مقالات

صحوةٌ أم ثورةٌ من نوعٍ آخر

dilbrin-farsدلبرين فارس

يبدأ السؤال لو تمَّ إحداث تغيير في بنية النظام السياسي، وتحسين أداءه وتوجهاته، وتفعيل القانون، وإقامة العدل، هل سوف يؤدي ذلك إلى تغييرٍ كامل للنظام السياسي والاجتماعي، ويحقق اهداف الثورة ؟.. وهل هذا التغيير سيكون له أي معنى دون حدوث تغييرٍ مماثل في بنية المجتمع ” مجتمع الدولة ” يوازي ويواكب ذاك التغير السياسي الحاصل؟.

 قد يتصور البعض، أن المجتمع سوف يتغير تلقائيا، إذا تغير النظام السياسي، وهذا غير صحيح إذا نظرنا إلى حقيقة أن النظام السياسي الفاسد، هو الذي أنتج المجتمع الضعيف المتردي المنتهك، إن الإرادة الشعبية المسلوبة في مجتمع الدولة لن تكون قادرة على بناء أي نظامٍ سياسي وإداري يحمي مكتسباته الثورية، ما لم يكن هناك تغييرٌ كامل وجذري يمس مفاصل الحياة الاجتماعية وعلى كافة السويات.

أوروبا مثال ٌحي، فلولا ظهور الحركات التنويرية والإنسانية الفكرية لما تمكن المجتمع في أوروبا من تجاوز العقلية الدينية والاقطاعية والفردية الفاسدة المتزمتة في العصور الوسطى، ومهدت لقيام ثورات شعبية عارمة في اوروبا عصفت بالعديد من الانظمة السياسية والدينية القمعية، مكنت  من بعدها قيام نهضة أوروبية على كافة الأصعدة، وبناء أنظمة ديمقراطية، لذا على القوى المجتمعية، والتي تمكنت من الصحوة والنهوض أن تستكمل دورها في بناء العقلية الثورية الحرة، وتؤسس لدورها المستقبلي، بحيث تكون تلك الإرادة الفاعلة هي صانعة المستقبل.

أما إذا تصورنا وكما يعتقد البعض، لابل يؤمنون به مِن مَن يدعون المعارضة للنظام القائم “الحالة السورية ”  إن مسؤولية بناء نظام سياسي وإداري شعبي يجب أن يكون مهام الدولة “السلطة السياسية ” المستقبلية، بحيث يصبح السلطة السياسية والتي تتدعي تمثيل الشعب بأنها ستستكمل مسيرة الثورة، من خلال أدوات ومنهج الدولة نفسها، ودون أي دور للمجتمع في ذلك، أن هذا من شأنه أن يعظم من دور بناء سلطة الدولة، أو إعادة انتاجها على حساب المجتمع مرة أخرى، ولربما بوتيرة أعنف واكثر تسلطياً، كون تلك المجموعة المعارضة والتي تتدعي تمثيل الثورة، هي بالأساس تحمل نفس الجينات الفكرية والصفات الوراثية التسلطية لذاك النظام السياسي و ترعرعت في كنفه،  وستكون النتيجة العودة إلى نقطةِ إن الدولة هي التي ستتكفل بتغيير بنية المجتمع، ونعني بذلك إعادة انتاج لمنظومة مجتمع الدولة ” ثقافة القطيع”.

وهنا يقوم المجتمع “الشعب” بدور المشاهد “الشكل” في عملية التغيير تحت عنوانٍ ثوري، لايمثل أي مفهومٍ من مفاهيم الثورة.

 يتجاوز مفهوم الثورة في الحقيقة حالة الكفاح المسلح، وحشد القوى الدولية والاتكال عليها في أسقاط أوبناء أو تغيير نظام حكمٍ ما “تجارب ما سمي بالربيع العربي” دليلٌ معاصر على فشل ثوراته التي لم تتجاوز مستوى الصحوة، تشبه التجارب  الافريقية المسلحة والتي لاتزال شعوبها تدفع الثمن.

  حيث اصبح الشعوب في هذه التجارب المسلحة خارج عملية البناء والتغيير يراقب ويمد يده للدولة ( النظام السلطوي)، ولا يقوم بأي دور فاعل، ليس من أجل إصلاح وتغيير، نظام وشكل الدولة المرجوة فقط، بل من أجل إصلاح المجتمع والأفراد، أنفسهم، من هنا إن مهمة الإصلاح الاجتماعي والتغيير ليست مهمة الدولة “النظام السياسي”، حتى وإن شاركت فيها الدولة(مؤسسات الدولة ).

 ومن هنا إذا غاب المجتمع، فلن تستكمل مسيرة النضال، حتى وإن تحققت بعض أهدافه، والذي غالباً ما يتمثل في تغيير الحاكم “رأس الهرم في الدولة”، وهذا الهدف هو هدفٌ سياسي سلطويٌ محضن لتلك الجماعة التي تتدعي قيادة النضال والكفاح من اجل التغيير وفق منظورها السلطوي، ولن تبالي كما سلطة الدولة السابقة بالمجتمع وتطلعاته.

عملية التغيير والإصلاح المتزامنة مع كل حالة صحوة هي عملية شاملة، تحدث على كل المسارات بالتوازي، ونجاح عملية التغيير والإصلاح ثوريةً كانت أم صحوة، تأتي وتنجز في تغيير بنية النظام والمجتمع بشكلٍ شامل، وتتطلب إحداث تقدمٍ على كافة  المسارات، بصورة متوازية، حتى تتحقق النقلة النوعية الفاعلة، التي تخرج البلاد من الفوضى السياسية والمجتمعية العارمة، والتي تخلفها عملة التغيير والبناء، وتبدأ مسار تقدمها ونهضتها.

 عملية الاصلاح في سوريا فشلت كون عملية إصلاح الدولة واجهة وتواجه بقوى الدولة العميقة التي تحاول إعاقة أي إصلاحٍ أو تغييرٍ اجتماعي وسياسي في بنية الدولة.

ضف لذلك إن عملية إصلاح وتغيير ذهنية المجتمع بطيئة وشبه معطلة، في أغلب المدن السورية بسبب تشكل المضاد للثورة داخل المجتمع، إلى جانب أن المجتمع مازال مشدودا لما هو مألوف له سياسياً وأجتماعياً، ولم يُقدم بَعّد على إحداث تغييرٍ حقيقي في مسلكية حياته.

إن للثورة شروط ذاتية وموضوعية ، يجب أن يتحقق حتى تقوم الثورة بالمعنى الثوري الحقيقي، وتنجز أهدافها على كافة الاصعدة الاجتماعية و السياسية والاقتصادية

لإحداث التغيير والاصلاح.

 ففي الحالة السورية العامة ، شبه ثورة شعبية حدثت في نهاية النفق المظلم، أي في مرحلة الانهيار السياسي الاجتماعي الأخلاقي الكامل للدولة ، لذا تشكلت العديد من العوائق، التي فصلت بين زمن الثورة وزمن الصحوة، وفاصلت بين لحظة خروج عامة الناس في وجه النظام المستبد والفاسد، وبين لحظة توجه عامة الناس إلى مرحلة الإصلاح والتغيير، فالصحوة “النهوض” هي حالة مجتمعية وثقافية، تدفع عامة الناس إلى تغيير أنفسهم وتغييرالمجتمع، وتغيير النظام العام والنظام السياسي القائم بشكلٍ عام ، حتى يتم تهيئة الأرضية والمناخ المناسب لتشكيل أي نظامٍ أخر يختلف عن سابقه جذرياً، ولهذه الحالة شروطها، فالصحوة مثلت لحظة انفجارٍ جماهيري، ولم تمثل في نفس الوقت لحظة أفق مجتمعية واسعة، لأن تلك الأفق لم يتحقق شروطها بعد، وأيضا لأن الأفق الثورية المجتمعية تحتاج لقدرات وذهنية “ايديولوجية ثورية ” مجتمعية لها جذور في قاع المجتمع، وهذه لم تكن متوفراً في الحالة السورية أو بمعنى أخرتم صهره في بوتقة الدولة البعثية.

 ضف إلى ذلك إن “الثورة الشعبية” ضد النظام، لم تحدث في لحظة قوة المجتمع، ولكن حدثت في لحظة ضعفه الفكري المتردي المغيب، لهذا تبتعد المسافة بين الثورة والصحوة.

والقصور الذاتي، والنظرة السياسية المقولبة للكثير سماسرة السياسية ونظرية الأنا، لدى الكثير من الأطراف شكل العائق الأكبر لنضوج الحالة الثورية، لا بل كانت السبب الأكثر تضاد مع الحالة السورية الشبه ثورية.

وكون كل عملية ثورية تحتاج لبداية وقاعدة فكرية حرة جمعية، والتي لم تملكه، تلك الاطراف المتسلقة والمدعية للثورة والتي أفشلت حالة الصحوة الشعبية في الكثير من المدن السورية، وتحاول عبر أذرعها وبكل وسائلها أفشالها في المناطق السورية الأخرى، والتي تطور فيها الحراك من الصحوة إلى الحالة الثورية بكل جوانبها الثورية ( روج آفا- شمال سوريا) تلك الأطراف فشلت بمساعيها الهدامة، في  كبح جماح الحالة النهضوية الثورية التي برزت في مدن وقرى روج آفا- شمال سوريا، كون هذه المنطقة في بنيتها الذهنية الشعبية كانت تمر بمرحلة صحوة  قبل بدأ الحراك في سوريا والمنطقة عموماً، وتعيش حالة ثورية وعلى كافة الاصعدة الاجتماعية الفكرية والثقافية والسياسية، لذا هذه المنطقة “روج آفا “، كانت حاضرة لأي ظروفٍ موضوعية وذاتية، والتي هيئة لتحولٍ ثوري سريع، لذا كان من المسلم به أن يتسم ويتصف الحراك الثوري في روج آفا بالنجاح والديمومة، كذلك الرؤية والنظرة الصحيحة الموضوعية للحركة السياسية في المنطقة لمجريات الواقع ومألات الصراع في المنطقة برمتها، جنتها من الانجرار خلف الأوهام والأجندات الاقليمية ،ولم تكن اتكالية في حالة الصحوة وحتى في حالتها الثورية رغم كل أشكال الحصار السياسي والاقتصادي، والصراع المفروض عليها.

  بدأ أصحاب الثورة في روج آفا، ببناء القاعدة الثورية المجتمعية وفق منظورِ ثوري أساسه الذهنية الحرة والفكر المجتمعي الثوري، الذي يوازي البناء والاصلاح والتغيير على كافة الأصعدة، إلى جانب الكفاح المسلح الذي يسير بنفس السوية والقدر، لذا فهي مستمرة وقادرة على أنتاج رؤية سليمة واضحة للحيلولة دون التخبط والانحلال في الصراعات والأجندات الدولية على الساحة الشرق اوسطية والعالم والتي تمثل سوريا محورها الأساسي.

أستطاع هذه الذهنية الحرة التي تمثل الحالة السياسية والإدارية في روج آفا، أن تتوجه نحو تنظيم العمل الاجتماعي والشعبي وربط الكيانات الاجتماعية وفق منظومة طبيعية جديدة للحالة الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية تتوائم فيها الأفق المستقبلية مع الأهداف الثورية الشعبية، وتنسجم فيها الجزء مع الكل وفق وحدة إرادة شاملة وضمن كياناتٍ مؤسساتية مجتمعية يتمثل فيها كل أطياف المجتمع، دون اقصاء أو تهميش معمد، و بمنحنى صعود النشاط الاجتماعي، وأن بدا صاعداً ببطء، فإن وصوله لمرحلة الصعود المتسارع سيتحقق بعد فترةٍ زمنية قصير وفق المنظور الثوري لحالة وشكل الصراع والزمة في المنطقة عموماً، خاصة عندما يستعيد المجتمع عافيته ويتخلص من الشوائب والأعباء والصعوبات التي خلفها ويخلفها الصراع في سوريا، تلك الحالة التي تجعل للفاعل الاجتماعي السياسي دوراً محوريا في تحريك المجتمع نحو البناء، والإصلاح، وفي تعديل مسار الوعي الجمعي، حتى يكون أكثر إيجابية، مما يجعل للحراك الثوري الديمقراطي، في أن يكون له الدور المركزي في عملية التغيير الفاعل النشط المنظم، القادر على تفعيل دور المجتمع في السياسة.

 في روج آفا المجتمع يعيد بناء نفسه، داخل سياق المرجعية الديمقراطية ،والتعايش الأخوي بين الشعوب والكيانات المجتمعية، كون الحالة التي كانت سائدة قبل الثورة كانت حالة استبدادية قامعة وقابعة للحريات، حالةً تركزت فيها تأليب الشعوب والكيانات الاجتماعية ضد بعضها البعض، وتجذر فيها شكلٌ من التعصب القومي والنخبوي والطبقي،

وهذا أيضا شكل مَيّل بعض التوجهات السياسية المدعية للثورة والتغيير وتصبغت بها، إلى الطبيعة النخبوية وليس الطبيعة الشعبية، يجعل الفاعل الحاضر اجتماعيا وسياسيا، والحاضر في عمق البنية الشعبية، هو الفاعل القومي، والديني والنخبوي والطبقي، كما تسعى بعض الأطراف لتجذر التوجهات الدينية المتطرفة داخل المجتمع، وفي كل شرائحه، وتمددها عبر كل المساحة الجغرافية للمجتمع، وذلك بجعل الرؤية الدينية المتطرفة هي الحاضرة في الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي، مما يجعل الفاعل الذي يتبنى تلك الرؤية، حاضراً بها في عمق بؤرة التأثير الاجتماعي،

بالمقابل فأن المحتوى الثقافي والاجتماعي والسياسي للثورة هي المسألة الجوهرية، التي يختلف بها روج آفا من حيث إن الثورة والتغيير فيها لها محتوى ثقافي وحضاري، وحتى تصبح الثورة في سوريا بشكلٍ عام حركة مجتمعية شاملة نحو بناء مستقبل جديد، تحتاج لمحتوى فكري وثقافي مجتمعي سياسي، يمثل خياراً حضاريا ديمقراطياً بعيداً، عن أيُّ توجهٍ تطرفي انحيازي فردي الاتجاه والتوجه، لا بل يشكل الدافع للحركة المجتمعية الشاملة، يُمكّن الشعب من تحقيق التغيير الحقيقي والإصلاح الشامل.

ومن هذا المنحى فأن تسويق أي منتجٍ سلطوي بإيديولوجيا التكفير والتعصب القومي، لن يؤسس لنظامٍ عصراني ديمقراطي يواكب ثورة الشعوب في سوريا خاصة، وفي عموم الشرق الأوسط عامة، لابل سيمهد لصراعات وأزمات لا نهاية لها، وستتأسف الشعوب على الملوك والسلاطين والقياصرة.

من جهة أخرى عندما يكون للتحرر مضمون ثقافي هدفه تحرر المجتمع وفق سياقه الطبيعي، نابعٌ من الموروث الحضاري، ستصبح الثورة حركة تحرر حضاري شامل، لأن الشبه ثورات وحركات التغيير والاصلاح التي تبنت مضموناً سياسياً نابعاً من الذات السلطوية الأحادية ذات النزعة القبلية والدينية والقومية، ركزت على التغيير السياسي وغفلت لابل تقصدت في قمع وسلب حركة التحرر الشعبية العفوية، مما جعلت عملية التحرر ضامرة وناقصة، لم تستهدف التحرر الكامل، والثورة الناقصة المعاقة، ستنتج نظاماً معاقاً شبيه بسابقه أن لم يزّد عليه في التنكيل والاستبداد، وهذا ما شهدته أغلبية حركات التغيير والشبه ثورات في العالم، وستمهد لنزعات وحركات وأزمات جديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى