مقالات

شخصيات ضالة في طهران وخيانيّة في أنقرة؛ لكن الكرد عرفوا ضالتهم

سيهانوك ديبو

لا يمكن لأيّاً يكن: شخص؛ حزب؛ جهة؛ دولة أن تتنكر للقضية الكردية. مهما امتلك أو امتلكت من قوة بطش ووسائل حيلة ومناظير استهلال. والعاقل وحده والواقعيّ لوحده بات المدرك بأن حل القضية الكردية بات بمثابة بوابة العبور إلى شرق أوسط آمن ومستقر؛ والسلام يسود فيه ويترسخ. إيران قوية بما فيها الكفاية؛ لكن ذلك لا يعني بأن تخوّلها هذه القوة لتكون مصدر عدم استقرار في المنطقة، وتهدد شعوب إيران أولاً وشعوب الشرق الأوسط وبشكل خاص الكرد والعرب. لا نستطيع أن ننكر بأن تركيا قوية جداً؛ لكن كل الأوراق التي تمتلكها إضافة إلى موقعها الجيوسياسي الرهيب –بكل معنى الكلمة- أن تتصرف وترى بأن كل شبر في الشرق الأوسط مطوَّب باسمها، وما عليها سوى إنهاك الشعوب في تركيا كما مثالها الحالي الدامغ وأن تبدو بشكل صريح بالمعادية لإرادة شعوب المنطقة. شعوب المنطقة بالنسبة للطغمة الفاشية التركية في أربع تصنيفات: التركمان خدمها، والعرب لصوصها وغزاتها، والكرد عبيدها، والفرس عدوتها التاريخية المستقبلية. تصنيفات ترى تركيا بأنها الأنسب لها ووفقها تتحرك وتنسج. أما الطغمة الاستبدادية في إيران فإنها ترى في شعوب المنطقة وفق أربع متدرجات: الكرد خدمها وبدوييّها، والعرب قطاع للطريق وناهبين لمقدرات المنطقة، والأتراك عدوّها التاريخي والمستقبلي، أما الأرمن والسريان والآشور فهم أقلياتها. كان للقوة التنويرية التي نشأت في الغرب على إثر حطام الحكم الكنسي من أن تقوم بإنهائهما؛ لكنها وجدت بأنهما الأنسب لها ولمؤشرها. الغرب الذي ينهض يحتاج إلى ضمانة قوية لنزول الشرق. أمّا النزول فيبدو اليوم كما في السابق البعيد؛ منذ تصادم الامبراطوريات والدولتية السلطوية لا في صدام الحضارات؛ الحضارات بالأساس لا تتصادم وغير قادرة على ذلك إنما تتفاعل وتتكامل وتتام. لن يسنح للشعبين العربي والكردي؛ بمن يمثل إرادتهما الخلاقة الفاعلة الديمقراطية؛ فرصة؛ كما الفرصة التي تبدو اليوم بأنها المتوفرة. تركيا وإيران، وإيران وتركيا بما يمتلكان مشاريع مدمرة باتت بمثابة قوة جذب هائلة للتدخل الخارجي في المنطقة، وبما يعتبران بالأساس إشارة لسحب القوى المتناقضة إلى الميدان نفسه؛ ولأكبر قدر من القوى المتصارعة على الجغرافية نفسها. فغياب الديمقراطية الجذرية؛ ديمقراطية القبول فرضت على حكّام يحوِّلون شعوبهم إلى عبيد مقابل أن يلقوا الرضى من أنظمة الهيمنة العالمية ويبقون في كراسي السلطة؛ كراسي من أوراق نقدية. كل كرسي له ثمن. غياب الديمقراطية الجذرية فظهور أبشع المفاهيم التي دمّرت الشرق الأوسط؛ مفاهيم الدولتية القوموية الشديدة المركزية والاستبداد. وإليها الفضل في الاستقطاب الحاصل منذ خمسينات القرن الماضي، وفي الوقت نفسه مصدر التشظي المجتمعي في المنطقة برمتها، وباتت مسلسلاً يخلط على أفراد وجماعات محليّة وتسأل نفسها: هل أمريكا –مثالاً- في أمريكا أمْ أن أمريكا باتت جغرافيتها تصل إلى الشرق الأوسط؟ غياب الديمقراطية الجذرية كانت السبب في حروب الخليج الأولى والثانية والثالثة والأس في جلب الأساطيل والمدمرات إلى كل نقطة ماء بحر من بحورنا. هل البحر الأبيض المتوسط يقع في الشرق الأوسط أم أن كلاهما –البحر والشرق الأوسط-  موجودان في الغرب؟

الكرد أكثر من سحقوا في مشهد حجر الرحى الدولتي؛ حين غابت الديمقراطية الجذرية. لكنهم اليوم ليسوا بـ (أكراد) القرن الماضي. الذين تحوّل أغلبهم؛ إنْ لم نقل كلهم؛ إلى شهود للسحق ومواد لنسف الحق الكردي، وإلى كل إمكانية عدم لحل قضيته العادلة. فكرد اليوم؛ بشديد من التحديد؛ كرد الأمة الديمقراطية رهانهم على الشعوب فقط. على العيش المشترك للشعوب. على وحدة مصير هذه الشعوب. وكرد الأمة الديمقراطية لم يلتفتوا لحظة إلى كل صوت شاذ خرج يقول: ما علاقتنا بالرقة وبتل حميس وبدير الزور وغيرها من المدن التي أثبتت كل نقطة دم شهيدة وشهيد سالت عليها ومن عند هذه التحريرات كانت الترجمة الحقيقية لفلسفة الأمة الديمقراطية ونظريتها الثورية، وأنها الخلاص من الاستبداد والتبعية والإرهاب وكل منظر مخِّلٍ يخرج من مستنقعات الاستبداد الآثمة الآسنة؟ وكرد الأمة الديمقراطية ليس لديهم أدنى مشكلة مع تركيا وبشكل مخصوص مع الشعب التركي؛ إنما مع الطغمة التركياتية التي باتت وبالاً بشكل كبير على الشعوب في تركيا؛ قبل أن تظهر بشكل صريح بالضد من الشعوب في سوريا. لست أب التاريخ إنما أحد أبنائه الكثيرين؛ يسجل التاريخ بأن الكرد أقدموا على أعظم خطوة في تاريخهم المعاصر والحديث؛ لا بل في تاريخ المنطقة حينما جابهوا مقاومين في عفرين قوة كبيرة مثل النظام التركي بكل آلته العسكرية وبما استطاع من تجميع لمرتزقة إما ينتمون إلى الجنون المطبق أو الشحذ الأصيل، وكلاهما نتيجة من نتائج غياب الديمقراطية. مقاومة شعب عفرين وقوته العسكرية لمدة 58 يوماً في مجابهة علنية، واستمرار هذه المقاومة حتى اللحظة وحتى لحظة التحرير تؤكد مرة أخرى بأن الكرد عرفوا ضالتهم. ففي مشهد الاحتلال الطارئ التركي لعفرين؛ أكثر من خسر هو النظام التركي. وأن أنقرة وطهران وموسكو لن يكون عبرهم؛ متوحدين أو فرادى؛ الحل للأزمة السورية؛ إنما هم اليوم في أزمات كبيرة. من يستخدم حجر الرحى، ومن ينفلت من أن يكون مادة مسحوقة لحجر الرحى؛ يتحول من يحركها إلى مادة للسحق. وما الأزمة في موسكو، وما الأزمة في أنقرة، وما الأزمة الكبيرة في طهران؛ سوى دلائل قوية بأنها باتت في هذا المعرض. وبأن من مقاومة عفرين بدأ هذا المعرض يظهر بشكل أوضح.

طهران اليوم تقلّد أنقرة الأمس، وأنقرة لم تبرح لحظة مشهد العثمانية، كلاهما يسكنهما مرض اسمه الماضوية السياسوية. يثابران في كيف يُقطّعان هذه المنطقة إمّا صفوياً أو عثمانياً. حينما تُجَمِّع طهران بعض من الشخصيات كي ترى في نفسها بأنها ممثلة للعشائر الكردية وبأن على عاتقها (طرد) و(دحر) (المحتل) الأمريكي؛ فهي قفزة في الهواء لا منطق لها ولا استناد بها ولا تأثير لها. ومن اجتمعت هي شخصيات ضالة أو مجرورة جرّاً. حركة طهران هذه لا تختلف كثيراً عن حركات أنقرة على طول عمر الأزمة السورية بشكل خاص في شراء ذمم بعض (الأكراد) كشهود وكقاتلين للقضيتين الديمقراطية السورية والكردية على حد سواء؛ كما في مثل مجلس الخيانة التي ارتضى به هذا البعض إبّان احتلال تركيا لعفرين.

لكن طهران اليوم كأهم حليف للنظام في دمشق؛ يبدو قد فاتها أو فاتهما سويّة بأن مشهد الوطنية السورية لا يمر عبرهما. الوطنية السورية تمّت حتى بدت أشبه بالمكتملة على يد الكردي الذي استشهد مدافعاً عن الكردي والعربي والسرياني والآشوري والتركماني والأرمني والشركسي؛ مسلمين ومسيحيين وإيزيديين. مدافعاً عنهم ضد الاستبداد الشمولي والمركزية المقيتة وضد الإرهاب الذي يتعكز على الاستبداد والاستبداد متعكز عليه بالأساس. والوطنية السورية تبدو كاملة من خلال نظرية الأمة الديمقراطية ومشروعها المتمثل بالفيدرالية الديمقراطية على أساس الجغرافية وإرادة التكوينات المجتمعية السورية. والوطنية السورية تتحقق عبر طريق واحد متمثل بحرية الشعوب في سوريا؛ دون وصاية ودون استعلاء. وليس عن طريق شخصيات ضالة تجتمع في طهران، وأخرى خانت القضية واجتمعت في عنتاب وشكلت ما يسمى بمجلس إدارة عفرين. وعفرين التي كانت لها 16 هيئة مدنية ومئات من المجالس المجتمعية قبل طارئ الاحتلال التركي لها. ولأنها كانت كذلك فإن العودة إليها لن تطول. طالما المقاومة مستعرة. وأن الكرد عرفوا ضالتهم بأنهم إمّا أن يكونوا روّاد التغيير والتحول الديمقراطي أو في أسفل القيعان. وأنهم باتوا يمتلكون الأسس النظرية والفعلية بأنه حان الوقت لأن تتوسع سوريا، وتتوسع إيران، وتتوسع تركيا، والعراق أكثر على شعوبها وبشكل خاص على الشعب الكردستاني، وإلّا فإنها تصغر وتتكوم في ظلّ وجود مختلف أشكال المديّات والمدمرات.

زر الذهاب إلى الأعلى