مقالات

ثورة روج آفا و واقعية الخط الثالث

فايقصورة عمر

عندما اندلعت الثورة في سوريا، في منتصف آذار 2011، كان لا بد أن تتوجه الأنظار إلى الشعب الكردي، سيما وأنه ظل ردحاً من الزمن، يطالب بحقوقه المشروعة في إطار الدولة السورية، هذه الحقوق التي سلبها النظام البعثي عبرممارساته وسياساته القومية الالغائية والتعسفية .

لكن المفاجأة كانت هي أن الكرد قادوا في مناطق تواجدهم وكثافتهم، بما يمكن تسميته بالثورة داخل الثورة بعد ان فقدت الثورة في المناطق الاخرى من سوريا قيمها. و قد أثارت هذه الخطوة حفيظة البعض من قوى المعارضة السورية، وكذلك الدول الإقليمية والدولية، ولا تزال هذه الحفيظة سبباً وراء الهجمات التي تتعرض لها المناطق الكردية، إن ما قام به الكرد لم يأت من فراغ، أو عن رغبة من الكرد في نقل خصوصيتهم القومية والثقافية إلى ميدان الثورة، إن جاز القول، لكن فرضتها الوقائع على الأرض، وجملة من التغييرات والمستجدات التي طرأت، بعد أشهر قلائل من اندلاع الثورة السورية، حيث بدأت تظهر مؤشرات على انحراف الثورة عن مسارها السلمي الديمقراطي، وأهدافها التي جسدتها الشعارات الأولى التي كانت تطالب بالحرية والكرامة، وما شابه ذلك، وطفت على السطح علامات العسكرة والطائفية.

أمام هذه التحولات التي طرأت على الثورة السورية، وما أفرزته من تجاذبات داخلية وإقليمية ودولية، وزوال كل الاحتمالات في إمكانية أن تحافظ الثورة على سلميتها، لم يجد حزب الاتحاد الديمقراطي PYD صاحب القاعدة الشعبية والجماهيرية الأوسع في غرب كردستان، من وسيلة لإبقاء الكرد بمنأى عن هذه الحالة الجديدة، إلا بالإعلان عن سياسة “الخط الثالث”، أو الخط السلمي الديمقراطي، ليس بهدف تحييد الكرد عن الثورة، كما لا يزال يتصور أعداؤه والمتربصون بتجربته، بل أملاً في إعطاء دفع للمساعي السلمية، والحفاظ على علاقات الأخوة والعيش المشترك، على الأقل في المناطق الكردية، حيث التنوع العرقي والديني والثقافي، إن لم ذلك ممكناً في بقية المناطق السورية في الوقت الراهن.

رفع ثورة روج آفا الشعار السلمي الديمقراطي، في وقت كان فيه الجميع يقرع طبول الحرب، ويحاول بشكل مباشر أو غير مباشر، وبشتى الوسائل تحويل مسار الثورة السورية إلى مستنقع العسكرة والطائفية، كان من الطبيعي أن يلقى معارضة شديدة، من قوى وأطراف في المعارضة السورية، وكذلك من الدول الإقليمية والدولية، وخاصة تلك التي أرادت دفن طموحات الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، خدمة لأهدافها ومصالحها. لذا فإن تلك القوى والدول وضعت على رأس قائمة أولوياتها النيل من ثورة روج آفا وإفشالها، وسخّرت لتحقيق هذا الغرض جميع إمكانياتها، العسكرية والسياسية والإعلامية، فكان في البداية حملة تخوين للكرد وتشويه ثورتهم عبر اساليب عديدة ، ثم أعقب ذلك مباشرة فرض الحصار على المناطق

الكردية، ونقل المعارك إليها، في البداية عن طريق بعض الفصائل في الجيش السوري الحر، وفي وقت لاحق، عبر استخدام المجموعات الإرهابية كداعش وأخواتها. وبالطبع محاولات النيل من ثورة روج آفا، والتجربة الديمقراطية الوليدة فيها، والمتمثلة بالإدارة الذاتية، لا تزال مستمرة وباستخدام جميع الوسائل الآنفة الذكر. وفي هذا تدليل على قوة ومتانة القاعدة التي انطلقت منها ثورة روج آفا، هذه الثورة التي استطاعت طيلة ثلاثة أعوام، ليس فقط الصمود أمام هذه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها، بل أيضاً في أنها تمكنت في الوقت نفسه من تحقيق مكاسب كبيرة على كافة الأصعدة، وبات يشار إلى الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي هي أحد نتاجات هذه الثورة، بأنها النموذج الأمثل لضمان حقوق كافة الشعوب السورية، بل وأيضاً النموذج الأنسب للخروج من الأزمة السورية الراهنة.

الآن وقد مرت ثلاثة أعوام على ثورة روج آفا، التي انطلقت شرارتها الأولى من مدينة كوباني في 19 من تموز 2012، يمكن رؤية صوابية النهج الذي سارت عليه هذه الثورة، بالنظر إلى الإنجازات الكبيرة التي حققتها على كافة المستويات، وتحقيقها تغييرات جذرية في بنية المجتمع الكردي، يمكن ملاحظتها في الدور الكبير الذي تنهض به المرأة الكردية في الثورة، سواء في الميدان العسكري، الذي تبلي فيه بلاء حسناً، وأضحت فيه مضرباً للمثل، أو في بقية الميادين الإدارية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها. وبالطبع عند الحديث عن المكاسب التي تحققت في ظل ثورة روج آفا، لا بد من التذكر بالمنظومة العسكرية والدفاعية المتمثلة بوحدات حماية الشعب والمرأة. هذه القوة التي تمكنت من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة على أعتى الأنظمة الإرهابية، وهو ما عجزت عنه دول كالعراق مثلاً، إلى أن أصبحت محل إشادة وإعجاب من القوى الدولية الكبرى، وفرضت عليها التحالف والتعاون الثنائي في مجال مكافحة داعش. هذا في مقابل تمدد الجماعات الإرهابية على بقية التراب السوري، والكم الهائل من الدمار والخراب الذي لحق بالبلد، والمزيد من تشرذم وتشتت صفوف وقوى المعارضة السورية، وكل ذلك مع غياب أي رؤية واضحة ومعقولة لحل الأزمة السورية، سواء من قبل النظام أو المعارضة، والأسوء من كل ذلك، وجود مؤشرات على إمكانية بروز سيناريوهات أسوء وأكثر كارثية. إذاً، ثورة روج آفا لم تكن ثورة من أجل تحييد الكرد عن الثورة السورية، بل إنها ثورة انطلقت من أسس صحيحة وسليمة، ومن رؤية استشرافية لمسار الثورة السورية وقراءة دقيقة للواقع والمعطيات التي برزت مع انطلاقتها، هي ثورة للدفاع عن جميع المكونات السورية دون أي تفرقة أو تمييز، لا تقبل بغير سوريا ديمقراطية تعددية تتحقق فيها المساواة بين جميع مكوناتها، وهي ثورة كانت ولا تزال حرية الشعب وكرامته هو همها الأول والأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى