دراسات

حل الأمة الديمقراطية في الأزمة السورية

سيهانوك ديبو

ملخص تنفيذي

لمئات من سنين منقضية؛ لم يستطع ابن الشرق الأوسط (بلاد الميزوبوتاميا والهلال الخصيب) أن يكون وارثاً أميناً للتركة الحضارية الهائلة التي يمتلكها (الاستقرار الزراعي الأول، ظهور الأبجديات، ظهور أول شرائع ناظمة للحياة المدنية المجتمعية، ظهور ظاهرة الأديان، بزوغ النماذج الحضارية الأولى؛ وما أكثرها… وغيرها من علائم الحضارة الديمقراطية أو بمظهر مؤسس لها).

مع النتيجة بأن الفترة الزمنية من المئوية الأخيرة كانت أكثرها ظُلمة وسواداً على الشرق الأوسط حتى اللحظة، وأنه بمجرد قبول المُقَدَّر له من أقطار وجغرافيات مستحدثة وتكييفه للهوية المفروضة عليه أدى إلى منحيين مختلفين.

أولاهما؛ إفراغ مؤامرة سايكس بيكو عليه من خلال قبولها أو الممشى على أيقاع تفاصيلها –فيما بعد- وعلى هَدْيِّ أنظمة الاستبداد اللازم للمحافظة على هذه الأمصار المتقطعة، وثانيها؛ المساهمة في خلق وقائع مجتمعية مبتورة تظهر هذه الأيام في أسوأ حالاتها كبؤر عنف وتدمير وعداء ما بين سكان الجغرافية الواحدة وليس كبواتق مجتمعية.

وإذا ما تم استثناء النهوض الفعلي المؤدى إليه اليوم في نظرية الأمة الديمقراطية لفيلسوفها عبدالله أوجلان وبعض الحالات –قبل هذه النظرية وبعدها- الإفرادية المُبْرَزة المتناثرة هنا وهناك على أديم شرق أوسطنا؛ فإن عناوين اليوم التي تصلح أن تكون عليه القرن العشرين بشرقه الأوسطي حتى اللحظة؛ اللا أمن واللا استقرار أو التخلف والفقر.

لن نخسر أكثر مما خسرنا لو نعترف بأن صوت سَوْطِ الجلاديَن لم يسمع سواهما في المئوية الأخيرة؛ سوط الأنظمة العالمية كانت تجلد الأنظمة المحلية والأخيرة كانت تتحول وفق تلك السياط إلى مستبد يجلد شعوبها، وشعوبها بقدر امتلاكها لوعيٍّ مجتمعي على اعتبارها صاحب تركة حضارية كبيرة؛ فإنها لم تستطع التأسيس لوعي مشخص لماهيات المشكلة وماهية الحل الديمقراطي.

البداية في الديمقراطية

يكون في أسوأ حالاته هذه الأيام من قال ذات نشوة حداثة لا يمقراطية بأنها نهاية التاريخ، وأن ربطَ تحرك التاريخ ووقفه عند موقف معين؛ أثبتت الأيام بأنه عقدة أو توقف جبري وبأنه قد يصلح في مكان وزمان معينين ولا يمكن له أن يكون الصالح في مكان آخر كما حال الشرق الأوسط.

ربما العكس تماماً بأن بداية التاريخ تبتدأ في الديمقراطية الجذرية؛ طالما ابتدأ التاريخ بهذا النوع والتعريف الصحيح والأخير للديمقراطية، أي ديمقراطية القبول، أي قبول الجميع للجميع وقبول الجميع للأفراد وقبول الأفراد للجميع وقبول الأفراد للفرد وقبول الفرد للأفراد وللجميع. وهذا يعني بأنه من الضرورة أن لا نفكر مجرد التفكير بلجم التاريخ؛ سيكون في أحسن حالاته تفكيراً سطحياً ويلفظه التاريخ كما حال اليوم من ظهور قوي محتمل لظاهرة العودة إلى الوطنية.

إذا كان من اصرار لنهاية مناسبة للتاريخ فيكون كل شبر من سطح البيضوية الأرضية ديمقراطية ومحررة من الاستبداد المتضمن بدوره الإرهاب، والأخير أعلى مراحل الاستبداد وناتج بل مولود مركزية الدولة حين نكوم أمام مسخ الدين أم مسخ القومية أم مسخ مزيجهما أو تجزئتاهما الأدنى كما حال القوموديني، وكما حال الطائفي القومي. الاستمرار بالاستبداد سيؤدي إلى انشطار أصعب ومعقد بشكل كبير كما حال المرجح ظهوره المناطقي الطائفي؛ كما الحال في الأزمة السورية أو حرب الاستبداديات الشرق أوسطية على الجغرافية بكل من يدعمها خارج الشرق. وهذه الحرب في أغلبها وجدت ممثلين لها مع الاحتمال الأقوى أن تكون تركيا المرجحة الأقوى فتكون الأكثر تجسيداً في تجسيم الحرب الكونية الثالثة؛ ربما المقننة حتى لحظة انتهائها؛ وأن تنتقل بعد تركيا إلى دولاً تشهد بأن وضعها السياسوي يشكل آخر الانسدادات بما تشهده من حجز مجتمعي وتقسيم في البنية المجتمعية المترهلة.

المشكلة في سوريا بأن حل أزمتها البنيوية؛ معرفيُّ المدخل والمتن والمخرج؛ معرفية الكيفية التي خلقت فيها سوريا وأن استغراق هذه الكيفية أخذت من الوقت ثمان وعشرين عاماً من عام 1919 وإعلان المملكة السورية من خمسة دول؛ كُتِبَتْ أن تكون دول كما كتب لسوريا أن تكون دولة من جمعها بعد جعل لبنان دولة بحد ذاتها في العام 1947، أما الأخرى دولة حلب ودولة دمشق ودولة العلويين ودولة الدروز مع الحكم الذاتي في لواء اسكندرون الذي تم التضحية به إلى تركيا من قبل الانتداب الفرنسي، أما الجزيرة (الحسكة والرقة ودير الزور بحدودها الإدارية اليوم) فكانت خارج هذه الدول وتم إلحاقها فيما بعد بدولة حلب؛ ومن ثم إلى سوريا 1937.

هذه المعرفة خلقت معرفة مضادة عند عموم السوريين بتصنيفاتهم القلقة هذه اللحظات من معارضة أو نظام والسباحة الدائمة العكسية ما بينهما؛ يرجع ذلك إلى سبب الاستبداد والسلطة المركزية وما لزمها في توطيد أركاناتها أمام أي مشروع نهضوي تؤدي بسوريا أن تمثل جميع مكوناتها وفسيفسائها.

أما الحراك الثوري السوري فقد نجح في مهمة كشف القلقين؛ قلق المكونات من بعضها البعض، والقلق من التغيير الديمقراطي بما تشهد من كميّة غير معقولة من الوصاية الممارسة والاستعلاء الممارس والتقسيم المتحصل بين السوريين أنفسهم وضمن كل مكون على حدا؛ يعني المرحلة الدنيا من التفتيت. وديمقراطية القبول أو الديمقراطية الجذرية من خلالها يبدأ التجميع واللملمة ومن بعد إظهار القضايا الكلية التي تضمن الانتقال إلى التغيير مع كليّات المجتمعية الأمن والاستقرار والتنمية. وهذا يحدث عن طريق التعاقد السوري على عقدهم الديمقراطي بصيغة الاتحادية الديمقراطية.

التناقض الأساسي لا التناقض الرئيسي

التناقض الفرعي لا التناقض الثانوي

ولأن مسألة التغيير الديمقراطي هي أصعب المسائل التي تعترض مسير البشر؛ فإن التأكيد بأن أصل المشكلة هي معرفية مراتٍ عديدة هو فعل أخلاقي صائب، وما يؤكد أخلاقيته وصوابه متعلق بأن التشخيص السليم للأزمة/ ات يفضي إلى حلول سليمة للمشكلة وفق أدوات خاصة لإزالة المشكلة، والعكس بالعكس؛ في أن التشخيصات الرديئة السطحية للأزمة تؤدي إلى تعميق الأزمة واستفحالها ومن ثم القبول بالتناقض الأس والأساسي مرة أخرى من بعد إظهار منحى عملي وعملياتي على معارضته وعدم قبوله.

أغلبية المعارضة السورية رأت في النظام على أنه التناقض الرئيس وعليه فإن التحالف مع التناقض الفرعي لإسقاطه هو الحل؛ ليجد نفسه مع الوقت بأن التناقض الأساسي هي الجماعات المسلحة المرتبطة فكراً وتنظيماً بالقاعدة (داعش- النصرة/ جفش- مئات الكتائب المسلحة) وأنه لا بد من قبول أهون الشريّن وهو بحسبهم اليوم متمثل بالنظام.

على خلاف متين مع هذه الرؤية الكلاسيكية السائبة الرخوة والتي تبدو أشبه بالتبريرية وبتبرير جميع أنواع الفشل؛ القديمة والحديثة التي منيت بها المعارضة.

وحينما رأت حركة المجتمع الديمقراطي وحزب الاتحاد الديمقراطيPYD في أن الخط الثالث هو الحل وأن التغيير لا يمكن أن يأتي عن طريق استبدال نظام بنظام آخر وأشخاص بأشخاص آخرين؛ إنما التغيير هي مسألة خاصة بنفسها تتعلق بتغيير الكينونات والزمر والأسانيد التي ظهرت من خلالها النظام (تناقض رئيسي) ومكنته كي يبقى أكثر؛ جمعٌ من الجماعات المعارضة التي لم تختلف مع النظام إلا شكلياً والاحتفاظ بدرجة كبيرة من الأصول.

لسنا مع النظام؛ لا يحتاج الكثير من العناء في اثبات ذلك؛ على العكس حينما يتم طرح نموذج الفيدرالية الديمقراطية/ الإدارات الذاتية الديمقراطية؛ يعني ذلك؛ معارضة قصوى لمركزيته الاستبدادية والنضال لأجل نظام سياسي لا مركزي ديمقراطي. بكل ما تحتويه هذه الشكلية من معرفية مناهضة للمركزية وللنظام المركزي الاستبدادي وإنهاء مرتكزاته.

كما أننا لم نكن مع المعارضة السلطوية/ الائتلاف ومن على شاكلتها/ بالرغم من محاولات فتح أقنية للاتفاق على الحد الأدنى من القواسم المشتركة؛ لكنها باءت بالفشل، وبالأحرى لم نستطع اقناع الأنفس بأن المحسوبة على المعارضة هي المعارضة الفعلية للنظام وإنما أجزاء مقطوعة منه تصلح كي تكون أجزاء مكمّلة له في مرحلة لاحقة كما (حكاية أو سردية) الحكومة الموسعة، والأخيرة قد تكون مفيدة في وضع الاستتباب العام لأي بلد ينحو إلى خطوات ديمقراطية وتكون مجرد تجميل لما نعانيه كسوريين اليوم.

كما أن التناقض الفرعي (التنظيمات المتطرفة) على وشيجة عضوية بالتناقض الرئيسي (الأنظمة الاستبدادية)، والأزمة أو الحرب السورية أظهرت العلاقة المحكمة بينهما، كما أظهرت بتزاوج بينهما –امكانية التزاوج وتجديده مُتاحٌ دائماً- ودائماً يكون المولود مسخاً هو التدرج الأخير من التفتيت العُقَدي أي المتحصل ما بين القوموية والطائفية. بينما يرى الخط الثالث؛ بأن إحدى نتائج المئوية المنصرمة؛ كل نظام مركزي في الشرق الأوسط يلزمه بالضرورة أحد التقوقعين:

القومي أو الديني أو كلاهما القوموديني أو القوموطائفي، وأن القومية والدين والثقافات والطوائف والمذاهب تؤدي وظائف مجتمعية فيما لو عاشت سوية؛ مع بعضها؛ دون تشكيك ودون جزية كما حالة القائمين على الأديان، ودون وصاية ودون استعلاء كما حال القوموية والفاشية القومية منها وبكل أحزابها التي تتحول إلى قاتل للغير ومبيد لكل مختلف له بخاصة حينما يقبض على السلطة؛ فكيف إذا كانت سلطة مركزية.

الشرق الأوسط وبعد مئة عام من خرائط سايكس بيكو وبعد نصف قرن من الأنظمة المركزية أثبتت فشلها، والبديل الثوري لهذه الطوارئ من الوقائع المستبدة هو بديل الأمة الديمقراطية بكل معتقداتها وإرثها وأديانها وبكل قومياتها، وكلها ثقافات تتحول إلى وارث شرعي للتركة الحضارية في الشرق وبتأثير قويم في كل الجهات وفق مفهوم الأمة الديمقراطية. الأمة التي تقبل فيها الجميع للجميع وبدور تكاملي وتتامي للجميع وبأدوار تحقق الأمن والاستقرار والتنمية المجتمعية على الجميع.

نتيجة

في الحقيقة وبإيجاز شديد نستطيع القول بأنه طُرِحَ قُدّام الشرق الأوسط ثلاث أفْخُخٍ (القومي، الديني، مزيجهما العقدي) سرعان ما تنفجر حينما تجد هذه الطرق من يتخذها مسلكاً أو ممشى يتهيأ لمتخذيها بأنها طرقٌ معرفية سياسية سوسيوثقافية؛ ويبقى الحل القويم؛ الحل الديمقراطي الذي ينتظره الشرق الأوسط بخصوصه على أنه ثقافات متكاملة؛ وأن هذه الثقافات تتألف من قوميات وأديان ومعتقدات متتامة وللجميع حق ممارسة جميع الشعائر بشكل يُكامل كَنه العقد الاجتماعي لها ولا يخالفه في الوقت نفسه.

وهذا ما يُمِكِّننا القول بأن العلمانية الديمقراطية التي تمتاز بها الأمة الديمقراطية تؤكد خصوصية الشرق ويؤكد حقه في انتاج علمانية خاصة به ومغايرة للفهم الخاطئ والمعكوف للعلمانيات الأخرى، وربما تصحيح ثوري لتلك العلمانيات وإعادة أمور العلمانية إلى نصابها.

وهذا يعني بالضرورة بأن الباب المفتوح هذه اللحظات بقوة لخروج نموذج الدولتية القومية؛ خروجاً ما بعده قدوم يؤكد بأن خرائط سايكس بيكو لم تلبي إرادة شعوب هذا الشرق بل عادته على الدوام؛ ولأنه كذلك؛ فالظروف تؤكد على ضرورة مغادرتها أيضاً وتحوُّلِها إلى ذاكرة سوداء تفيد الرجوع إليها حين المآزق والمطبات؛ فلن تكن سوى فزّاعة الشرق الأوسط. وثورة 19 تموز 2012 تكاد تشبه إلى حد كبير الثورات التي اعطف معها التاريخ ومن المرجح أن تترك الأثر الذي يزول نظراً بأن الطغاة مختلفون ومتوحدون في إفشال هذه الثورة والتي تعتبر مصالحة مع الذات الشرقية أولاً وثانياً إعادة التصالح والتفاعل مع الغرب ثانياً وثالثاً بمثابة إعادة رسم تاريخ المستقبل وهذا في اعتقادنا هو الأهم. وهو الحل الأمثل للأزمة السورية كدولة وطنية اتحادية ديمقراطية.

زر الذهاب إلى الأعلى