في العصر الحديدي ويعود تاريخ آخر مستوطنة إلى الفترة الهلنستية.

أياً تكن هذه الدراسات فكلها تتقاطع في نقطة واحدة وهي أن هذه التلال تحتوي بداخلها كنوزاً من الحضارات وإرثاً ثقافياً لشعوب سبقتنا في العيش على هذه الأرض وتركت لنا آثارها لنستدل بها على أننا ما زلنا استمرار لوجودهم في هذه الحياة وتربطنا أمور كثيرة وهناك الكثير من الأشياء المشتركة بين تلك الحضارات وحاضرنا الذي نعيشه حيث توارثنا الكثير من العادات والتقاليد من تلك الحضارات ونحمل الكثير من صفاتهم الوراثية، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أننا أصحاب هذه الأرض منذ القدم وبيدنا صك قانوني ممهور من الطبيعة والجغرافيا والتي لا يمكن نزع هذا الصك منها مهما تكالبت علينا الدول المغتصبة وحاولت تدمير تراثنا.

هذه المواقع الأثرية المكشوفة في العراء والملقاة على أكتاف التلال رغم مرور آلاف الأعوام عليها هي أماكن لا تقدر بثمن إذا أحسنّا استخدامها في جلب السياح وبناء المنتزهات القريبة عليها والإعلان عنها في كل وسائل إعلامنا المقروء والمسموع والمرئي فإنها ستعود بالنفع العظيم على كل الشمال السوري، وما تفعله الدولة البربرية التركية الآن في قصفها لعفرين وتدمير البشر وتلك الحضارات والثقافات التي تحمل في صدورها منذ ذلك الوقت إلى وقتنا هذا هي من قبيل ذلك

وما محاولة أردوغان التغيير الديمغرافي في عفرين وقتل وطرد ساكنيها وتدمير كل ما هو متعلق بهذا التراث إلا لطمس هذه الحضارة، ولكن مُحال أن تتأثر تلك الصكوك المُقدَّمة من الطبيعة الإلهية وأن تتلاشى أمام جنون أردوغان ومرتزقته الماورائيين ومن دروس التاريخ نعرف جيداً أن الطغاة ذاهبون وتبقى الشعوب والحضارات رغم أنوف هؤلاء وسيذهب أردوغان ومرتزقته إلى مزابل التاريخ وستبقى عفرين شامخة بآثارها وجوامعها ومعابدها وحضاراتها مهما مرت السنين والأعوام وامتدت إليها أيدي الطغاة.

إعداد: بدران الحسيني

زر الذهاب إلى الأعلى