مقالات

الكابوس الشرق أوسطي

صلاح الدين مسلم

  لقد كان الهجومُ المؤامرتي المدبّر على برجَي التجارة العالميين في نيويورك في 2001 مبادرة لبدء النظام الرأسماليّ بـ”الحرب العالمية الثالثة”، حيث لجأ إلى الإسلام الراديكاليّ القناع الأيديولوجيّ الجاهز، بعد أن أعلن الناتو أنّه العدوّ الجديد، إذْ أنّ السلام يهدّد الحداثة الرأسماليّة دائماً، إذْ أيقنوا أنّ سنوات السلم تجلب معها الانهيار الاقتصاديّ حتماً.

فاستخدمت هذا القناع الإيديولوجيّ وضخّمت من حجم طالبان وبن لادن المصنوع من قبل المركز العالمي للحداثة الرأسماليّة، وبالغت في تصويره غولاً، مع أنها كانت تستطيع القضاء عليه في أيّة لحظة كانت، لكنّ المنظومة العالميّة لم تقضِ على بن لادن إلّا بعد أن حقّقت مآربها في العراق إثر استهداف الدولة القوميّة التي صنعتها في الشرق المدمى مختبر التجارب للرأسماليّة العالميّة، وما هذه الفقاعة المسخيّة المتجسّدة في داعش إلّا النتيجة النهائيّة لهذا المختبر، وهي دلائل عجز هذه المنظومة في البحث عن حلّ تستطيع فيه أن تصدّر مشاريعها الليبراليّة بهدوء دون أزمات وضرائب، فحلّ الحداثة الرأسمالية وأنظمة الدول القومية تُعتَبَرُ بحدّ ذاتها سبب كلّ تلك المآسي والنكبات الكارثية الكبرى المُعاشة، فقد غدت غير قادرة على إعادة طرح نظامها هذا، والأنظمة التابعة له، واعتبار هذا النظام الحلّ النهائيّ الذي لا حلّ سواه.

لقد أخذت نظرية الفوضى الخلّاقة مساراتها العملية في التطبيق بعدما كانت أميركا تتعامل عالمياً خصوصاً مع المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية الاقتصادية والعسكرية وفق آلية الانقلابات العسكرية والتدخلات العسكرية المباشرة، لضمان أهدافها ومصالحها الحيوية فيها لمنع قيام الأنظمة والسياسات والايديولوجيات التي تعرقل هذه المصالح، وبعد أن وجدت تلك الآليات مكلفة من الناحية العسكرية والاقتصادية والبشرية، ارتأت في الآونة الأخيرة اعتماد عدد من النظريات تكون من خلال اعتمادها القوى المهيمنة عالمياً والمحققة لنظام عالمي جديد بأقل التكاليف وبأقصر الطرق وأبسطها. ومن دون التدخل العسكري المباشر من جانبها، ومنها نظرية (الفوضى الخلاقة(

إنّ سيناريوهات الأزمات تتكرّر ابتداءً بلبنان وانتهاء بليبيا واليمن وسوريا…؛ عمليّات مفخّخة، سيطرة تنظيم إسلاميّ متطرّف، وصولاً إلى محاربة الإرهاب، فقدان الأمن والأمان، انهيار العملة، تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، تجّار الحروب، الهجرة الداخليّة والخارجيّة، وصولاً إلى الحلّ الغربيّ حيث الدواء الناجع.

إنّ الهدف الرئيسيّ لهذه الحداثة الرأسماليّة هو جعل أصحاب الأرض هم الذين يهدمونها؛ من خلال إشعال الفتن فيما بينهم، وهدم كياناتهم، وخلق حالات التناحر فيما بينهم، وذلك لأنّ الشرق الأوسط موزاييك طائفيّ وعرقيّ ومذهبيّ، ومكان خصب لتطبيق سياسة (فرّقْ تسُد) كي تأتي في النهاية لتبني على طريقتها ما هدمته بنفسها.

لننظر إلى خريطة الاقتتال والصراع في الشرق المدمّى؛ الهندوس والمسلمون، الهند وباكستان، الدماء في كشمير والشيشان، الشيعة والسنّة، السعوديّة وإيران، صراع الكرد مع إيران وسوريا وتركيا والعراق، إسرائيل والعرب السودان، الصومال، ليبيا، تونس، اليمن….. ناهيك عن الأحزاب والتيارات المتصارعة وحملات الإبادة والتصفية والصهر للشعوب كالأرمن والآشوريين والكرد… فكلّ ذلك نتج إثر هيمنة الفكر الغربيّ الاستشراقيّ الذي حاول ترويض الطبيعة الأولى.

واعتباراً من القرن التاسع عشر جعلت الرأسماليّة وعيَ الحقيقة حكراً عليها، واحتكرت العلوم والتطوّرات، ونجحت جميع الأفكار المتولّدة عن الليبرالية، وعلى رأسها القوموية، في الاستيلاء على الذهنيّة الشرقية، بل حتى أنّ التيارات الإسلامويّة الجديدة تصاعدت مستندة على القوالب الاستشراقية والتي تعدّ النسخة المشتقّة من الايديولوجيّة الليبراليّة.

فالنخب السلطوية الاستشراقية، كـتركيا الفتاة وجمعيةِ الاتحاد والترقي على سبيل المثال قد حوّلت قبلة الشعب من مكّة إلى باريس، وكانت الاستشراقيّة الغربيّة وراء نزعة الجمهوريّاتيّة التركيّة، ومع تأسيس الدولة القومية بلغ الفكر الاستشراقيّ أوجه، وبسط احتكاره على الذهنيات الأخرى كافّة، وصارت تستورد الأخلاق الغربيّة التي جعلت الفرد القابع في تركيّا مسخاً لا يعرف أين وجهته، إلى أن صعد تيار الإسلامويّة الاستشراقيّ الهجين عبر أربكان وأخيراً أردوغان الذي وقع في أسر السلطة والمال، ولم يستطع التحرّر من الاستشراقيّة، بل جعل المسخ يزداد مسخاً، من خلال الشكل الإسلاميّ والمضمون العلمانيّ، وزاد عليه أنّه أراد أن يكون محمّد الفاتح الثاني، فيعيد نشر الإمبراطوريّة في مصر المحروسة وبلاد الشام والموصل التي أرادها أن تنضمّ إلى سلطنته في عهده، لكنّ تطلّعات الشعب دائماً كانت إلى فكر يضمن بقاء الفن والفكر محميّين من الاستشراق، وبقاء التعايش السلميّ الذي لا يطيب خاطر الحداثة الرأسمالية إلّا عندما تصعّده.

استطاع الأصوليّون ناهبو الثورة بسهولة -لا مثيل لها- أن يحوّلوا الصراع من صراع بين الشعب والسلطة الغاشمة إلى صراع بين الكرد والعرب على سبيل المثال، وأن يدمجوا ما بين الدين والعروبة بطريقة غريبة وبتركيبة سهلة، فقرّروا أن يهاجموا المدن الكرديّة المسلمة، دون أي مبرر أخلاقيّ دينيّ، مع أن وجودهم يقتضي أن يكونوا متديّنين أخلاقيين بما أنّهم يتحدّثون باسم الرسول الأخلاقيّ.

لكنّ من خلال دراسة الواقع الكرديّ نرى أنّهم الوحيدون بعيدون كلّ البعد عن هذا الكاوس الذي تمرّ به المنطقة من خلال امتهان الخطّ الثالث، وانتهاج الأمّة الديمقراطيّة نبراساً.

زر الذهاب إلى الأعلى