مقالات

المثقف الكردي دوره في توعية مجتمعه، والدفاع عن قضايا أمته.

xales-mesurإن كلمة (Culture) أي الثقافة باللغة اللاتينية، مقتبسة معناها من الحراثة وكسر الأرض البور، وتهيئتها لأستقبال بذورزراعات تفيد الناس والمجتمع، ومثلها تكسير جاهلية الإنسان الجاهل، وتهيئته لأستقبال أنوار العلم ومشكاته. بينما نقول من جانبنا: يقول سارتر: إن مهمة المثقف مواجهة تحديات أمته. بينما نقول من جانبنا: بأن المثقفين بالإضافة إلى هذا وذاك، فهم ضمائر أممهم وعناوين تغييرها ونهضتها، ومقاييس حضارتها وتقدمها، والروافع لرسالتها بين الأمم والأوطان الأخرى.

أما كلمة الثقافة العربية فهي مقتبسة من تثقيف الرمح أي تسويته وإزالة اعوجاجه، وجعله مستقيماً صالحاً للطعان والنزال. معنى هذا ان المثقف إنسان شرح الله صدره وأضاءه بنور العلم، وقومت اعوجاجات أفكاره وسلوكه، وأزيلت الزوايا المعتمة في أذهانه، من خلال معاناة ورحلة طويلة مضينه بين ضفاف أنهر الثقافة وقيعانها، ناهلاً من ذخائرها النفيسة ومن رحيق عصارة أزهارها الفواحة، ليزداد عقله ألقاً يبدد به ظلام الجهل والتخلف، الذي ران على مجتمعه والذي هو بأمس الحاجة إلى خلاصة أفكاره النيرة وما يحمله من علم ومعرفة، ولذلك يسمى المثقفون عادة بالمتنورين أي أنهم مصابيح يشعون وسط دياجير وظلام الجهل والتخلف، فهم الذين يخلقون حالة من الحركية والنشاط، ويحاربون الركود والجهل والتخلف في مجتمعاتهم ويبعدون عنها الجمود والاغتراب والانهزامية ويكونوا منفتحين ولا يغلقون أبوابهم ونوافذهم أمام المستجدات الثقافية ويتفاعلون مع الثقافات الأخرى. ويعملون على تحقيق مطالب امتهم والذود عن كرامتها وحريتها بكل ما أوتوا من ثقافة وعلم. ‏

أي هناك ما نلمسه -على الدوام- هو وجود علاقة جدلية بين العلمي والوعي، إذ كلما أزداد المرء علماً، كلما أزداد وعياً، ونآى بنفسه عن المملكة الحيوانية، خائضاً في بحرالإنسانية الزاخر ومثلها الحضاري السائر.

وللثقافة الدور الأهم في تقدم المجتمعات الإنسانية قاطبة، فهي تسهم في صناعة الوعي وتنيرالدروب والعقول وتلعب دور المرشد والناصح الأمين، وتقي المرء من الإنزلاقات والمخاطر وعثرات الأزمان. ولهذا نرى بأن الثقافة الكردية عليها أن تتوجه نحو استلهام التراث، والعقلانية، والإنفتاح، وثقافة التحرير والفكر المقاوم، وعدم السماح لترسيخ ظاهرة الفكرالإغترابي في المجتمعات الكردية، حيث العقلانية تدفع بالمجتمع نحو التطور والإرتقاء والعمل على نشر مثل هذه الثقافة المستنيرة، والقضاء على الفكر الغيبي التواكلي، وتعميق الفكر الإستراتيجي المخطط، وخلق مثقفين نوعيين ومتنورين، قادرين على التعاطي مع المستجدات، على مختلف الصعد وعلى الساحتين الوطنية والإجتماعية بشكل خاص.

والمثقفون الجادون – في العادة – مفرطوا الإحساس بفضل رؤاهم، المستنيرة تجاه قضايا مجتمعاتهم والإنسانية معاً، ويحسون بما لا يحس به غيرهم. ولهذا يتوجب على مثقفي الأمم وخاصة في العالم الثالث وبأخص الخصوص في كردستان الإلتزام بقضايا شعوبهم وأممهم، ومواصلة الجهاد ورفع راية ثقافة التحرير والمقاومة بالقلم والكتابة إن كانت بلادهم واقعة تحت استعمار واحتلال، مساهمة منهم في دعم حركات شعوبهم التحررية حتى نيلها حقوقها المشروعة وإيصالها إلى الحياة الحرة الكريمة، واضعين أقلامهم في خدمة هذا العمل النبيل، ساعين إلى تنوير أذهان الناشئة وتوعيتهم وزرع بذور الأمل، والتفاؤل، والمستقبل في نفوسهم، وأن يصبحوا قوة فاعلة ومؤثرة على الساحتين السياسية والإجتماعية معاً، وأن يكونوا على مستوى المسؤلية الملقاة على عاتقهم، واحتلال مواقعهم في طليعة مجتمعاتهم ويكونوا عيونها الساهرة التي لا تغفل أبداً. وأن يجدوا في أنفسهم القيادة والتنظيم في عملية النضال الوطني التحرري، وتجاوز المواقع الخلفية. ونبذ حالة الإغتراب والمثقف السلبي العاجز، وعدم الرضى بالوقوف موقف المتفرج واللامبالاة تجاه القضايا التي تمس وطنه وشعبه، وكذلك على القضايا الساخنة الجارية على الساحتين الوطنية والعالمية معاً.

وفي اعتقادنا إن المثقف الذي يتعامل بمثل هذه المقاربات السلبية الخاطئة مع قضايا أمته، فلا يقصص عليها إن كان قاصاً، ولا يتغنى بأمجادها إن كان شاعراً، ولا يستثير عواطفها وأحاسيسها إن كان مغنياً . . .الخ. فلن يكون سوى مثقف رديء الصنعة بار (الكارات) سرعان ما يفقد ثقة شعبه به والذي ما يلبث أن ينآى عن نتاجاته وما يكتب، إذ أن لشعبه عليه حقاً، وللسانه عليه حق، ولإنتمائه عليه حق، ولكن لا ينكر أن المثقف، أياً كان لا يستطيع التحرك بما فيه الكفاية دون وجود هوامش من حرية الكتابة، وهذا هو حاله في العالم الثالث عموماً، أما المثقف الكردي – بشكل خاص – إن كان باستطاعته التحرك ولو لخطوة واحدة، فلتكن هذه باتجاه طموحات شعبه وما يريد، وألا يضع نصب عينيه تسلق الأبراج العاجية، وإلا فلن يغفر له أحد- عندئذ- زلته هذه، ومن المفيد أن نشير إلى أن الكثير من الكتاب والباحثين الكرد، قد قطعوا أشواطاً لا بأس بها اليوم نحو ثقافة جادة، ملتزمة ورصينة نوعاً ما، واضعين نتاجاتهم في خدمة قضايا شعوبهم وأممهم، وآخرون – ومما يؤسف له – لا يزالون يكتبون رياء ومفاخرة نتاجات خاوية على عروشها، لا تمت إلى ثقافة التحرير والصمود التي يحتاجها الكرد في هذه المرحلة الحساسة من تاريخهم. علماً بأن مجالات الكتابة في فضاءات الثقافة الكردية رحيبة واسعة، تنتظر من ينبش فيها ويكشف محتواها وكنوزها. فتضم بين ثناياها الكثير من امكانيات الإبداع والبحث والإستقصاء ويمكن منها استخراج الكثير من أحداث وريت، وتواريخ طمست، ولغة لم يستنفدها الشعر والنثر صورها وبلاغتها، ومأثورات شعبية لم يوفها أحد حقها من الدراسة بعد من وحكم وأمثال، وقصص وأساطير، لازالت تحفظ في الصدور وتنتظر من يفتح مغاليقها ليستخلص منها العبر والمآثر، ومفاهيم المجتمع الكردستاني وتاريخه، إلى مثل هذا فليتوجه المثقفون الكرد للبحث والإستقصاء وإجلاء الحقيقة، مهما كانت العوائق والصعاب.

إن بروز ظاهرة المثقف الإنتهازي – السادي، الذي يستخدم ثقافته في سبيل رفع مكانته الإجتماعية وتعويض مركب النقص في شخصيته الموشحة بدثار الخوف والرعب، يعود إلى جذور تاريخية – سياسية موغلة في القدم، وقد أدت هذه الحالة – وبشكل عام إلى تهميش وتأخر ظهور المثقف الكردستاني الجاد، ويالتالي تخلفه عن ركب الالتزام وابتعاده عن ثقافة المقاومة والتحرير. وأعتقد أن الحالة الأخيرة أي ظاهرة المثقف الإنتهازي بدأت تنحصر كثيراً وبخطوات متسارعة، نتيجة لإنتشار الوعي بقضيته وللمستجدات التي حدثت على الساحة الدولية، وهبوب رياح العولمة والإنفتاح، الذي حدث على مستوى العالم ككل.

وتمتلك الثقافة الكردية مقومات استمرارها تاريخياً، مع إرادة ووعي الحفاظ على خصوصيتها تجاه ثقافات الأمم الأخرى، ولكن هذه الإستقلالية النظرية للثقافة الكردية تدفعها الثقافات الإقليمية إلى التفاعل وتبادل التأثير معها، فالخطورة هنا تكمن في عملية التذويب والصهر ضمن ثقافة الأقوى، ولا سيما في حالات تقاعس المثقف المقاوم عن واجباته في البحث والتوعية لمجتمعه، عن طريق أبحاثه وكتاباته لترسيخ ما هو خصوصي ومميز من التراث الكردي في أذهان الناشئة الكردية، حيث يتعرض الفولوكلور الكردي إلى الإمحاء والتهميش  وحتى الإستلاب وخاصة في مجال اللغة الفن وتغيير سيماءاتهما التاريخية، بإدخال قليل من التحريف إليها، حتى تبدو غير كردية.

والمثقف الكردي الجاد، بشكل عام يعاني من ثقل القيود على حريته في التعبير والكتابة عن مشاكله وهمومه، الأمر الذي يؤدي به إلى إقصاء الخصوصي والإعجاب بالثقافات الإقليمية والمعولمة، ولا سيما أن هذا الخصوصي – كما قلنا – لا يزال بحاجة إلى الكثير من البحث والإستقصاء ليصار إلى بلورة مفاهيم تعزز الإنتماء إلى ثقافة وطنية أصيلة، ليست متحفية قارة، أو ماضوية مثقلة بالجمود والتحجر، بل ثقافة مشرعة النوافذ والأبواب على مختلف أنواع الثقافات الإنسانية الأخرى، تهدف إلى تحرير الإنسان الكردي سياسياً واجتماعياً، وترسيخ الوعي الديمقراطي لديه، والتفاعل بمقاربات موضوعية ايجابية مع ثقافات الشعوب الأخرى وخاصة المجاورة منها. فالهوية الثقافية يجب أن ترتبط بواقعنا الإجتماعي الراهن، وأن تعبر بشكل إبداعي أصيل عن حركة هذا الواقع ومفاهيمه، وأن تجسد تطلعات وآمال الشعب وخلق مثقفين ملتزمين بثقافة التحرير، يجدون في أنفسهم صفات القيادة والتضحية ومطلوب أيضاً من (الإنتليجنسيا) الكردية في هذه المرحلة التركيز أكثر على ابراز الجوانب السياسية – التاريخية – اللغوية في كتاباتهم بلغة الأم ونقلها أيضاً وترجمتها إلى لغات الشعوب المجاورة والعالمية كذلك، والعكس صحيح أيضاً، ليتسنى للكرد الإطلاع على ماضيهم فيبنون عليه حاضرهم، ويثبتوا للآخرين خصوصية وتفرد الشعب الكردي وإنه كبقية شعوب العالم يملك إرثاً وتاريخاً مجيدين ولغة يتكلمها (40) مليوناً من الأنفس، حيث الهوية الثقافية للكرد تتعرض اليوم لشتى أنواع الهجوم عليها، هجوم لا ينطلق من محاولات إنكار الثقافة والتراث الكرديين فقط، بل وإنكار كل ما له صلة بالكرد، حتى وصل الأمر بالبعض على إنكار وجوده أيضاً!.

وقد نلمس اليوم شيئاً من النهوض الثقافي، ووجود حالات ابداعية لدى المثقفين الكرد، وهذا يعود برأينا إلى أن الخطاب الثقافي الكردي، قد انفلت من إسار القديم  واجترار الماضي وعما هو مرسوم له سلفاً، أي محاربة النمطية في الفكر والممارسة في ظل عوائق المشروع الثقافي، كوجود الأمية وتعدد اللهجات والقمع الممنهج للثقافة الكردية مثلاً، هذه العوائق كانت في السابق تؤدي إلى إضعاف الدور الفعال للخطاب الثقافي الكردي وتهميشه وهيمنة الثقافة  الاستهلاكية عليه، لكن وبزوال بعض من هذه العوائق انفتح المجال للإقتراب بجدية من قضايا الناس والإلتزام بمستوى راق من المضمون الفكري، وإضافة ماهو جديد، وعدم اجترارماهو موجود. كما يتوجب أن يكتب المثقف في جو من الحرية الثقافية وأن تكون العلاقة بين المبدع و الجمهور علاقة تفاعل إيجابي بناء.

زر الذهاب إلى الأعلى