مقالات

روج آفا تقود ثورة سوريا الديمقراطية

الديمقراطية كنظام إدارة لا يقتصر على نمط أو قوانين معينة ثابتة أو مجرد احصائيات جامدة من النِسب المئوية كما تم تعريفها وفق العديد من المُنظّرين بعد تجارب عديدة من الصراعات الدائرة بين الأنظمة السلطوية والشعوب، بل نمط من نظام إداري يعبر فيه المجتمع عن وجوده بحرية استناداً على ثقافته وتقاليده الاجتماعية الطبيعية الغير منفصلة عن جذوره التاريخية. وقد كان الشرق الأوسط المهد لجريان هذا النهر منذ تكوين المجتمع الانساني وإلى اللحظة التي باتت الشعوب في بلداننا الأوسطية بأمس الحاجة إلى الشكل الإداري الديمقراطي من أي وقت مضى. لا يمكن حصر الديمقراطية ضمن أطر وقوالب ترفض التغيير imagesوفق الظروف الزمكانية، إنما هي ثقافة ونمط من التفكير والذهنية التي تبنى على اساسها حياة اجتماعية تشاركية حرة. لذا يمكننا القول بأن الديمقراطية مرآة لانعكاس كافة الثقافات والأثنيات والمذاهب والأديان من دون تشييء أو تهميش الآخر على عكس السلطوية التي بلغت قمتها في ذات الدولة القومية التي أنهكت الشعوب تحت وطأتها إلى اللحظة.
إن إدارة المجتمعات وتسيير أمورها الحياتية على كافة الصعد تعتمد على آليات وسبل معينة، ولو كانت هذه الآليات أو السبل التي يتم من خلالها تنسيق وإدارة تلك المجتمعات تمثل إرادتها وتضمن حريتها وكرامتها من دون تمييز، عندها يمكن القول بأن هذا المجتمع صاحب ذهنية وفكر ديمقراطي. إذا اعتمدت الادارة على نظرية اعتماد المجتمع على ارادته وادارته الذاتية أي إن كان قادراً على ادارة نفسه بنفسه وإن لم يكن هناك نمط من العلاقة المعتمدة على الاستبداد والاستغلال والاحتكار وتحكم فئة بأخرى، حينها يمكننا أن نصف هذا النمط من الإدارة بالإدارة الديمقراطية القادرة على تمثيل ثقافة المجتمع الحر.
لهذا عند البحث في موضوع نمط الأحكام في التاريخ البشري، سنجد بأن هناك مساعي دائمة فيما إذا كان هذا النوع من الإدارة تمثل المجتمع برمته أم إنها تمثل فئة أو شريحة معينة باسم الديمقراطية، فإن كانت تلك الفئة تدير المجتمع وتشرف على أموره تحت يافطة قوانين تصفها بالديمقراطية، فلا يمكننا أن نصفها بالديمقراطية، أما إن كانت تنطلق من داخل أو ضمن المجتمع ويكون فيه الأخير صاحب القرار ووضع البرامج والمشاريع والمخططات حينها يمكننا أن نصفها بالإدارة الديمقراطية.
أما مفهوم السلطة فلم يُنشأ فقط بمجرد التفكير بموضوع الإدارات أو السلطات الموجودة حالياً، بل نُشأ مع بداية التاريخ البشري عندما بدأت الطبقية وتحكم فئة بأخرى، طبعاً ذلك بدأ مع تحكم الرجل بالمرأة أو هيمنة الرجل على مقاليد وأمور إدارة المجتمع التي كانت بيد المرأة سابقاً. ففي بداية الحياة الإنسانية كان المجتمع يُدار من قبل المرأة من دون وجود استبداد أو مفهوم سلطوي، بل كانت الأمور تسير بشكل طبيعي ضمن الكلان والقبائل والعشائر، لكن عندما تطور مفهوم الهيمنة والتسلط في ذات الرجل وتغيرت مكانة المرأة من الآلهة إلى عبدة أي تم تشييء المرأة التي يجب أن تكون تحت هيمنته دائماً، وبدأ ظهور مبدأ السلطة بشكل ملموس أي تحولت الفكرة التي كانت تنشأ بشكل نظري أو كذهنية بالتبلور بشكل عملي. يمكن القول إن الهيمنة والتسلط بدأت مع ظهور الذهنية الذكورية المهيمنة التي فرضت على المجتمع كافة أنواع الاستعباد والاستبداد. إن استعباد المرأة كانت أولى أنواع السلطة في تاريخ الانسانية.
اتخذت السلطة أبعاد وأشكال مختلفة عبر التاريخ، حيث بدأت مع هيمنة بعض الرجال المسنين أصحاب التجربة والخبرة في أمور الصيد وغيره، حيث بدأوا رويداً رويداً بالتحكم بالفئة الشابة بحجة أنهم يفتقرون للخبرة والتجربة الحياتية في تأمين حاجات المجتمع من مأكل وملبس ومأوى وتقاليد إدارة المجتمع، فرض الرجل هيمنته على المرأة بالكامل لتأخذ هذه السلطة أشكال اخرى وذلك بفرض حكمه على المجتمع باسم الملك الإله أو وكيل الإله على الأرض أو ظله حتى إن بعضهم تمادى ليصف نفسه بالإله على تلك الأقوام، وكل هذه الأشكال تعبر عن نوع من أنواع السلطة، بعدها تطورت إلى سلطات مادية والهيمنة على الأراضي والبشر والطبيعة وكل ما هو موجود في الطبيعة، ومنذ ذلك الحين بدأت السلطة تبحث عن آليات مناسبة تُمكنها من التحكم بالمجتمعات وبناء مؤسسات تخدمها لترسيخ الهيمنة بأسماء عديدة.
تشكل الدولة القومية نوع من أنواع السلطة وأبرزها هيمنة في القرنين الأخيرين، ظهرت هذه المؤسسة في مرحلة تطور السلطة إلى هرم للهيمنة أو قمتها أي وصلت إلى ذروتها، حينها بدأ بعض المهيمنين والسلطويين بالتحكم بمصير المجتمعات عبر مؤسسة الدولة، لكن الإدارة مختلفة لأنها لا تعتمد على كيفية التحكم بالمجتمع وبناء مؤسسات لترسيخ الهيمنة بل تأخذ من إرادة المجتمع أساساً. لهذا إن أردنا التمييز بين الإدارة والسلطة لا بد أن نعلم كيف تُسير الإدارة الأمور، كيف تُنسق وتُخطط وتُبرمج الشؤون الحياتية للمجتمعات وخصوصاً تلك التي يكون لها الدور الرئيسي فيها. لذلك فإن كل إدارة لا تهدف إلى الهيمنة على المجتمع وتتخذ من ادارته اساساً ولا تبني أو تنشئ مؤسسات تزيد من هيمنتها ولا تتحكم به ولا يكون المجتمع في خدمة تلك المؤسسات أو السلطة، ويكون كل شيء في خدمته؛ عندها يمكن وصف تلك الإدارة بأنها إدارة ديمقراطية خارجة عن إطار السلطة.
كان هناك بعض الادارات تسعى إلى تطبيق الديمقراطية عبر التاريخ أو على الأقل تحاول قدر الإمكان أن يكون نسبة التسلط فيها أقلّ ما يمكن وفق الظروف التي تمر بها تلك البلدان أو الشعوب، ولكن لم تستطيع الشعوب تبني السلطة في أي زمن من الازمان وذلك لأنها تتنافى مع حقيقتها الاجتماعية والتاريخية. وإذا ما عدنا إلى العصر النيوليتي سنجد هذه الحقيقة بكل شفافية. عندما كان إدارة المجتمع بريادة المرأة في العصر النيوليتي لم يكن هناك مفهوم السلطة والعلاقات الاجتماعية فيما بين الكلانات والجماعات كانت علاقات حرة غير مبنية على الهيمنة أو التسلط لأن المجتمع كان يعتمد على نفسه، فلم يكن هناك مؤسسة الدولة ولا قوانين مكتوبة تفرض ذاتها بالقوة كالمؤسسات العسكرية والأمنية والمخابرات…الخ. تلك كان نمطاً طبيعياً من الحياة الانسانية، أما في عصرنا الراهن فالانحدار الذي شهدته المجتمعات وتجذر التسلط والاستعباد أدى إلى البحث عن نمط جديد أو نمط يكون متطوراً ليتمكن من سد الطريق أمام الاستبداد ويفتح المجال أمام حياة تكون مشابهة أو تسعى إلى أن تكون حياة طبيعية ضمن المجتمعات. يمكننا أن نسمي هذا النمط من الإدارة بالإدارة الذاتية الديمقراطية. بالطبع أن الإدارة الذاتية الديمقراطية نمط جديد في الشرق الاوسط ويستمد جذوره من المجتمع الطبيعي الذي كان يسوده التشارك والطواعية على كافة الصعد، كما يسعى هذا النمط إلى تحقيق حياة خالية من الاستبداد والتسلط والاستغلال كما كانت المجتمعات تعيشها سابقاً عندما لم يكن التسلط قد وصل إلى مرحلة التمأسس لهذه الدرجة، كما أنه جديد من حيث الشكل، بالإضافة إلى تناغمه مع التطور الملحوظ أو الموجود علمياً ومجتمعياً.
إن السلطة تعني ذهنية تحكم وهيمنة وتجد نفسها في شكل مؤسسة الدولة التي تجذرت حتى في نخاع المجتمع ليحوله من حالته الطبيعية إلى حالة مرضية وتسرطن وخاصة في الشرق الاوسط كما أشار إليه قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”. لابد من ترسيخ نظام اداري بديل متمثل في الإدارة الذاتية الديمقراطية حتى يستطيع المجتمع العودة إلى طبيعته، لأن هذا البديل هو الحل الجذري لصد جميع الهجمات والممارسات التي تفرضها ذهنية الدولة القومية كعامل رئيسي للحداثة الرأسمالية في المنطقة، وبذلك وحده يمكن حل الأزمة التي تعاني منها كافة بلداننا الأوسطية.
وإذا ما تطرقنا إلى الوضع السوري، فيمكننا القول بأن سوريا من أكثر البلدان التي تعاني أزمة النظام وبوضعها الحالي فهي محض اهتمام جميع القوى والمنظمات نظراً لموقعها الاستراتيجي في التوازنات السياسية. إن ما شهدته دول الشرق الأوسط في السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً بعد الحراك الشعبي في تونس ومصر وليبيا واليمن والعراق وحالياً سوريا، كان ناجماً عن وجود أزمات في بنية النظام الدولتي المهيمن والسلطوي والذي بدوره يتسبب في خلقها، لهذا لا بد من البحث عن بديل ينقذ هذه المجتمعات والطبيعة والكون بأكمله من هذه الحالة المتردية المأساوية، حالة التسلط التي باتت تسيطر على جميع أشكال الحياة.
للخلاص من مفهوم السلطة والواقع الدولتي المفروض لا بد أن يكون البديل قوياً، ويمكنه فقط عن طريق البديل الذي سميناه بالإدارة الذاتية الديمقراطية. ان تطبيق الادارة الذاتية الديمقراطية كنظام اداري في روج آفا مازال في بداية مراحل تطبيقه وإنشائه كبديل للعقلية وذهنية التسلط والهيمنة. ربما يتخذ هذا المشروع زمناً طويلاً لترسيخه بشكل سليم لأنه ليس بمشروع مستورد بل يحتاج الى ترسيخ أرضية سليمة وذلك من خلال تحقيق ذهنية حرة، كما إنه مشروع بناء مجتمع جديد. ان بناء إدارة ذاتية ديمقراطية في روج آفا كانت انطلاقة ثورية ديمقراطية وستفتح السبيل أمام جميع المجتمعات لتتبناه وخاصة تلك التي تعاني من الأزمة وتسعى إلى ايجاد حل لقضاياها.
الشعب الكردي من أكثر الشعوب التي عانت الحرمان والقهر والظلم في تاريخه القريب والبعيد، لهذا كان مهيأً لتبني مشروع الادارة الذاتية الديمقراطية أكثر من غيره، ولأنه لم يعش مرحلة التدول، وهذا ما كان له حسن طالع كي لا يصاب بداء السلطة كل هذا القدر. للشعب الكردي مؤهلاته في العملية الديمقراطية وذلك لأنه صاحب تاريخ نضالي وثوري يمتد لعقود اعتمد فيه على ايديولوجية الحرية وبناء مجتمع حر، لهذا يمكنه أن يقود عملية الدمقرطة وقيادة المجتمعات بنمط ونموذج جديد وهو مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية. أثبت الشعب الكردي بأن نموذج الادارة الذاتية الديمقراطية في روج آفا سيصبح نموذجاً لدمقرطة سوريا والشرق الأوسط وسينتشر في عموم العالم، لأن النظام العالمي الموجود يعيش حالة أزمة ويحتاج إلى البديل وها هو البديل يطرح نفسه. بالرغم من معارضة قوى الهيمنة والتسلط لهذا البديل وتشكيل عراقيل كبيرة أمامها، ولكن اثبت الشعب بجميع مكوناته في روج آفا بأنه سيستطيع تحقيق نجاحات أكبر في هذا المضمار وستتبناه المجتمعات وليست الأنظمة، لأن الأنظمة الحاكمة في العالم ستنهار لأنها تعيش حالة أزمة، إلا أن المجتمعات تجد أن الإدارة الذاتية الديمقراطية تُمثلها، لهذا سيمثل ظهور الإدارة الذاتية الديمقراطية ثورة إنسانية، ثورة ديمقراطية، ثورة تعيد الحياة الإنسانية للمجتمعات والشعوب من دون تمييز.
في الحقيقة إن الديمقراطية هي نمط الحياة الحقيقية للمجتمعات، ولو استطاعت هذه المجتمعات التحلي بذهنية ديمقراطية حرة عبر النضال الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي سوف تتخلص من النمط الاستبدادي والسلطوي للدول الحاكمة وأنظمتها. ان مثابرة المجتمعات اعتماداً على نظام ديمقراطي سيكون الضمان لعودتها إلى الأصل، وهذا بذاته يعني تحقيق قفزات نوعية نحو حياة حرة. طبعاً هذا الحراك الذي تشهده المنطقة لا يمكن وصفه بالحراك الثوري، لأنه حراك يسعى إلى تغيير نمط الحكم بحكم آخر أو سلطة بدل الأخرى أو حتى إسقاط الدكتاتوريات وتغييرها بأنماط أخرى من التسلط وهذا هو مرض المعارضة الحقيقي في المنطقة، ولهذا لا يمكن تسميته بالثورة بل بتغيير الغطاء وليس الجوهر وهذا يعني أن الاستبداد والظلم والسلطة باقية، وإن بقيت فهذا يعني عدم وجود ثورة، لأن الثورة هي إيجاد حل أو بديل خارج النظام الدولتي الموجود وتحقيق إدارة ذاتية ديمقراطية والتي ستتشكل على فلسفة الأمة الديمقراطية. طبعاً المجتمعات ونتيجة تعرضها للفكر التسلطي وممارسات تمتد إلى آلاف السنين هي أيضاً كانت قد وصلت إلى حد وكأنها باتت مقتنعة بهذا النمط من الحياة وباتت الأمور وكأنها حالة طبيعية أو اعتيادية، مع العلم أنها ليست حالة طبيعية. ما عاشته المجتمعات تحت ظل النظام الدولتي كانت حالة عكسية لطبيعته الاجتماعية، وما تسعى إليه الادارة الذاتية الديمقراطية بقيادة المجتمع في روج آفا وسوريا الآن هو العودة الى حقيقة المجتمع الطبيعي واعادة احياء قيمه الاخلاقية والسياسية التي حرم منها طوال قرون عديدة. لهذا فإن المجتمعات تحتاج إلى تحول ذهني وفكري للعودة إلى الأصل، وهذه نعتبرها مرحلة نضالية ستحتاج إلى البعض من الوقت وإلى جهود حثيثة ومكثفة. استطاع الشعب الكردي في روج آفا خطو خطوات كبيرة في هذا المضمار فما نشهده الآن من تلاحم وتقارب وانضمام الكثير من الشرائح المجتمعية لهذا المشروع إشارة هامة الى تبني المجتمع بأكمله لهذه الادارة وهناك مساعي كبيرة لتطويره من كافة الأقوام والشرائح والمذاهب. أن النجاح يكمن في هذه النقطة تحديداً، أي أن المجتمعات باتت مقتنعة بأن النظام السابق لنمط الحياة مرفوض، وفي بحث دائم لنمط جديد ويمكن اعتبار هذه الخطوة ثورة بحد ذاتها بعد كسر جدار الخوف الذي بنتها الأنظمة الحاكمة على حساب قيمها وحرياتها.
يسعى الشعب الكردي إلى تحقيق ثورة لا تقتصر على نمط معين من العلاقات أو في جغرافيا معينة بل تحقيقها على أرض الواقع وايصالها إلى المجتمعات الإنسانية في كافة انحاء العالم، لهذا فإن الاكتفاء بالنمط السابق يعني أننا لم نحقق ثورة ولا العودة للحياة الطبيعية الإنسانية أي معايشة الأقوام والقبائل والقوميات والطوائف والمذاهب في حالة وئام وانسجام. ان تقسيم المجتمعات وتجزئتها عبر الطائفية والمذهبية والقوموية بيد الأنظمة الاستبدادية والتسلطية حالة غير طبيعية ولا تتناسب مع طبيعتها الاجتماعية، لأنها بعيدة عن حقيقتها. فعندما يسعى المجتمع الى استعادة رونقه وحقيقته عبر ثورته الشاملة يعني أنه سيحقق ثورة لأن الأمة الديمقراطية تعني أن يكون للإنسان الكردي جميع حقوقه ويعيش بحريته وكرامته وتكون حقوقه جميعها مصانة وفي الوقت نفسه لا ينكر حقوق القوميات والمذاهب والأقوام الأخرى التي تعيش مع بعضها البعض على نفس الجغرافية. إن تقليد الأنظمة السابقة لن يكون صحيحاً، وهذا ما أثبتته ثورة الشعب الكردي في روج آفا، فمثلاً في السابق كان الشعب الكردي يتعرض للظلم ولسياسات الإنكار من قبل الأنظمة التي كانت تدعي أنها تمثل قوميات أخرى كالذين يحكمون البلاد باسم القومية العربية أو الأنظمة التي تحكم باسم الفارسية والتركية، آنذاك كنا نعتبر هذه العملية بانكار قومية لأخرى، في حقيقة الأمر لا يمكن إلقاء الذنب على عاتق الشعوب سواءاً الشعب العربي أو الفارسي أو التركي لأن النظام الدولتي وطريقة التحكم السبب الرئيسي في انتشار النزعة الشوفينية والعنصرية أي النظام الحاكم هو المسؤول عن هذه الممارسات. ان الذهنية الدولتية التسلطية كانت تفسح المجال لقومية ما بتملك بعض الحقوق والاستحقاقات والصلاحيات، أما القومية الأخرى لا تمتلك أي شيء ولا يحق لها الحياة ولا حتى ممارسة أبسط حقوقها وعاداتها وتقاليدها.
لعدم تكرار هذه المآساة مرة أخرى في المنطقة اليوم يجب أولا التحلي بذهنية ديمقراطية حرة، ومشاركة جميع المكونات الأخرى في الإدارة كما هو موجود في نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية. لو قام الكردي بإنكار العربي أو السرياني بإنكار الكلداني والآشوري بإنكار الأرمني ستتكرر نفس الدائرة وستعود الشعوب إلى نقطة البداية وستكون النتائج وخيمة من ذي سابقاتها. لعدم الوقوع في هذا الفخ نحتاج إلى أن نبني نظاماً يحفظ للجميع حرياتهم وكراماتهم، هذا هو النظام الذي يسعى إليه الشعب في روج آفا بجميع مكوناته ضمن اطار فلسفة الأمة الديمقراطية بذاتها.
أما بالنسبة للاتهامات التي تروجها بعض الجهات الإقليمية والدولية التي ترفض فكرة الثورة الديمقراطية للشعب الكردي، فهي عبارة عن اتهامات سياسية وحملات تشويهية لسد الطريق أمام تطور هذا البديل، لأن هذه القوى تصر في السير على اسس النظام الدولتي والتي كانت المستفيدة الوحيدة منه سابقاً.
الإدارة الذاتية الديمقراطية هي الخط الثالث في سوريا والمتمثل في الأمة الديمقراطية، واعتمدت على مبدأ مناهضة مفهوم السلطة الدولتية وتسعى إلى بناء حياة ديمقراطية ونظام ديمقراطي جديد وتحقيق الثورة لدمقرطة سوريا أيضا. ولأنها اعتمدت على هذا المبدأ تمكنت من بناء كياناتها واداراتها ومؤسساتها بسرعة، كان كل ذلك مترافقاً بالدعم المجتمعي والجماهيري الواسع، لأن الشعب بجميع فئاته وجد فيها طريق الخلاص. ومن الأمثلة البارزة التي ظهرت خلال مرحلة الثورة هو تصدي قوات حماية الشعب والمرأة لهجمات داعش الارهابية عندما حاولت ارتكاب مجازر ضد الشعب الإيزيدي في شنكال في الثالث من شهر آب، ولولا المفهوم الانساني الحر لهذه الإدارة التي تمثل ارادة الشعب لما استطاعت انقاذ الآلاف من أبناء الشعب الإيزيدي عبر فتح ممر إنساني آمن من شنكال إلى روج آفا، ونقل هؤلاء النازحين من روج آفا إلى جنوب كردستان، بالإضافة إلى انشاء المخيمات التي آوت الآلاف وتأمين كافة المستلزمات الغذائية والطبية والإنسانية والإغاثية لهم، كل ذلك أدى إلى اقتناع الكثيرين بأن الإدارة الذاتية الديمقراطية جديرة بالاحترام والتقدير وبأن هذه الإدارة تستطيع القيام بواجباتها.
ان مرحلة مقاومة كوباني التي لاقت صدى عالمياً من خير الأدلة على نجاح نموذج الادارة الذاتية الديمقراطية، ولم تستطيع الأنظمة الدولتية ولا في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط حماية شعبها مثلما تدعي بقدر ما أبدى الشعب الكردي بادارته الذاتية الدفاع عن نفسه بارادته الحرة، كون الإدارة الذاتية الديمقراطية هي إدارة الشعب نفسه بنفسه. واستطاع الشعب الكردي أن يثبت للعالم بأنه الريادي في التصدي لأكبر القوى ارهاباً “داعش” في العالم عبر تشكيل قوات الحماية الشعبية التي تشكلت من صميمه، وهنا أثبت للعالم بأن ارادة الشعب تفوق جميع الارادات وبمستطاعه الدفاع عن نفسه مهما تكن حجم الهجمات شرسة، يمكننا أن نصف هذا الوعي بالوعي الديمقراطي.
بالرغم من الإمكانيات القليلة مقارنةً بحجم الهجمات الحاصلة، إلا أن الشعب الكردي تمكن من تسطير ملاحم البطولة والفداء في وقت كان فيه الجيش العراقي يندحر أمام مجموعات داعش، وقوات البيشمركة لا تستطيع أن تقاوم هجمات داعش، وتقهقر جيش النظام السوري أمام هجمات داعش، وفي الوقت الذي كانت فيه الحالة النفسية السائدة في عموم المنطقة حالة من الهلع والخوف حتى من اسم داعش. كانت مقاومة الشعب الكردي بقواته “قوات حماية الشعب والمرأة” التابعة للإدارة الذاتية الديمقراطية منبع القوة المعنوية ومثلاً لإرادة حرة ضد الارهاب، كما استطاع الشعب الكردي في روج آفا بثورته أن يكون مَثلاَ في خلق التلاحم فيما بين الأجزاء الكردستانية الأخرى، لهذا تلاحم شعبنا في باكور وفي روج آفا في تلك المقاومة. ان انتفاضة الشعب الكردي في جنوب وشرق كردستان يعني تصعيد وتيرة المقاومة عبر نضال ديمقراطي حر. وبهذا ظهر مناخ آخر للتلاحم والتماسك حول محور المقاومة. مثلاً، الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في باكور كردستان أثناء الانتفاضات والتظاهرات المساندة لمقاومة كوباني، أصبحوا منبراً لإيصال صوت المقاومة وحقيقتها للعالم أجمع، وبذلك تحولت مقاومة كوباني الى مقاومة الشعوب ضد الارهاب ومقاومة الانسانية ضد اللانسانية وأثبتت للشعوب قدرتها واعادة ثقتها بنفسها لتحقيق أهدافها في الحرية والديمقراطية وخصوصاً في باكور كردستان وكانت الجهة الأكثر تأثيراً وتأثراً بمقاومة كوباني، لهذا ما خلقته من واقع وخصوصاً أن الجهة التي كانت تدعم الإرهابين ضد روج آفا عموماً وضد كوباني خصوصاً كانت حكومة AKP حكومة حزب العدالة والتنمية التركية، فعندما نجحت تلك المقاومة في صد هجمات داعش، أدى إلى فشل حكومة العدالة والتنمية الأردوغانية. إن فشل الذهنية التسلطية والتي يمثلها داعش والقوى المؤيدة لها من أمثال حكومة أردوغان، أكد نجاح وتطور الفكر المقاوم والوطني الديمقراطي. إن هذه القوة هي قوة شعبنا الكردي في كافة الأجزاء الكردستانية. وفي نفس الوقت تأثرت الشرائح التي كانت تعيش في الوسط مترددة بين الطرفين، وعلى هذا الأساس فأن حملة الانتخابات التي أجريت في السابع من حزيران باكور كردستان وتركيا تأثرت بتلك المقاومة وأستمدت قوة ودفعاً للحملة الانتخابية، لأنها اعتمدت على روح المقاومة وأن العلاقة هي علاقة تأثر متبادلة بين باكور وروج آفا.
إن مفهوم ادارة المجتمع ادارة ديمقراطية مفهوم بعيد عن نزعة الهيمنة التسلطية، ولا يمكن تحقيق ادارة ديمقراطية اعتماداً على بعض القوانين والدساتير فحسب، بل هو موضوع ذهني وفكري وثقافي.

زر الذهاب إلى الأعلى