مقالات

“جمهورية سوريا الديمقراطية”

لماذا لانكسر القوالب الصنعية ونتحدث عن تجربة جديدة اسمها سوريا الديمقراطية بعد أن فشلت تجربة الجمهورية العربية السورية كنظام حكم دام مّا يقارب سبعة عقودٍ من الزمن وفي وقت طال فيه الحديث حول مفهوم الجمهورية كنظام سياسي يشارك فيه الشعب برسم مستقبل بلادهم. كذلك عن مصطلح سوريا سياسياً وتاريخاً وجغرافياً، وعن الديمقراطية تاريخياً نظرية وممارسة.

لكن البحث في هذه القضايا البنيوية الثلاث في ظل الأزمة الراهنة التي تعيشها الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة، ليس بالأمر اليسير في ظل الضخ الإعلامي الضخم لخطابٍ لطالما كان السبب في إثارة الأزمات والصراعات خاصة في الشرق الأوسط وفي ظل امتداد جذور الحداثة الرأسمالية بكل جوانبها وآلياتها إلى عمق المجتمعات.

لنبدأ من المصطلح أو المفهوم الثالث كونه المدخل الأساسي لفهم معنى الجمهورية على حقيقتها ولتكون لدينا نظرة أولية شاملة حول طبيعة الحل الممكن لسوريا المستقبل.

 حقيقة لم تكن بداية الديمقراطية ونشأتها كنظام اجتماعي وسياسي مع بداية الحداثة الأوروبية كما تحاول أوروبا انعكاسها على حداثتها فالميول الديمقراطية متأصلة في طبيعة المجتمعات منذ أزل التاريخ الإنساني وحتى وقتنا الراهن، وهي مرتبطة بظاهرة المبادرة والإدارة والتعايش المجتمعي، والحالة الاجتماعية العامة، المثال الأبرز يمكن ملاحظته من خلال حالة التعايش والتعاضد في المجتمعات الريفية الزراعية كذلك خلال المراحل المبكرة للمدينة قبل أن تتحول إلى قاعدة أساسية من قواعد نشأة الرأسمالية، وبالتالي قاعدة لتنامي السلطة.

الجدير بالذكر إن الجغرافية التي شهدت الديمقراطية المبكرة هي التي تشهد الأزمات والصراعات الأعنف في التاريخ المعاصر” منطقة الثورة الزراعية الأولى”  والقرى والمدن السومرية الأولى في التاريخ والتي منها انطلقت التجربة الإنسانية في الإدارة والحكم إلى باقي أصقاع العالم، لكن ما أن توسعت نفوذ القوى الفردانية والمتمثلة بالثلاثي السلطوي (التاجر المخادع- والعسكري المتغطرس- ورجل الدين المخاتل) حتى بدأت تتقلص المؤسسات الديمقراطية وتضمحل شيئاً فشيئاً بدءً من المرأة كمؤسسة إدارية خلاقة وحتى المجتمع الذي طوعه كعبيد للسلطة التي حكمت بداية باسم الإله، وتضخمت هذه المؤسسة السلطوية مع التوجه العام صوب المركزية البشعة، ليصبح الريف والمدنية والدولة بما فيها من مؤسسات خاصة لسطوة فرد أو جماعة احتكرت السلطة لنفسها مدافعة عنها بكل شراسة لدرجة لم تنجح الثورات الأوروبية على سبيل المثال في القرن الثامن عشر م “الثورة الفرنسية 1789” من أن تحقق شعاراتها في الحرية والديمقراطية والقضاء على السلطة الملكية المطلقة  بعد أن صُودِرت الثورة من قبل  القوى البرجوازية الصاعدة لتتحول فرنسا فيما بعد إلى دكتاتورية برجوازية قوموية تعمل من أجل مصلحة تلك القوى الحاكمة فقط.

ومع فشل كل الثورات في أوروبا في تحقيق أهدافها على المدى الطويل بدأت ظاهرة الدولة القومية كركيزة أساسية للحداثة الرأسمالية تطفو على السطح فتكاثرت نماذج الدولة القوموية لتسيطر النخب الأوليغارشية التقليدية على السلطة وبذلك لم تكن للبرلمانات المحدثة أي دور في إدارة الدولة، لكن على الرغم من ذلك فقد حافظت الطبقة الشعبية (مؤسسات المجتمع البنيوية) في الحفاظ على قيمها الديمقراطية ومع التطور الفكري بشكل خاص والدعم المحدود للقوى الليبرالية فقد حافظت أوروبا على نسبة معينة من الديمقراطية.

 من هنا يمكن القول بأن سوريا الملكية والتي قامت على انقاض السلطنة العثمانية البالية والتي انحسرت بدورها ضمن إطار سياسي قوموي سميت بالجمهورية التركية فيما بعد، كانت بصبغة بريطانية مع حليفها الشريف حسين وابنه فيصل في فرض نموذجها الملكي البرلماني على جغرافية حددت لفيصل في أن يكون ملكاً عليها ضمن الحصة البريطانية في أراضي السلطنة العثمانية.

وبالرغم من عمليات التحديث خلال فترة الانتداب الفرنسي لكن بناء سوريا الدولة على أرضية بيروقراطية  ساهمت في التوجه نحو المركزية القوموية.

بالطبع كانت للدولة المنتدبة (المحتلة) حصة كبيرة في هذه التكوينة، فيما بعد قامت النخب البرجوازية إلى جانب بقايا الأقطاع المعمر بتنظيم نفسها داخل الدولة لتتحول الجغرافية التي حددت باسم سوريا إلى دولة قومية مركزية تحت مسمى الجمهورية العربية السورية.

وبالرغم من حالة التحول القصيرة نحو الدمقرطة لكن لم تكن بمقدور النخبة التي أدارت البلاد وحكمتها لفترة جد قصيرة من الصمود أمام الموجة القوموية التي تمكنت بشتى الوسائل من السيطرة على مقاليد الحكم وتوجهت بوجهها نحو إعلان دكتاتوريتها تحت عناوين وشعارات مختلفة هكذا فإن الكثير من الجمعيات والأحزاب السياسية المتمأسسة بالتمحور حول الدولة العلنية منها والسرية وبشتى توجهاتها غدت لا تتمالك نفسها من عيش وإحياء التأثيرات المؤسساتية والأيديولوجية للدكتاتورية.

 لذا فقد عجزت الديمقراطية عن التطور في سوريا الجمهورية العربية نظريةً وإدارةً وخصوصاً عند اسقاطها على القاعدة التي تنص على أن الشعب هو من يحكم نفسه بنفسه، وبهذا فأن النظام أشاد نفسه سياسياً وايديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً بمنوال متماسك ومنغلق جاهداً بذلك في تعزيز ذاته حتى راهننا.

لكن علينا أن لا نغفل البنية المجتمعية والكفاحات الشعبية المتنامية والممتدة بجذورها في عمق الأرض السورية والتي تنامت ارتباطاً بقضايا عدة كالطابع المنغلق للنظام، وبسبب الأيديولوجيات المتزمتة القوموية والدينوية، ساد العجز في صياغة تعريفٍ سليم للأزمة الراهنة حتى في ميدان النقاش ولم يستطع  حتى القانون الدولي تخطي نطاق قانون الدولة، ولم تتح بتاتاً الفرصة لنقاش حقوق الفرد والمكونات، وبهذا لم يحدث أي تصدع في الدستور الفولاذي (دستور الجمهورية العربية السورية) بالطبع الثورة والمقاومة في الشمال اختلف بطابعها وبمقوماتها عن الحراك الذي شهدته سوريا والمنطقة عموماً كحقيقة منتصبة أمام أعيننا.

 حيث عرفت هذه الثورة عن نفسها كحالة ثورية مجتمعية متمردة إن جاز التعبير على تلك السياسيات والقوانين ووصلت إلى يومنا الراهن بتحقيقها مكاسب مجتمعية وعلى جميع الأصعدة وبالتالي كانت مفاهيمها مرتبطة بجذور المجتمعات وأدت دوراً عظيماً في كشف النقاب عن قضايا الديمقراطية، وفي السعي لإيصالها إلى أنها الحل الوحيد.

لأول مرةً تزداد فرص الحل الديمقراطي داخل المشهد السياسي في سوريا ونظراً لانفتاح القوى الثورية السياسية والمجتمعية على الحلول الديمقراطية بناءً على ما تم تحقيقه فأن ذلك سيسهم كثيراً في المرحلة الراهنة والتي نقترب فيها من كسر الجدران الفولاذية للدولة القوموية، خاصة مع فشل المنظومة الدينوية السلطوية والتي كانت تسعى لإحاطة الدولة القومية بجدران فولاذي آخر.

من هنا؛ فأن الفرصة مواتية لرسم خارطة حل ديمقراطي وذلك عبر دستور مدني جديد مبني على التوافق الاجتماعي واعتباره الشرط الأساسي

 اللازم للحل.

 بطبيعة الحال هذا الدستور سيكون مبيناً على الحريات والحقوق الفردية والاجتماعية وسيدرج الماهية الديمقراطية والاجتماعية والعلمانية والقانونية للجمهورية السورية حيز التنفيذ وستكون الضامنة الأساسية وهنا لن نكون بحاجة إلى ضامنين خارجين عن الجغرافية السورية على الأقل.

كذلك فأن القضية الكردية كإحدى أهم القضايا ستُدرَج على طريق الحل ضمن هذا الإطار الدستوري، وبالتالي فأن تخلص الجمهورية العربية السورية من ردائها القوموي وحصول معظم المكونات المجتمعية على الأرض السورية على حقوقهم في وحدة دستورية شاملة ستكوّن تكاملاً ديمقراطياً حقيقاً، وستعزز وترسخ دور الكُرد وبقية المكونات الذين لعبو دوراً هاماً كمؤسسين لسوريا الجمهورية، وبالتالي سنتخلص من خسائر الأرواح والمال التي تكبدها سوريا في الوقت الراهن.

زر الذهاب إلى الأعلى